هل يمكن أن تكون مخبرا من أجل وطنك؟

عبد الرحمن يوسف القرضاوي

عبد الرحمن يوسف القرضاوي

يقول لك مخبرون في هيئة إعلاميين (كن مخبرا من أجل وطنك!)

قالها رجل أجلسته الصدف والمقادير في قصر الرئاسة بالحديد والنار، وها هو يطلب من أمة كاملة أن تتحول إلى مجموعة من البصّاصين، لكي يُوَطِّدَ ملكه المنهار لا محالة، ولكي يأمن العقاب مما اقترفت يداه من قتل وتعذيب واغتصاب ونهب للخيرات، ولكي يشرك شعبا كاملا في جرمه فلا يكون هو المجرم الوحيد.

من مآسي هذا الزمن أننا أصبحنا مطالبين بأن نرد على مثل هذا الكلام، وأصبحنا مطالبين أن نثبت للناس أن تحولهم لمخبرين ليس عملا وطنيا البتة.

في الفيلم العظيم (عطر امرأة – (scent of a woman والذي قام ببطولته الممثل الفذ (آل باتشينو)، وقف مدافعا عن رفيق رحلته، الطالب الجامعي المجتهد الفقير الذي وقع في ورطة.

عرض رئيس الجامعة على هذا الطالب فرصة عمره، منحة في جامعة (هارفارد) مقابل أن يشي ببعض زملائه الذين يبدون وكأنهم يستحقون الوشاية، فهم ليسوا فوق الشبهات، وليسوا من الشهامة بحيث تتعاطف معهم !

وحين لم يتعاون هذا الشاب، ولم يقبل بأن يتحول إلى مخبر (من أجل الحفاظ على أخلاق الطلبة وسير العمل في الجامعة، وكل الخزعبلات التي قيلت)، قرر مدير الجامعة أن يوصي بفصل هذا الطالب الفقير المجتهد الذي لا ظهر له.

فوقف (آل باتشينو) يدافع عن الشاب، وقال بمنتهى البساطة لمجلس أمناء الجامعة (هذا الشاب لم يقبل أن يكون مخبرا...!!!.)

ووقف يدافع عن صديقه الشاب، وعيّر مجلس الأمناء بسلوك المدير المشين الذي يحول الطلبة إلى مخبرين، ويكافئ المخبر الذي يشهد ضد زملائه، فماذا كانت النتيجة؟

 لقد حكم مجلس الأمناء ببراءته فورا، لأنه لم يقبل أن يكون مخبرا !

سأواصل افتراضاتي.. وسأواصل التَّسَفُّلَ حتى نصل إلى جواب السؤال الذي يفرضه علينا المخبرون الذين سلطهم علينا إعلام المسيخ الدجال ليل نهار ... هل يمكن أن يكون عمل المواطن (كمخبر) عملا وطنيا؟

 جواب السؤال ببساطة : "لا يمكن أن يكون ذلك عملا وطنيا" !

ومن يطالبك بأن تكون مخبرا من أجل مصر أشبه بمن يطالب امرأة عفيفة بالعمل في الدعارة من أجل مصر، أو بمن يطالب رجلا محترما بالعمل في تجارة المخدرات من أجل مصر !لماذا؟

للأسباب التالية :

السبب الأول: التجسس على الناس عمل يجرمه الدستور المصري (بجميع إصداراته!!!) والقانون المصري طبعا، وتحرمه جميع الشرائع، وتأباه وترفضه الفطر السليمة، وتشمئز منه مروءة أهل الفضل.

ولن يجادلك في ذلك أحد !جميع الدساتير المصرية تحرم ذلك قولا واحدا، وكذلك القوانين والأخلاق !

السبب الثاني: التجسس عمل لا يقوم به (على مدار التاريخ) إلا نوعان من الناس، الأول: نوع منحط، يبيع أغلى وأقرب الناس إليه مقابل حفنة دولارات، أو من أجل أكلة فتة.

الثاني: سياسيون منحطون لا يتورعون أن يصلوا إلى مبتغاهم ولو بسجن أو قتل مخالفيهم بالوشاية.

أتحداك عزيزي القارئ أن تجد نوعا ثالثا من الناس يقبل أن يقوم بهذا العمل الوضيع.

السبب الثالث: لأن عمل المخبر لا يؤدي إلى رفعة الوطن، هل تعرف لماذا؟

 أولا: لأن الغالبية العظمى من هذه الوشايات تكون مجرد بلاغات كيدية، أو أوهام سطحية، أو توقعات لا أساس لها. ومن أندر النادر أن تتسبب وشاية مخبر في منع عمل إرهابي، أو في (إنقاذ الوطن) من مخاطر مزعومة.

كما أن هذه البلاغات لا تذهب لجهات بإمكانها أن تمنع الجريمة، أو حتى تهتم بالتحقق من مدى دقة المبلغ، بل إنها تذهب لأجهزة أمنية لا تملك إلا إطلاق الرصاص، ولا تعرف من هذه الحياة إلا أن تأخذ الناس بالشبهة، وليس من همومها منع الجرائم أصلا.

 (الوشاية الوطنية) تذهب إلى مؤسسات غير مهنية، وغير أمينة، وكل همها في الحياة (تقفيل) المحاضر، و(تزبيط) الشهود !وبالتالي إذا كنت تتخيل أن ما تقدمه لهذه الأجهزة سيفيد، فأنت واهم ...!

السبب الرابع: لأن الوشاية أضرارها أكبر بكثير من منافعها.

هل تعلم أن حوادث قتل قد حدثت في مصر بسبب عمل المخبرين؟

فلان قتل علانا لأنه وشى بأخيه، فاعتقلته الشرطة !وفلان قتل علانا لأنه ظَنَّ أنه قد وشى بأخيه الذي اعتقلته الشرطة !

هل تعلم أن بعض المخبرين (الوطنيين) ذهبوا للإبلاغ عن جيرانهم فدخلوا في سين وجيم وكانت النتيجة أن (المخبر الوطني) نفسه تم اعتقاله ؟!

هل تعلم أن عملك كمخبر وطني قد يعرضك لمشاكل كبرى مع أجهزة الأمن نفسها؟ ومع من وشيت بهم؟

 هل تعلم أن انهيار النظام أو ضعفه قد يخضعك لعمليات انتقام ممن وشيت بهم؟

 كل هذا من أجل مصر؟

 والله لو كان من أجل مصر لهانت، ولكن الحقيقة المُرَّةَ أن عمل المخبرين يصب في أمر من اثنين، إما في مصلحة الجالسين على الكراسي، وإما في المصلحة الشخصية للمخبر، أما الوطن ... فنصيبه أن يكره الناس أقرباءهم وجيرانهم، فتنبت الضغائن والأحقاد، ويصبح الكُرْهُ نارا تحت الرماد تنتظر أول هبة ريح لكي تشتعل.

السبب الخامس : لأن الدولة ليست محتاجة لوشايات لكي تحفظ أمنك !

أجهزة الدولة، والأجهزة الرقابية، والأجهزة المسؤولة عن التحقيق في كل شيء، هذه الأجهزة التي تزعم أنها تعرف دبة النملة ليست محتاجة لك لكي تعمل مخبرا عندها !

لديهم آلاف البلاغات الرسمية لمسؤولين كبار، بتهم محددة، بالأدلة، عن تجارة مخدرات، وأسلحة، عن صفقات مشبوهة تتعلق بثروات الوطن، تصدير للغاز، تهريب للأموال الحرام إلى الخارج، تجارة آثار، بيع لآبار الغاز التي تملكها مصر لدول أخرى بحيث يضيع على مصر مئات المليارات، بلاغات بالقتل والتعذيب والاغتصاب !

كل هذه بلاغات، تقدم بها مواطنون محترمون، لم يقبلوا أن يكونوا مخبرين، لذلك ذهبوا لجهات التحقيق، وأثبتوا أسماءهم، ووضعوا المستندات أمام جهات التحقيق، ولكن أحدا لم يتحرك !

الدولة تطالبك أن تكون مخبرا حقيرا سافلا، وأن تعطيها المعلومات التي تفيدها في القمع، أما المعلومات التي تفيد المصريين البسطاء، فهذه يتم وضعها في سلة النفايات، مع إتلاف الأدلة، لكي تستمر دولة الأسياد والعبيد.

قبل أن أختم مقالتي أحب أن أوجه تعليقا على خبر نشرته الصحف منذ أيام يتعلق بأن الجامعات المصرية ستوظف (طلابا وطنيين) لكي يبلغوا إدارة الجامعة عن أي طالب يقوم بأي أعمال (معادية للوطن) ...!

نصيحتي لكل هؤلاء (الطلبة الوطنيين) : (لقد انتهى عصر المخبرين، فلا تستقلوا قطاراً على وشك الوقوع من أعلى جبل، ولا تركبوا على متن سفينة غارقة، ولا تلتحقوا بمهنة لن تجنوا من ورائها إلا إغلاق جميع أبواب المستقبل في وجهوهكم !أصدقكم القول ... لا تقوموا بهذا الدور ... إذا لم يكن من أجل أخلاقكم، فمن أجل مصلحتكم ... وتأكدوا أن هذا الدور حقير مهما وصفه الأفاكون بالوطنية).

هذه هي حقيقة (أسطورة المخبر الوطني)، وهي عبارة عن اختراع من دولة المخابرات، يروجه إعلاميون لم يصلوا إلى الشاشة إلا بتقارير الأمن والمخابرات، ويريدون تحويل وطن كامل إلى وحدة بصّاصين في جهاز مخابرات في دولة بوليسية.

أما من يقول لك (أنا مخبر من أجل وطني)، فقل له إن العمل في الدعارة لا يمكن أن يكون عملا وطنيا ... الوطن طيب لا يقبل إلا طيبا !