شيء عن إيران.. والنووي ..

عقاب يحيى

يتجادل " المحللون" والمفكرون" والمهتمون بالاتفاق مع إيران حول النووي.. ويجري تفصيص كبير للبنود، والخلفيات.. ويذهب البعض اتجاهات مختلفة..

سأذكر حادثة طريفة قبل سنوات مع أحد أصدقاء العمر عندما تخاطرنا على عشاء عرمرمي.. كان متيقّناً أن الغرب لن يسمح لإيران بصناعة قنبلة نووية، وأنه سيتدخل عسكريا حتماً.. وكان رأيي أن ذلك لن يحدث، وأنه لو كان مشروعاً عربياً لما انتظروا عليه ساعات.. والأمثلة كثيرة...

ـ الأمر لا يتعلق بتفسير"بوليسي" للتاريخ.. ولا بالحدس.. وإنما بقراءة لتاريخ طويل من العلاقات الإيرانية الغربية، والإيرانية الصهيونية.. بغض النظر عن نوعية الحكم، وطبيعة اليافطات المطروحة .

ـ في قراءتي لتاريخ الفكر الأقلوي، وتنظيماته عبر التاريخ، واليهود آباؤه، وأمهاته وفلاسفته كان البحث عن بعيع مخيف ضرورة يجب إيجادها لأجل إبقاء تلك الأقليات متكتلة حول أصحاب المصالح والقيادات الدينية فيها، والعمل على تحويل تلك الأقليات إلى قوة انعزالية بمشاريع خاصة .

ـ صناعة البعبع يمكن أن تكون اختلاقية، أو أنها تستند إلى بعض الوقائع التي يجري النفخ فيها وتضخيمها، ولا مانع من إثقالها بما يعتبر وثائق لا تقبل النقاش.. كما حصل في " المحرقة" التي وظّفت بطريقة تتجاوز حقيقتها بكثير..

ـ في التاريخ الطويل لتنظيمات اليهود المتعاقبة، خاصة الماسونية منها، كان التركيز على "قصة السبي البابلي" وشخصية نبوخذ نصر ظاهرة بارزة في توجيه الأنظار نحو عدو ثابت، وفي النجاح بتكتل أغلبية ساحقة، خاصة في الوسط الشعبي، وفي المخيال المتجدد، وفي كيفية الشيطنة، والإبقاء على ذلك التوتر الحقدي عبر مسافات الزمن، حتى إذا ما برز صدام حسين بأطروحاته، ومواقفه حول الكيان الصهيونيحضر قورش.. والسبي.. والقصة الكاملة، وجرت شيطنة منظمة لصدام ومعه العراق.. ووضعت مخططات احتلال وتمزيق العراق منذ عقود، وكان العمل على تنفيذها بكل الوسائل، وباستغلال أخطاء النظام، وبنيته الأحادية، الدكتاتورية...ثم دخول الكويت.. وبقية القصة المعروفة ..

ـ يقابل ذلك، وعلى طول الخط نظرة إيجابية لدور إيران التاريخي الذي مثله قورش وسلالات الحكم المتعاقبة.. والذي يتجدد، أيضاً، في التعامل السياسي، والتنظير، والتخطيط..

ـ العلاقة السياسية مع إيران لم تنقطع، وقبيل قيام الثورة الإسلامية كانت إيران أحد أضلع المثلث المختص باحتواء الوضع العربي، وتكريس تمزيقه، ومنع وحدته، وإخضاعه للهيمنة والنفوذ الخارجيين، وكثير، وكانت إلى جانب" إسرائيل" وتركيا تتولى ذلك الدور.

ـ ورغم التغيير الذي بدا كبيراً.. وما قامت به الثورة من غلق سفارة "إسرائيل" في طهران وتحويلها إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورفع الشعارات النارية عن الشيطان الأكبر والأصغر، وخطابات أحمدي نجاد عن محو إسرائيل.. وكثير مماثل..إلا أن العلاقات الأمنية لم تنقطع، وقد أوضحت" فضيحة إيران غيت" سنوات الحرب مع العراق طبيعة تلك العلاقة ومتانتها، وتشعبها.. كما أفصح" ملف غيران النووي" عن تلك التماوجات التي كانت تستوعب المخاوف، والتناقضات لمصلحة اتفاقات أكبر : المشاركة متعددة الأشكال لمجموعة تلك القوى في تمزيق الوطن العربي على أسس إثنية ومذهبية، وكل ما من شأنه استنزافه، وتشيّؤه، وصولاً للحروب الأهلية الطاحنة، وبما يشبه توازع الأدوار، ووضع حدود لنفوذ كل طرف.. حتى لو اشتمل ذلك بعض الصراع على الكيفيات، والمساحات ..

ـ من هذه الأرضية أقرأ الاتفاق حول المف الإيراني، وقبله الاتفاق حول السلاح الكيماوي للنظام.. والذي كان يثير الشكوك الكبيرة عن وجود بنود مخفية، ومخيفة تتناول توازع الأدوار، والنفوذ، ووجود شيء يخصّ إيران وحصتها في العراق وسورية وعديد الساحات العربية، خاصة وأنها تعمل باندفاع كبير على موضعة الصراع الطائفي وفرضه بديلاً للصراع مع نظم الفئوية والاستبداد، وتقوم باختراق المجتمعات العربية في عمقها، وتحت زخم شعارات ملتبسة تجرّ معها أوساط شعبية تتجاوز الحالة الشيعية إلى قطاعات واسعة من المكوّنات القومية والدينية والمذهبية، ومن الوسط السني أيضاً.. خاصة وأن قصة" محاربة الإرهاب" بعد أن ساهم الجميع، بدرجات وأشكال مختلفة، في ظهور، ونمو، وتغوّل داهش ودولتها الغرائبية.. باتت صالحة لعقد تحالفات تبدو مشروعة، وعلنية، وواسعة.. بعنوان" مواجهة الخطر الداهم" الذي يمكن أن يبيح محظورات سابقة، ويصل إلى العلنية، وإلى الاتفاق حول الملف النووي.. الذي تختلف التفسيرات في مضامينه، ومن يخدم أكثر : إيران أم الآخرين .

ـ ما يجري في العراق علانية من توافقات، وشبه اندماج بين القوى التي تحارب" تنظيم الدولة" وعلى راسها الولايات المتحدة وإيران، وقوى الحشد الشعبي الطائفية، والتي باتت تستهدف بكل وضوح "العرب السنة"، وخلط للأوراق والتخوم والمفاهيم، وتصريحات وزير الخارجية الأمريكي، وقبله رئيس المخابرات عن الموقف من رأس النظام السوري، وحقيقة مواقف الرئيس الأمريكي من الثورة السورية وجرائم الإبادة الشاملة واليومية، ومن المطالب المزمنة في الحظر الجوي، والمنطفة الآمنة، والدعم الواضح الفاعل، والموازنة في حرب الإرهاب وعدمن اقتصارها على طرف دون آخر هو إرهابي بامتياز، وحتى تطورات اليمن، وما يمكن أن تحمله"عاصفة الحزم" من احتمالات تخالف أصحاب الحلف وما خططوا..باتجاه إغراق السعودية ودول الخليج في حرب طويلة يمكن أن تأخذ طابع الحرب الأهلية، وإمكانية نقل الصراع إلى داخل بعض الدول الخليجية ..

هذه التطورات لا تنفصل عن رؤى استراتيجية تصنعها، أو تسهم فيها الصهيونية بفعالية واضحة، والقوى المعادية للعرب، والتي تضع الوطن العربي برمته في مركزها... تشير إلى أن الاتفاق حول الملف النووي ليس قصراً، عليه، ولن يكون مبتوراً عن تلك الاستراتيجية وتطوراتها، حتى لو تعددت الألوان، وأوراق الاستخدام، ولو ظهرت عديد التناقضات الثانوية بين تلك الأطراف، أو علا الصراخ حول خلافات ما بينهم، أو جرى تصادم هنا أو هناك في مسائل تخصّ حجوم النفوذ، وطرق التحقيق..

ـ الغائب الأكبر في هذه الوضعية هم العرب.. ولذلك يسهم كثير في إثقال الثورات العربية بمحمّلات تشويهية، ونزيفية، وتحريفية.. كان التطرف الإسلامي المسلح، والتقاتل البيني من أهم العوامل التي تصبّ في تأخير الانتصار، وفي إغراق تلك الثورات في صراعات ثانوية، أو في الثورات والانقلابات المضادة، وفي منسوب تراجع الحاضنة الشعبية، وحجم الدمار، وفقدان الأمن والأمل .

ـ ومن هنا أيضاً استقبلت الشعوب العربية، بأغلبية ساحقة، "عاصفة الحزم" بأمل وإيجابية. بأمل أن تكون بداية انعطافة في الموقف العربي نحو مواجهة الأخطار التي يحملها الاختراق الإيراني الكاسح، وبنجدة الثورات العربية، خاصة الثورة السورية ـ بيت القصيد، وجسر ارتكاز وعبور المشروع الإيراني ـ وبإيجابية أن ينتقل النظام العربي من الهشيم، والالتلاشي، والفراغ إلى استلام زمام المبادرة، ولمّ لا توفير شروط صياغة مشروع عربي يواجه الأخطار المحدقة بالوطن، وينتقل، عبر تفاعلاته، على نهوض قومي عام .....

ـ ورغم التشكيك، والخوف، والمعرفة الدقيقة بطبيعة النظم وبناها ومحركاتها وسقوفها.. إلا أن العيون تتجه نحو إنجاد الثورة السورية لتحقيق الانتصار.. لأن انتصار الثورة السورية سيكون المحطة الفاصلة بين زمنين.. والانطلاقة المؤكدة لعصر آخر ..