تطور الفكر الوطني الفلسطيني

محسن الخزندار

[email protected]

بدأت الحركة الوطنية الحديثة تتلمس حلاً سياسياً للمشكلة الفلسطينية بعد تسلم القيادة الفصيلية قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وكانت هناك فواصل تاريخية تشير إلى تطور أكيد في الرؤية الفلسطينية للمستقبل السياسي والوطني الفلسطيني.

كما كانت هناك آليات محددة لتحقيق هذه الرؤية ولتبيان ذلك يجب تحديد المراحل التاريخية التي مرت بها الحركة الوطنية الفلسطينية التي بدأت بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين الذي التزم بتحقيق وعد بلفور الداعي إلى تأسيس الوطن القومي اليهودي.

كانت تسعى منذ بداية الحركة الوطنية الفلسطينية وحتى النكبة إلى تحقيق حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وكان المقصود بذلك: استقلال فلسطين وتشكيل دولة ذات سيادة فيها ومع أن أقلية وطنية فلسطينية تؤيد بعض التعديل في الأهداف والتعامل مع بريطانيا إلا أن الحركة الوطنية الفلسطينية أصرت وناضلت طيلة فترة الانتداب في سبيل الاستقلال والسيادة الفلسطينية.

طرأ تغير على هذا الهدف بعد النكبة وأصبح هدف الحركة الوطنية بعد أن استفاقت من الآثار السلبية للنكبة هو تحرير ذلك القسم الجغرافي من فلسطين الذي أقامت عليه الحركة الصهيونية دولة إسرائيل وعند نهاية مرحلة الانتقال من النكبة إلى الجهود أو المحاولات المدركة لإزالة آثار تلك النكبة وبعد ستة عشر عاماً من ضياع فلسطين وتشتت أبنائها ومن أشكال متعددة من العمل الحزبي والوطني الهادف إلى التحرر الوطني.

تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية بميثاقها الوطني وتبنى هذا الميثاق آلية محددة لتحقيق هذا الهدف المشار إليه ومن الأهمية في المجال تأكيد بأن الهدف الأساسي عبر المرحلتين بقي ثابتاً إلى حد بعيد وتمثل في رفض الحركة الصهيونية ووليدها إسرائيل واستعادة فلسطين دون إشارة واضحة إلى مصير الضفة الغربية وقطاع غزة الخاضعين للسيطرة العربية.

أثر حرب حزيران 1967م واحتلال إسرائيل للضفة والقطاع أصبحت فلسطين بكاملها تحت السيطرة الإسرائيلية مما أضفى وضوحاً على مفهوم التحرر الوطني وسهّل ممارسته وهو الأمر الذي أكدته وجسدته منظمة التحرير الفلسطينية وأصبح التحرير بعد ذلك يعني إنهاء احتلال إسرائيل لفلسطين بأكملها وباستلام قيادة فتح السلطة في منظمة التحرير وتمكنها من إيجاد صيغة مرنة للتحالف مع فصائل المقاومة أصبح استقلال فلسطين مطلباً وطنياً واضحاً وأساساً للإجماع الوطني وحددت آلية التحرير بالكفاح المسلح والتعبئة الشعبية والتحالف العربي.

أصبح التوجه القطري الذي كان التعبير عنه أقل صراحة قبل النكبة وأكثر غموضاً في المرحلة الانتقالية 1948م إلي 1965م في منتهى الوضوح بعد أن تسلم ياسر عرفات رئاسة اللجنة التنفيذية للمنظمة عام 1969م([1]) وصدور كُتيب تضمن المنظور الفلسطيني لحل الصراع وأهم ما جاء فيه مفهوم الدولة الديمقراطية العلمانية كحل للوجود اليهودي على أرض فلسطين بأكملها وشكل هذا الحل الإطار العام للخطاب التاريخي الذي ألقاه ياسر عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974م([2]).

على الرغم من دعوة ياسر عرفات في خطابه الهام أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974م إلى تشكيل دولة فلسطينية ديمقراطية يتعايش بها المسلم والمسيحي واليهودي على أرض فلسطين فإن تحولاً مهماً كان قد حدث قبل ذلك إذ أن ياسر عرفات كسب معركة سياسية مهمة بإقناع المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالقاهرة في صيف نفس العام بتبني قرارين في منتهى الأهمية على الصعيدين الوطني والسياسي الفلسطينييََنْ وهما الموافقة على تشكيل سلطة وطنية على أي قسم من فلسطين يحرر أو تنسحب منه إسرائيل وشعار المرحلية الذي قصد به أن تحرير كامل فلسطين يتم عبر مراحل ولهذا سُميّ البرنامج الذي تبناه المجلس الوطني في حينه بالبرنامج المرحلي([3]).

أكد النقاش الذي دار في أروقة المجلس على أهمية تأسيس السلطة الفلسطينية على أي قطعة أرض من فلسطين يتم تحريرها أو ينحسر عنها الاحتلال الإسرائيلي مهما كانت صغيرة حتى لو كانت أريحا وإن كنا نريد البحث فعلاً في جذور فكرة الكيان الفلسطيني على جزء فقط من أرض فلسطين فلابد من العودة إلى أواخر الخمسينيات فقد تضمنت أدبيات حركة فتح الأولى المنشورة في مجلة فلسطيننا في تلك الفترة إشارة واضحة وصريحة لهذا الأمر وتضمنت هذه الأدبيات دعوة لإقامة كيان فلسطيني في أجزاء فلسطين التي خضعت بعد قيام دولة إسرائيل للسيطرة العربية والإشارة هنا إلى الضفة الغربية وقطاع غزة على أن يكون هذا الكيان قاعدة لاسترداد فلسطين.

سيطرت حركة فتح على منظمة تحرير فلسطين عام 1968م وكان من المتوقع أن تسعى الحركة إلى تجسيد فكرة الكيان إذا ما أتيحت الفرصة لذلك وعندما استجاب ياسر عرفات لدعوة الأمم المتحدة ذهب مسلحاً بالبرنامج المرحلي وهو البرنامج الذي سعى من أجل تبنيه في المجلس الوطني ومع أن خطاب ياسر عرفات ركزّ على موضوع الدولة الديمقراطية التي تتعايش في كنفها الطوائف الثلاث إلا أن الوفد الفلسطيني الذي تواجد في الأمم المتحدة بقيادة ياسر عرفات ناضل في سبيل تبني قرارين لا علاقة لهما بفكرة الدولة الديمقراطية ولكنهما يجسدان فكرة الاستقلالية الفلسطينية.

أكد القرار الأول 3236 على حق الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه الثابتة في فلسطين والمتمثلة في السيادة والاستقلال الوطني وإقامة دولته المستقلة وتوحي هذه الصياغة العمومية للقرار وعدم تحديد البعد الجغرافي للدولة المشار إليها بأن هذه الدولة ما كانت لتقوم في فلسطين بأكملها وكان هذا القرار بمثابة أول قرار دولي يؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وأكد القرار الثاني 3237 على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل للشعب الفلسطيني وسُمح لها بالتالي بالمشاركة في أعمال الأمم المتحدة كعضو مراقب.

كان القرار الذي يؤكد على حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال اعترافاً دولياً مهماً علقت منظمة التحرير عليه أهمية بالغة وبالتالي أصبح مفهوم الاستقلال الكيانية مطابقاً تقريباً لمفهوم التحرير الذي أصر عليه الميثاق الوطني الفلسطيني ومنذ ذلك الوقت تحولت حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى حركة تناضل من أجل استقلال الوطن وإقامته على جزء من الأرض الفلسطينية.

كان مفهوماً ضمناً أن آلية الاستقلال وتجسيد أساليبه قد تختلف عن آلية التحرر الوطني وأساليبه ومنذ تبني البرنامج المرحلي عملت منظمة التحرير الفلسطينية على تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني بشكل أساسي عبر النضال السياسي الدبلوماسي والدعم العالمي مستفيدة من الدعم العربي الشامل وبعد فترة وجيزة من الزمن وتحديداً في عام 1977م بدأ المراقبون يلاحظون مدى اهتمام القيادة الفلسطينية بأساليب الحوار والنقاش على أرضية الأهداف السياسية المحددة التي تضمنها البرنامج المرحلي([4]).

جرى نقاش حاد في جلسة المجلس الوطني بالقاهرة عام 1977م حول اتصالات فلسطينية – يهودية زعم بعضهم أنها تجري سراً واتضح في تلك الجلسة أن هذه الاتصالات التي تمت بمعرفة القيادة إن لم يكن برغبتها شكلت تجاوزاً للقرارات السياسية بمحاربة العدو ومخالفة للإجماع الفلسطيني الذي رفض التعامل مع الحركة الصهيونية وممثليها إلا أن المجلس تحت تأثير ياسر عرفات ومحمود عباس تبنى قراراً مهماً يسمح بإجراء اتصالات مع أفراد يهود طالما أنهم غير صهيونيين.

لم يخطر ببال أحد أن يسأل عن ماهية هؤلاء في إسرائيل وفي الوقت ذاته تضاعفت الاتصالات الفلسطينية - الأمريكية إما مباشرة عبر أجهزة أمن الطرفين في بيروت أو عبر أطراف ثالثة السعودية خاصة إثر القرار الصريح الذي تبناه المجلس الوطني في نفس الجلسة بتأييد إقامة دولة فلسطينية على التُراب الوطني الفلسطيني والذي تبعه قرار آخر بعد سنتين يؤكد أيضاً على نفس الهدف.

كان المفهوم السائد أن هذه الدولة لن تقوم على كامل أرض فلسطين بل على جزء منها وخاصةً في الضفة الغربية وقطاع غزة ومهّد مجمل هذه القرارات السياسية وتكثيف الاتصالات والحوار بين الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية التي أثارت الحق الفلسطيني في تقرير المصير لقبول أمرين تضمنهما البرنامج المرحلي وهما: اعتماد مبدأ المرحلية في تحقيق أهداف سياسية متواضعة والتفاوض المباشر مع الأطراف الرئيسية المعنية بالحل السياسي للقضية الفلسطينية ومع أن الجانب العنيف للصراع قد استمر إلا أن التعامل السياسي قد أصبح أكثر إلحاحاً وتقبلاً وتطبيقاً وقد استهدف العنف الإسرائيلي كوادر منظمة التحرير داخل وخارج فلسطين وبالرغم من خسارة عدد من الكوادر والقيادات والهجوم الشديد من فصائل المقاومة.

استمرت منظمة التحرير رغم استهدافها وإلحاق الضرر البالغ بها للقضاء على نهجها الجديد الذي اتسم بالاعتدال والذي انعكس في التعامل مع أمريكا والعناصر الديمقراطية الإسرائيلية لإيجاد حل سياسي تفاوضي للمشكلة الفلسطينية وبقي التوجه السياسي الفلسطيني الجديد ثابتاً وحافظت قيادة المنظمة على مبدأي المرحلية والحل السياسي لإحلال السلام في فلسطين.

طرأ تحول على مراحل في مسار النضال الفلسطيني من حيث الأهداف والأساليب والآليات لإيجاد حل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وكان الهدف في المرحلة الأولى وهي مرحلة الانتداب هو تحقيق الاستقلال عبر الكفاح المتعدد الأوجه إضرابات والتماسات مع قليل من العنف وجاء هذا الكفاح على أرضية رفض الانتداب ورفض الحركة الصهيونية ورفض الحديث المباشر مع رموزها.

أمّا في المرحلة الثانية وهي المرحلة التي ظهرت فيها منظمة التحرير الفلسطينية فقد كان الهدف هو تحقيق التحرر الوطني وإلغاء المكاسب التي حققتها الحركة الصهيونية بإقامة دولة يهودية داخل حدود عام 1948م وكان الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية هما الأسلوب المعتمد لتحقيق هذا الهدف.

أصبح التركيز في المرحلة الثالثة ينصب على تحقيق الاستقلال الوطني في الضفة الغربية وقطاع غزة عبر برامج مرحلية وأساليب نضال متعددة الجوانب سياسية ودبلوماسية وعنفيه استناداً إلى الشرعية الدولية وفي المرحلة الرابعة أصبح الهدف هو تحقيق الاستقلال الوطني في الضفة والقطاع عبر النضال السياسي والحوار والتعامل الإيجابي مع أمريكا والقوى اليهودية وتقديم تنازلات فلسطينية اشترطتها كل من أمريكا وإسرائيل.

يمكن من خلال هذا التسلسل التاريخي أن نجد علاقة مباشرة بين البرنامج المرحلي الذي أقره المجلس الوطني والذي كان بداية لظهور القطرية الفلسطينية واعتبار أن تحرير أي جزء من الأرض الفلسطينية هو الخطوة الأولى للحل التاريخي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية على أي جزء محرر في فلسطين وعلى ذلك قبلت منظمة التحرير أن تحتكم إلى قرار مجلس الأمن رقم 242. وبدأت في فتح قنوات للحوار والمفاوضات مع القوى الديمقراطية في إسرائيل.

كتب د. نبيل شعث في مجلة شؤون فلسطينية مقالاً تحت عنوان فلسطين الغد عام 1971م([5]) ممثلاً لرأي منظمة التحرير الفلسطينية وتوجهها وقال في عام 1969م تكلم مندوب حركة فتح إلى مؤتمر القاهرة لنصرة الشعوب العربية فأعلن باسم الثورة الفلسطينية نحن نقاتل اليوم في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم ومسلمين ومسيحيين ويهوداً في مجتمع ديمقراطي تقدمي ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية.

أردف البيان قائلاً إن ثورتنا الفلسطينية تفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي وأن يناضلوا في سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق([6]) وتبِع هذا البيان بيان أدلت به الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين وآخر أدلت به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعدد آخر من البيانات أدلت به حركة فتح.

كان بيان القاهرة هذا أول إعلان صريح كامل عن مفهوم حركة المقاومة الجديد لفلسطين الغد  لكن هذا المفهوم لم يكن بالتأكيد رؤية جديدة تماماً وكان الفلسطينيون منذ الثلاثينيات من هذا القرن يأملون في إقامة دولة فلسطينية موحدة ديمقراطية متعددة الأجناس تضمهم والمستوطنين اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين وقد ورد هذا في الشهادة المقدمة إلى لجنة بيل عام 1937م وكررته وفود رسمية إلى المؤتمرات وذُكر للمرة الأخيرة لعام 1948م خلال وساطة الكونت برنادوت([7]) إلا أن طرد الفلسطينيين العرب من وطنهم إلى أرض الشتات المأساوية قضى على هذه الرؤية وعلى التسامح الذي تشتمل عليه.

أصبح الحلم الفلسطيني منذ عام 1948م حتى عام 1968م العودة إلى فلسطين وإنقاذ هويته القومية من الدمار والذوبان الكاملين أما بالنسبة للفلسطيني الذي بقيّ في فلسطين المحتلة علي أرضه فقد أصبحت رؤيته الخلاص من الاضطهاد ومن كونه مواطناً من الدرجة الثانية ومن العبودية الاقتصادية والسياسية فهو المعذب والمضطهد.

إن الفلسطينيين الذين لم يشردوا أصبحوا خاضعين للحكم الإسرائيلي فالعضوية في الهستدروت أو الكيبوتس أو الموشاف تقتصر على اليهود وأصحاب الأرض يطردون منها لتتسع لليهود وقانون العودة يعطي المواطنة فوراً لليهود الذين يأتون من أي جزء من أجزاء العالم ولليهود فقط.

لم يكن موسى دايان ليفعل شيئاً غير تكرار الادعاءات القديمة عندما قال في عام 1967م إننا نريد دولة يهودية مثلما يريد الفرنسيون دولة فرنسية وقد كانت الدولة اليهودية تُدعم بالأموال اليهودية والمهاجرين اليهود والنفوذ السياسي اليهودي وبالتعصب اليهودي وأثناء ذلك كانت خطط الدولة اليهودية تتجاهل الفلسطيني العربي.

كان هناك بالنسبة لإسرائيل رؤية زانغويل ومن بعده حاييم وايزمان أن هناك بلداً يدعى فلسطين بلد بلا شعب ويلاحظ أوري افنيري أن هرتزل لم يذكر عرب فلسطين مرة واحدة في كتابه الدولة اليهودية.

كان العربي بالنسبة لهرتزل الرجل الغير المنظور وقد أجاب حاييم وايزمان على سؤال وجهه له ألبرت أينشتاين بغضب أي عرب إنهم لا يكاد يكون لهم أثر وباللهجة ذاتها أجابت جولدا مائير مراسل التايمز اللندنية بقولها أي فلسطينيين إنهم لم يوجدوا البتة.

يلاحظ سْتون في عام 1947م أن الإرهاب اليهودي دفع العرب إلى مغادرة مناطق كان اليهود يرغبون في الاستيلاء عليها لأسباب إستراتيجية أو ديموغرافية.

حاول الإسرائيليون أن يجعلوا من إسرائيل بلداً محرراً من العرب وخالياً منهم قدر الإمكان.

كان هرتزل يبحث في عام 1895م في مهام يعطيها للآهلين أي عرب فلسطين مثل القضاء على الحيوانات المتوحشة وتجفيف المستنقعات قبل أن يدفعهم خارج فلسطين بسرية واحتراس.

كانت المناقشة تجري عام 1970م في تل أبيب حول السرعة التي يجب أن تهود بها القدس وتجعلها خالية من العرب ولا عجب والحالة هذه أن يكون توكيد الميثاق الوطني الفلسطيني الذي أُصدر في عام 1964م وعُدل في عام 1968م منصباً على كلمة عربي فهذا الميثاق صرخة معذبة من أجل البقاء القومي في وجه المذبحة والاضطهاد العرقي وإعادة تأكيد على الحقوق الأولية الأساسية حقوق شعب مضطهد في مقاومة مضطهديه.

إن الميثاق الوطني لم يقدم صورة واضحة لفلسطين المستقبل لاسيما في معالجته لحقوق المواطنة بالنسبة للمستوطنين اليهود في المادة السادسة منه([8]) لم تكن الرؤية الفلسطينية الثورية لتنبثق إلا من المقاومة المسلحة إذ لا يمكن أن يشكل الانتقام وحده دافعاً لحرب الشعب ولا يمكنه وحده أن يمدها بأسباب الحياة فالعنف العقلي واللفظي يمكن أن يُبنى حول نفي الوضع الراهن والحنين لنقيضه ولكن الكفاح الشعبي المسلح الذي يحتاج إلى تعبئة الجهود القومية لمدة طويلة يجب أن يُبنى على رؤيا للغد لا على كابوس الأمس الثقيل وإن توهج الأمل مرة أخرى وانبعاث المقاومة الفلسطينية والثقة بالنفس بعد الكرامة هي التي ولّدت الرؤيا الجديدة لفكرة الدولة الديمقراطية اللا طائفية.

شهد عام 1969-1970 نقاشات كثيرة حول الرؤيا الفلسطينية لفلسطين الغد وهي لا تزال رؤيا أكثر منها برنامجاً مفصلاً ولكن يجب أن نؤكد منذ البداية أن المكون الأساسي للفكرة كلها هو تغير جذري في نظرة الفلسطينيين لليهود وإعادة تحديد للعدو أو أعداء الفلسطينيين وحركتهم الثورية.

أصدرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في عام 1970م نشرة بعنوان حول فلسطين الديمقراطية([9]) وفي هذه النشرة تمييز دقيق بين مفاهيم الحل الديمقراطي للمعضلة الإسرائيلية وللمشكلة الفلسطينية فالنشرة تستثني عن حق المفهومين الأولين أي أنه ليس مطلوباً من حركة تحرر وطني أن تجد حلاً ديمقراطياً لعدوان عرقي ولا هي تستطيع المساومة على تحرير الوطن المغتصب فالحل الديمقراطي يستهدف مشكلة الناس الذين استخدموا لصنع العدوان ويستهدف أدوات المعتدي أولئك الذين استخدمتهم الشوفينية أو العرقية أو المصلحة الطبقية ليضطهدوا شعباً آخر.

لكنهم في الوقت ذاته ضحايا الاضطهاد والاستغلال أو هم كانوا كذلك واليهود مثال واضح على ذلك فقد كانوا في التاريخ الحديث الضحية التقليدية لأكثر الهجمات القائمة على الشوفينية والعرقية والمصالح الطبقية إجراماً وقُدمت للمسألة اليهودية العالمية ثلاثة حلول:

1-الحل الغربي الليبرالي: الذي يشير على اليهود بالانصهار والذوبان في المجتمعات الغربية لحل مشكلتهم.

2-الحل الاشتراكي: الذي يؤكد على إنهاء الاستغلال الطبقي عبر الثورة البروليتارية الذي يجعل المشكلة باطلة وملغاة يقول إبراهام ليون وسوف تؤدي الاشتراكية بصورة حتمية إلى إقامة ديمقراطية واسعة في الإطار القومي وسوف تعطي اليهود إمكانية حياة قومية في البلاد التي يقطنونها ولا يمكن حل المسألة اليهودية بأقل قدر من الآلام إلا بتحقيق ديمقراطية بروليتارية واسعة([10]).

3-الحل الصهيوني: الذي ينبثق من اتهام للطبيعة الإنسانية فحواه أن الأغلبية ستظل تُضطهد إلى الأبد وأن المخرج الوحيد المفتوح أمام الأقليات المضطهدة هو أن تحاول هذه الأقليات جعل نفسها أغلبية في قُطرٍ صغير ما ولكن خلق بلد كهذا بالغزو وباقتلاع سكانه ينجح فحسب كما أثبتت التجربة في فلسطين في خلق غيتو كبير بدلاً من عدد وافر من الغيتو الصغيرة غيتو أقل سلامة وأمناً على المدى الطويل من الغيتو الصغيرة القديمة.

ومن الواضح أن فكرة الدولة الديمقراطية متفوقة على هذه الحلول الثلاثة فهي تمنح اليهودي في فلسطين المساواة وانتفاء الاضطهاد والتمييز والقلق وفي الوقت ذاته تحفظ له حق البقاء يهودياً وأداء شعائره الدينية وتكلم لغته والمشاركة على قدم المساواة مع الآخرين في بناء بلد جديد مثالي بلد لا يظل فيه مضطهداً.

بلد لا يكون فيه ضحية ولا معتدياً بلد لا يكون فيه حقوق متميزة ولا يكون فيه مواطناً من الدرجة الثانية بلد يملك فيه رؤيا شاملة متعددة الجوانب ولا يُقاسي فيه من إرهاب الاحتجاز القائم على التمييز العرقي الضيق غير أن فكرة الدولة الديمقراطية لا تحل المسألة اليهودية العالمية إلا كنموذج تحتذيه الدول الأخرى.

إن تغيير العلاقات الاقتصادية تخلق مجتمعات ديمقراطية تقدمية حقاً ففي أميركا وأوروبا يستطيع اليهود وكذلك الأقليات الأخرى أن يعيشوا فيها كمواطنين من الدرجة الأولى ويتقاسموا مع الآخرين مهام المجتمع على قدم المساواة في الوقت الذي يحتفظون فيه بحقهم في العبادة والسلوك والزواج والنمو الشخصي كيهود يمارسون شعائرهم الدينية وتتركز فكرة الديمقراطية على فلسطين ككل أي على الأجزاء التي احتلت عام 1948م وكذلك التي احتلت عام 1967م.

إن فلسطين الديمقراطية لا تحمل إطلاقاً أي شبه جغرافي فكيف بالشبه الأيديولوجي لما يُدعى بالدولة الفلسطينية العميلة العازلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وغير أن فلسطين الجديدة ليست مجرد إسرائيل أخرى مقنعة إذ تكون دولة تقدمية لا عرقية ولا طائفية تشكل جزءاً لا يتجزأ من الحركة الثورية العربية ومن الأرض العربية المتحدة في المستقبل.

كي تتحقق فلسطين الجديدة يجب أن يستمر التحرير حتى تُدّمر الدولة الصهيونية أي أن فلسطين الجديدة هي نتيجة للتحرير وليست بديلاً أو نتيجة تسوية مع إسرائيل العرقية ولا حتى على شبر واحد من التراب الفلسطيني وسيشمل سكان فلسطين الجديدة كل من المستوطنين اليهود والفلسطينيين المنفيين أو الواقعين تحت الاحتلال الذين يختارون العيش في فلسطين ويقبلون منزلة متساوية كفلسطينيين دون أية حقوق خاصة أو امتيازات.

لن تكون الدولة الجديدة لبنان آخر أو قبرص أخرى أي أنها لن تكون دولة ثنائية القومية أو متعددة الأديان بل ستكون دولة موحدة علمانية لا طائفية لذا فإن الفواصل الطائفية لن يسمح لها أن تتصلب ولن تقسم المناصب أو المقاعد بين السكان طبقاً لأديانهم.

لكن الدولة الجديدة لن تسمح بالتمييز طبقاً للدين أو العرق أو اللون وإن المرحلة الراهنة من النضال مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي مرحلة أولية جداً في الواقع ولن تنتهي إلا عندما تفكك المؤسسات والبنية الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي تكرس السيطرة العرقية على الفلسطينيين العرب.

لذا فإن من الصعوبة بمكان في هذه المرحلة أن تحدد صورة البلد الديمقراطي الجديد بل إن ذلك سابق لأوانه خاصةً وأن أي جزء من مجتمع المستوطنين اليهود لم يشترك في النضال ضد الصهيونية بعد من هنا قد تؤدي محاولات الوصول إلى صورة نهائية مفصلة للبلد الجديد إلى أوهام طوباوية  لذا فإن تحديد ما سوف لن يكونه البلد الجديد وما لن يسمح به أمر أسهل بكثير لن يكون البلد الجديد دولة عرقية منغلقة جديدة للعرب.

لن يسمح بانبعاث دولة يهودية جديدة لذا فإن هذا البلد لن يسمح لتمييز عنصري بحكم الواقع أن يحل محل دولة يتم فيها التمييز العنصري بحكم القانون لن يكون البلد الجديد ثيوقراطياً أو إقطاعياً أو أرستقراطياً أو إمبريالياً أو قاعدة لأي قوة إمبريالية ولن يُسمح بالتمييز على أساس أي شكل من أشكال القهر السياسي أو الاستغلال الاقتصادي وغير أن المرء يستطيع استنتاج بعض الأوجه الايجابية من الأوجه السلبية.

مثلاً ستنقل تصفية المؤسسات الصهيونية العرقية إلى الدولة الجديدة جزءاً كبيراً من الزراعة والصناعة الفلسطينية الذي تملكه الآن المؤسسات الصهيونية بصورة جماعية وانتقال الموارد الاقتصادية إلى يد الدولة الجديدة ستخلق علاقات ووقائع اقتصادية جديدة وهذه تشير إلى بعض الوجهات والاتجاهات في المستقبل كذلك فإن تدمير الارتباطات والاستثمارات الإمبريالية سيخلق وقائع جديدة وسيدمج الاقتصاد الفلسطيني ضمن الاقتصاد العربي بعد التحرير.

أدى طرح فكرة الدولة الديمقراطية اللا طائفية إلى ردود فعل هامة وفتح نقاشاً داخل صفوف المقاومة الفلسطينية وبين الحركات الثورية العربية وبين اليهود في إسرائيل وخارجها وردود الفعل تجاه فلسطين الغد الديمقراطية في الجانب العربي يبين مدى جدارة الفكرة الجديدة بالثقة الأمر الذي يعتمد إلى حد بعيد على قبول مقترحيها أي العرب لها وفي النهاية على إيمانهم بها.

تعتمد بينة الرفض الإسرائيلي لهذه الفكرة بصرف النظر عنها بوصفها تكتيكاً دعاوياًً يستخدمه الفلسطينيون والعرب بشكل عام لاستدرار تعاطف العالم مع مخططاتهم الشوفينية كما تعتمد على أن الفلسطينيين والعرب يكذبون ولا يعنون حقاً ما يقولون أو أنهم أُجبروا على ذلك نتيجة هزائمهم لقد رفض الناطقون باسم المقاومة هذا المفهوم في عدة مناسبات وأعادوا التأكيد على أن هذه الرؤية الجديدة أساس لإستراتيجية جديدة وليست تكتيكاً وبالإضافة إلى ذلك لم يتخل الفلسطينيون عن هذه الفكرة إلا في سنوات النفي والهزيمة واليأس 1948م-1968م وكانت عودة هذه الفكرة للظهور نتيجة انبعاث الأمل بعد عام 1968م([11]) غير أن على المرء أن يعرض الصعوبات التي يلاقيها هذه الفكرة بين الفلسطينيين بشكل خاص والعرب على وجه الخصوص بكل أمانة وصراحة حتى يمكن مناقشتها بموضوعية:

1-هناك من لم يقبلوا هذه الفكرة إطلاقاً ولا يزالون يرفضونها على اعتبار أنها تنازل كامل للعدو أو أنها تكتيك دعاوي مفيد ظهرت مقالة في جريدة الحياة البيروتية اليومية تتهم اليساريين العرب الذين يدافعون عن هذه الفكرة بأنهم عملاء للعدو الإسرائيلي([12]).

تدعي المقالة أنها تكشف عن الجذور التلمودية لأفكارهم وتردد الحيل اللا سامية القديمة حيلة ربط الصهيونية بمؤامرة شيوعية عالمية وهذه فرقة يمينية غبية الأسلوب لا سامية نموذجية تعتمد كثيراً على الدعاية النازية إن العرب الذين قبلوا دون تفكير متزن المنحى الصهيوني للمسألة الصهيونية.

أصبحوا يعتقدون أن المسألة الفلسطينية ظاهرة دينية لا ظاهرة كولونيالية – استيطانية وأن هؤلاء أُنس يصعب تغييرهم وقد لا يبدو للمراقبين الخارجيين أمراً متناقصاً أن يكون المقاتلون وعلى الأخص الأشبال الصغار هم الذين تبنوا الفكرة بسرعة بينما تقاومها برجوازية المدن التي لا تزال تحتفظ بالعنف العقلي الشوفيني بديلاً وحيداً للعنف الثوري.

لقد ساعد التثقيف الثوري وتعليم العبرية في مخيمات اللاجئين وازدياد الاتصالات مع اليهود التقدميين كثيرين من العرب على التغلب على مخاوفهم العميقة من اليهود وكراهيتهم لهم تلك المخاوف التي خلقها أساساً الاحتلال الصهيوني لفلسطين وولدت هذه الاتصالات في أذهان هؤلاء صورة أكثر إنسانية لليهود.

2- هناك من لم يفهموا الفكرة ومضامينها أبداً وخلطوا بينها وبين فكرة الدولة الفلسطينية العميلة ظانين أنها بديل للتحرير لا نتيجته النهائية المطلوبة وبعض هؤلاء يشوهون الحقائق عمداً لأغراض حزبية خاصة لكن معظم هؤلاء ينتهون إلى القبول بالفكرة عندما يفهمونها فعلاً.

3- هناك الفئة الثالثة وهي فئة الثوريين العرب الذين يقبلون بهذا المنحى في معالجة المسألة اليهودية ولكنهم يرفضون فكرة دولة فلسطين على أساس مدى قابليتها للتحقق ومدى قابليتها للحياة وهؤلاء يفضلون الحديث عن حل ديمقراطي أو وضع ديمقراطي وليس عن دولة وهم يلاحظون أن فلسطين المحررة لا يمكن ولا يجب أن تكون دولة غريبة إسرائيل جديدة مقنعة بل يجب أن تصبح جزءاً من دولة عربية تقدمية ديمقراطية موحدة في المستقبل وتشترك في هذه الفكرة الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وجبهة التحرير العربية.

بدأت المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية (ماتزبن) في اعتناق هذا المفهوم كذلك([13]) حركة فتح لا تخالف هذا المفهوم على الإطلاق فهي تعتبر الدولة الفلسطينية مجرد مرحلة نحو فدرالية عربية موحدة في المستقبل فدرالية يتمتع فيها اليهودي الفلسطيني بحقوق سياسية وثقافية ودينية كاملة بعيداً عن التمييز والاضطهاد والاستغلال.

صحيح أن جبهة التحرير العربية شنت حملة مريرة على الفكرة رافضة لها على أساس أنها إقليمية وقد كانت هذه الحملة أمراً مؤسفاً له لأنها أعطت انطباعاً بأن هذه الرؤيا الجديدة لفلسطين الغد موضوع مناظرات وسجلات بين العرب أنفسهم مما يدمر جدارتها بالثقة([14]).

إن هذه الحملة أمر يؤسف له بقدر أكبر بالنظر إلى تأكيدات جبهة التحرير العربية المتكررة بأنها لا تدعو إلى حل شوفيني للمسالة اليهودية ولذا فان هجومها على الإقليمية يبدو ظالماً وحزبياً ولا معنى له في ضوء التجربة الإقليمية العربية الراهنة ذاتها وعلى الأخص إقليمية تلك الدول العربية الأكثر تقدماً التي يحكمها ما يسمى بالأحزاب التقدمية القومية.

إن الهوية الفلسطينية للثورة لا يمكن أن تكون إلا هوية نضالية لا إقليمية وتحرير فلسطين لا يمكن أن يتم دون التحام الثورة الفلسطينية بالثورة العربية وفلسطين الديمقراطية لا يمكن أن تكون كياناً منعزلاً منغلقاً أو منفصلاً عن الجسد القومي العربي كما تنفصل الدول العربية التقدمية الآن غير أن هذا الهجوم كان قاسياً لدرجة دفعت المنظمات الأخرى إلى موقف دفاعي مما جعل الشلل الناجم عن ذلك يعيق المجلس الوطني الفلسطيني عن تعديل المادة السادسة من الميثاق الوطني معطياً ذلك للصهيونيين فرصة نادرة للهجوم على الدولة الديمقراطية على أساس أن الفلسطينيين يناقضون أنفسهم ويقومون بمناورة تكتيكية فيقولون شيئاً بالإنجليزية وبالعربية شيئاً آخر.

كما يطيب للجنرال هاركابي رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق أن يردد بأن تركيز جماعة النقاد على مشكلة هذه الأرقام التي تدعى أن عرب فلسطين سيكونون أقلية في فلسطين الجديدة وهذه حجة يستخدمها الصهيونيون بالمقلوب مدعين بدورهم أن اليهود سيكونون أقلية في فلسطين الجديدة  لكن الأرقام تبين أن عدد الفلسطينيين العرب تحت الاحتلال وفي المنفى يساوي بالتقريب عدد المستوطنين اليهود الآن مليونان وسبعمائة وخمسون ألف نسمة لكل من الطرفين.

إن المشكلة الحقيقية ليست مشكلة أرقام فقد كانت الأقليات العرقية في جنوب أفريقيا والجزائر وكل أفريقيا تسيطر إلى عهد قريب على أغلبيات كبيرة وتُخضعها لتمييز عنصري رسمي أو واقعي وما لم تحرر فلسطين وبتفكك إسرائيل الصهيونية ويتحقق الاندماج الثوري مع العالم العربي وفي النهاية ما لم تُخنق الإمبريالية وتُهزم في المنطقة فإن الخطر سيكون في الواقع احتمال انبعاث العرقية الصهيونية.

لكن في الوقت ذاته ستصون طبيعة النضال التحريري ذاتها والوضع الدولي وسن الضمانات الديمقراطية حق اليهود مهما قل عددهم في فلسطين الجديدة أكثر من ذلك يتوقع أن ينضم العديد من اليهود إلى النضال التحريري كلما تصاعدت الثورة وهذا بحد ذاته يضيف ضمانة أخرى لدولة ما بعد التحرير.

4- هناك جماعات أخرى من النقاد ترفض الوجهة الدينية للفكرة على الأخص كما عرضت أصلاً كدولة للمسلمين والمسيحيين واليهود وهؤلاء النقاد العرب يصرون على تفسير علماني ويقولون إنه ما لم تكن الدولة الجديدة جمهورية عمال وفلاحين شعبية اشتراكية فإنها لن تكون مقبولة لديهم.

لقد ابتعدت المنظمات الفلسطينية بشكل عام عن التوجه الديني المحض فحركه فتح تصر على أن فلسطين الجديدة لن تكون لبناناً آخراً متعدد الأديان بل دولة لا طائفية لا تتبع نظام اقتسام المناصب الذي يعزز الفواصل الدينية ولن تكون الدولة مبنية على الأديان الثلاثة لكنها ستسمح للناس بممارسة معتقداتهم الشخصية ممارسة حرة أما بالنسبة للنظام الاقتصادي الذي سيطبق في المستقبل وما إذا كان اشتراكياً أو غير ذلك فإن من السابق لأوانه الخوض في نقاش كهذا:

أولاً: لأن المرحلة الراهنة من النضال مرحلة تحرر وطني ديمقراطي التناقض الرئيسي فيها هو التناقض مع القوى الإمبريالية والعرقية وهذا ما يجعل تحقيق الوحدة الوطنية أمراً صعباً وكمثال على ذلك نرى ذكر كلمة اشتراكية في برنامج جبهة التحرير الوطني الفيتنامية أو ميثاق الحكومة الفيتنامية المؤقتة.

ثانيا:ً لأن تطبيقاً حقيقياً لفكرة الدولة الديمقراطية يتطلب مشاركة المستوطنين اليهود مشاركة ديمقراطية كاملة في تقرير شكل الحكومة في فلسطين الجديدة وهذا أمر لا يمكن حدوثه واقعياً إلا بعد التحرير غير أن هناك اتفاقاً على أن الدولة الجديدة لن تسمح بعودة الاستغلال أو القهر أو التمييز العرقي الاقتصادي إلى الظهور وعلى أن المؤسسات الاقتصادية الصهيونية ستسلم إلى الدولة التقدمية الجديدة وتلخيصاً نقول إن منظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة متفقة جميعاً على الاتجاه الرئيسي لفلسطين الغد الجديدة أي على العلاقات مع المستوطنين اليهود على الرغم من أنها تختلف فيما بينها على الأيديولوجية والتطبيق ورؤية هذه المنظمات تبقى تقدمية وديمقراطية وعلمانية بوجه عام لكن تستمر مهمة رئيسية هي مهمة التثقيف وإحداث تغيير بنيوي لجعل هذه الفكرة راسخة الجذور بين الجماهير العربية ومقبولة لها بصورة شاملة.

عندما تكون الثورة في تراجع فالنجاح يؤدي إلى المزيد من التسامح والتفاهم وهذا أمر بالغ الصعوبة وكذلك يغير تصاعد الثورة من الاتجاهات اليهودية ليجعلها تعزز الأفكار الفلسطينية التقدمية لقد واجهت حركة المقاومة الفلسطينية عدداً من النكسات الخطيرة في عام 1970م فمن جهة عانت المقاومة داخلياً من افتقارها إلى الوحدة والتماسك وفقدانها للفعالية وبدا أن نموها وتطورها قد توقف مؤقتاً على الأقل بفعل التيارات الداخلية وفقدان المبادرة والتهويش ومن جهة أخرى كان أعداء المقاومة يزدادون قوة ويصبحون أكثر قدرة إذ تلاشت المفاجأة التي حدثت في البداية.

بدأت الإمبريالية الأمريكية والصهيونية تكيفان نفسيهما للوضع الجديد سياسياً وعسكرياً وكانت أمريكا مصممة على تجريب إستراتيجية الفتنمة في الشرق الأوسط على غرار تجربتها في فيتنام فكان أن لجأت في هذه الحالة إلى أردنه الصراع الفلسطيني وذلك بقيامها بمساعدة الجيش الأردني ليقاتل الفلسطينيين فيتحول الصراع إلى صراع بين العرب وبذلك تخفف العبء عن إسرائيل وتمهد السبيل نحو تسوية سلمية.

تتوجت هذه الإستراتيجية بمجزرة أيلول للفلسطينيين في الأردن وعاقبتها المأسوية وتقديم بديل وتلفيقه للدولة الديمقراطية هو الدولة الفلسطينية المنفصلة على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة وهو ما سنسميه فلسطينستان فيعترف بالفلسطينيين كشعب له حقوق تقرير المصير ما دام ذلك يبقي على إسرائيل كما هي مضافاً إليها بعض الأراضي التي تحتاجها لأغراض الأمن وتتدفق التجارة بين البلدين وبينهما وبين باقي العالم العربي وتصبح الأوضاع في المنطقة طبيعة وفي النهاية وخلال فترة طويلة من الزمن يمكن أن يؤدي التطور الطبيعي إلى اتحاد البلدين في المستقبل في دولة موحدة.

إن هذا التوجه الجديد يقدم في كل مكان للفلسطينيين وللعرب بشكل عام وللعالم أجمع إن لم يكن على أساس كونه حلاً جديراً مرغوباً فعلى أساس أنه ممكن التحقيق ويمثل ضرورة سياسية ومن جهة أخرى تقف إلى جانب فكرة الدولة الديمقراطية العوامل التالية تنامي الاعتراف العالمي بالفلسطينيين وبحقوقهم القومية الذي بلغ أوجه قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة وبطولة الفلسطينيين وصمودهم في الأردن رغم الهجمات الوحشية والمقاومة البطولية التي يبديها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وازدياد الأدلة على فاشية إسرائيل في قطاع غزة وعدم رغبتها في الانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1967م والوضع الاقتصادي في الضفة الغربية وتنامي قبول المقاومة الفلسطينية بين دول العالم وكل هذه عوامل تسهم في نجاح أكبر لمثال الدولة الديمقراطية وفي جعله مقبولاً.

إن الدعوة لإقامة فلسطينستان([15]) كحل لمشكلة الشعب الفلسطيني ترتكز على أن فكرة الدولة الديمقراطية هي فكرة غير ممكنة التحقيق كما أنها غير مقبولة أو مرغوبة من جانب اليهود أساساً فإذا قبلت هذه الحجج أصبح المطروح هو إنشاء الدولة الفلسطينية العميلة ولذلك ويجب طرح ما يلي باختصار الحجتين ومناقشتهما قبل الانتقال لمناقشة ماهية فلسطينستان المقترحة ومقوماتها ودولة الديمقراطية غير ممكنة التحقيق.

تقوم فكرة الدولة الديمقراطية على التحرير أي على هزيمة الإمبريالية الصهيونية ومن يدعمونها ولكن هزيمة كهذه ليست ممكنة لأن إسرائيل قوية جداً ومتقدمة ولأنها مدعومة كلياً من أقوى بلد إمبريالي في العالم ولأنها دولة معترف بها من العالم كله ولأنها تتلقى دعماً غير محدود من اليهودية العالمية وفي الوقت نفسه يجري التأكيد على أن الدول العربية ضعيفة ولا يمكن أن تصبح قوية بما فيه الكفاية كما تدل على ذلك هزائمها المتكررة.

إن حركة المقاومة الفلسطينية ضعيفة وغير قادرة ويجري سحقها وأن الفلسطينيين والعرب لا يرغبون في حمل عبء القتال المستمر وأن الحكومات العربية على استعداد للتعاون فيما بينها لتسحق الفدائيين وأن استمرار النضال التحرري لن يؤدي إلاّ إلى تحطيم العرب وتعزيز قبضة إسرائيل على الأراضي المحتلة والدولة الديمقراطية غير مقبولة أو مرغوب فيها.

من المعروف بداهة أن الإسرائيليين ومن يدعمونهم لا يرغبون في فكرة الدولة الديمقراطية وأن استمرار القتال سيصلب المواقف الإسرائيلية ويزيد من تصميم إسرائيل وعزمها ويجعل الإسرائيليين أكثر غربة عن العرب وأنه إذا ما تحققت الدولة بعد التحرير فإنها لن تستطيع الاستمرار لأن الجماعتين لن تستطيعا التعايش بعد قتال طويل بينهما وأنه لن تكون ثمة ضمانات تضمن سير أعمال الدولة سيراً مناسباً وتضمن عدم حدوث التمييز العنصري مرة ثانية.

إن الجالية اليهودية إذا أنشئت الدولة الديمقراطية ستحكم في النهاية لا فلسطين فحسب بل بقية العالم العربي أيضاً بسبب تفوق اليهود على العرب وإن الافتراض بأن العرب لن يكونوا قادرين أبداً على التعلم وتحسين أنفسهم افتراض عرقي تدحضه الحالة اليهودية ذاتها فلم يكن اليهود ينظرون إلى أنفسهم كجنود محترفين أو غزاة على الأخص في العصور الحديثة وبالإضافة إلى ذلك فإن الحجج التي تقوم على ميزان القوى الاستاتيكية جامدة دوماً لأنها تأخذ بالاعتبار النسب الحالية أي ما يبدو ممكن التحقيق الآن.

تقوم الثورات على المفهوم الديناميكي الذي يقضي بأن من الممكن تفجير قوى شعبية ضخمة عبر النضال قوى يمكن أن تعبأ وتنظم وتستحث وتسلح محدثة تغييرات مستمرة في ميزان القوى بينما يستمر النضال وكذلك إن عشرين عاماً من التشتت العربي والرضوخ للوضع الراهن والهزائم برهان كافٍ ففي فيتنام استخدمت أمريكا كل جبروتها الإلكتروني والأسطول الجوي في التاريخ ومع ذلك فقد برهن الفيتناميون الأبطال بثلاثة آلاف طائرة أسقطوها أن النضال الثوري الشعبي عبر حرب الشعب يستطيع أن يُلحق الهزيمة والدمار بأقوى جيش في العالم وأن حرب الشعب التي يقوم بها شعب مضطهد بإصرار وفعالية يمكنها التفوق على الحرب الإلكترونية والانتصار على العدو المستعمر.

إذا انتقلنا إلى لنقطة الثانية التي تفترض قيام فلسطين الديمقراطية سيؤدي إلى سيطرة اليهود من منطلق عنصري استاتيكي فإن قيام الدولة الديمقراطية كنتيجة للتحرير وبناءً على التحام كامل بين الطليعة الثورية الفلسطينية والثورة التحريرية العربية سيؤدي إلى تحطيم المؤسسات العنصرية الصهيونية المستغلة وبالتالي إلى إنهاء كافة الظروف والاعتبارات القانونية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تكفل السيادة الصهيونية والعبودية العربية.

كان زوال النازية بالقضاء عليها عسكرياً قد أطاح بالسيادة الألمانية والتفوق الألماني العنصري المدعيّ فأتاح للشعب الألماني فرص الاندماج المتساوي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً مع الشعوب الأوروبية وبالتالي فإن عودة الفلسطينيين إلى بلادهم نتيجة لثورة عربية ظافرة لا يمكن أن يؤدي إلى استمرار التفوق العرقي اليهودي إلاّ إذا افترضنا فعلاً أن اليهود متفوقون عرقياً على العرب غير أن اليهود تحت أي نظام وفي ظل أي ظرف وهو افتراض عنصري لا يمكن قبوله اللهم إذا كان ستاراً لشوفينية مستترة لا تقبل مواطنية اليهود في الوطن العربي تحت أي ظرف من الظروف.

هذا أيضاً لا يمكن للثورة قبوله فإن البديل المطروح للدولة الديمقراطية هو إنشاء دويلة فلسطينية فلسطينستان في تلك المناطق من الأرض المحتلة بعد عام 1967م التي تتميز بكثافة سُكانية عربية عالية والتي تبدي إسرائيل استعدادها ولو لفظياً على التخلي عنها بعد إقرار تسوية سياسية كاملة والتوقيع على صلح ومعاهدة سلام مع الدول العربية والأرجح هو أن تُقام هذه الدويلة المقترحة في أجزاء من الضفة الغربية تستثني القدس ومنطقة قلقيلية وطولكرم وتلال الخليل أو الخليل كلها كما أنها تستبقي لإسرائيل وجوداً عسكرياً على طول نهر الأردن حسب مشروع إيغال ألون الأصلي.

بذلك فإن فلسطينستان([16]) تصبح جزيرة سياسية بين إسرائيل ومملكة شرق الأردن الهاشمية لا يربطها بالوطن العربي إلاّ الجسور المفتوحة على نهر الأردن إن التشابه كبير جداً بين الدويلة المقترحة وبين البانتوستانات التي أنشأتها الحكومة العنصرية الأوروبية البيضاء للسود المستبعدين في جنوب أفريقيا تطبيقاً لسياسة التفرقة العنصرية المعروفة بالأبارتهيد ففي جنوب أفريقيا يُعزل السكان السود في دويلات يتمتعون فيها ببعض مظاهر الاستقلال والكيان السياسي والحكم الذاتي وتنقلهم الحافلات كل صباح للعمل في مناجم الذهب والمزارع البيضاء ثم يعودون في الليل إلى مناماتهم في البانتوستان مما يضمن عزلهم عن الاختلاط بالسكان البيض ونسائهم لاستمرار النقاء العرقي الأبيض.

إذا كان هذا التشابه يبدو خيالياً ومجحفاً فإن المدخل العلمي الوحيد هو اعتبار ذلك فرضاً نحاول إثباته بالأرقام قبل أن نستمر في الثقة به والاعتماد عليه فكيف يمكن التحقق من طبيعة الدويلة الفلسطينية المقترحة قبل إنشائها؟ لدينا في الواقع نموذجان حقيقيان لا مفترضان يمكن استخدامهما للتحقق من افترضنا وهما:

1-نموذج العرب في إسرائيل الأرض المحتلة قبل 1967م.

2-نموذج العرب في الضفة الغربية وغزة المحتلة الأرض المحتلة بعد 1967م.

إن إقامة دويلة فلسطينية داخل إسرائيل أو بجانبها كنتيجة للتسوية السياسية وتصفية الثورة لن يأتي بأفضل مما قدمته إسرائيل فعلاً خلال ثلاثة وعشرين عاماً لفلسطينيين تعتبرهم مواطنيها الشرعيين أو للفلسطينيين الذين تحاول إغراءهم بكافة الطرق بالتعايش معها في الضفة الغربية المحتلة.

مثلاً عرب إسرائيل على اعتبار أن ما يعانونه من اضطهاد عرقي مواطنين من الدرجة الثانية واعتقال إداري غير محدود بقانون أو زمن ومحاولات الإذابة الثقافية والحضارية والاستغلال الاقتصادي هي كلها نتيجة لأنهم فقدوا استقلالهم كلية ولم يعد لهم كيان سياسي ويستطيعون الاحتماء داخل قشوره.

كذلك قطاع غزة المناضل وكل ما فيه من الكبت والقمع البربري الإسرائيلي على أساس أن أهل غزة يقاومون ويرفضون الاستسلام والتعايش مع إسرائيل وبالتالي فهم لا يتيحون لأنفسهم فرصة التمتع بالرفاهية الاقتصادية التي قد تأتي بها المشاركة مع إسرائيل وبالتالي فإن هذا يترك لنا نموذج الضفة الغربية المحتلة وهي على أية حال المكان المقترح لإقامة دولة فلسطينستان المقترحة.

 لقد حدث خللٌ كبيرٌ في مسار النضال العربي والفلسطيني برمته وكان لزاماً علينا من مراجعة الحسابات في كل مرحلة وتقويم الأخطاء التي حدثت منذ انطلاق المقاومة الفلسطينية عام 1922م وما تلاها ولعل ذلك يرجع إلى التعددية الحزبية وتدخل الأنظمة العربية وأن قيادات المناضلين لم تكن على مستوى الأحداث وهكذا ذهبت الرجال مع الرياح([17]).

قال الله تعالى:

"وألوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً".    صدق الله العظيم          سورة الجن آية 16

إن التيارات الجديدة والأفكار المستحدثة والبدع الأيديولوجية التي تعتمد على الوهم وليس لها من الواقع نصيب خلقت نوع من تجار النضال والمقاومة وسيأتي اليوم الذي يكشف زيف الزائفين وكذب الكاذبين الذين يتاجرون بالوطنية وما هم بوطنيين ولكنها الزعامة وحب الرئاسة والسعي وراء المنافع المادية الزائلة إن هزيمتنا في العقود الأربعة الماضية نتيجة لاختزال القضية من سيادة وطنية إلى سيادة فردية.

إن الثورة الفلسطينية خرجت عن نطاق جاذبية الواقع فطاشت سهامها ولا ننسى أن كثرة المال والوفرة المالية قد أدى إلى الغرور وأعمى البصائر فقد أحس الجميع بشيء من الأرستقراطية المصطنعة إلى جانب الرومانسية الشبابية والنرجسية النابعة من المستوى الثقافي والاجتماعي الذي حظوا به مما أفقدهم الأحكام الثورية الحقيقية " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب"(سورة البقرة آية 269)

 إن الغرور داء ووبال إذا مس القادة انتهوا وضاع من سار في دربهم فقد حسب هؤلاء القادة أن الوطن يعاد بمقال أو ندوة أو مؤتمر من تلك التي كانوا فيها فرساناً لا يشق لهم غبار وغاب عن بصرهم أن فلسطين لا تحرر إلا بالدم والشهادة فإسرائيل تحتل فلسطين بجوها وبحرها ومداخلها وجيشها مجهز بأحدث ما تنتجه الترسانات العسكرية في العالم وأدق ما جاءت به تكنولوجيا العصر المتقدمة إلى جانب حشد الإعلام العالمي كله لصالحها والسيطرة على موارد الاقتصاد العالمية.

حقيقة الأمر أن المعارك التي انزلقت إليها المقاومة الفلسطينية في الأردن والحرب الأهلية التي جرت إليها في لبنان قصمت ظهر الثورة الفلسطينية وكذلك التعددية التنظيمية التي كانت الشر كله والمحصلة النهائية هي كشف أرباح وخسائر لهذه المعارك وما هو العائد على الشعب الفلسطيني وقضيته وللحق لم يجنِ الشعب الفلسطيني الشقي المنكوب بصراعاته الأيديولوجية وتنظيماته المتعددة الرؤى والاتجاهات والقيم والمبادئ سوى الكوارث والنكبات المتلاحقة.

إنه الحصاد المر الذي سدد حسابه أبناء هذا الشعب عبر كل تلك العقود التي انقضت على نكبته بالأنفس والأموال فيا قوم أليس في هذه الأمة العربية من رجل رشيد؟

اعلموا أن هذه المعارك التي تنزلق فيها الأمة العربية لن يخرج منها نظام عربي منتصراً ولكن الأمة العربية ستخسر المعادلة الدولية كلها وستدفع بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني من نكبة إلى نكبة أعظم أين حكمة الشيوخ المنبثقة من تجاربهم وقراءاتهم وتحليلهم لأحداث التاريخ؟ إن إغفالهم وضرب الحائط بآرائهم سيكون سبيل البلاء والهزيمة.

في النهاية نقول أن تطور الفكر الوطني الفلسطيني كان متزامناً مع فكر الشيخ هاشم الخزندار متخلفاً عن ركب التطبيق فقد طرح الشيخ هاشم الخزندار نظرته التحليلية لواقع الحل من خلال المبدأ الفقهي ما لا يدرك كله لا يترك كله فواقع المشكلة الفلسطينية والإمكانيات المتاحة للشعب الفلسطيني تؤدي إلى مبدأ خذ وطالب.

إن توجه الشيخ هاشم الخزندارلا يمكن أن يُعتبر شاذاً وغريباً عن التوجه العام داخل دهاليز صناعة القرار السياسي الفلسطيني وإنما كان سابقاً زمنياً له إن أكثر من تصريح أو مقال لرئيس اللجنة التنفيذية ياسر عرفات ولاجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة منذ عام 1969م–1977م الذي أقروا فيه بتشكيل سلطة وطنية على أي جزء يحرر من فلسطين وينحسر عنه الاحتلال الإسرائيلي بأي طريقة مهما كان صغيراً حتى لو كانت أريحا.

كذلك اتجاه المجلس الوطني الفلسطيني للأخذ بأسلوب الحوار والنقاش مع القوى اليهودية في إسرائيل والعالم على أرضية الأهداف السياسية التي تخدم إقامة دولة فلسطينية على أرض فلسطين.

يعني ذلك أن الشيخ هاشم الخزندار كان على خط متوازٍ مع منظمة التحرير الفلسطينية وبعيداً عن الإرهاصات الفكرية التي عاشها جزء من الشعب الفلسطيني الذي يمثل تيار الرفض المزايد والمتاجر على القضية الفلسطينية إن تجارب الشعوب أثبتت أنه ليس بمقدور أي احتلال مهما عظمت قوته أن يملي على الشعوب الحية مشروعاته ومخططاته فلا يوجد أحد مهما عظم شأنه يملك من القدرة أو يقبل على نفسه أن يسوق مخططات الاحتلال.

كان الشيخ هاشم الخزندار ينادي دوماً أنه يجب الضغط على إسرائيل بواسطة العالم وبكافة الطرق السياسية والاقتصادية وليس الضغط على الشعب الفلسطيني وإرهاق قياداته للتنازل عن حقوقه المشروعة وثوابته الوطنية التي صُبغت بدماء الشهداء وتضحياتهم وأنه من حق الشعب الفلسطيني ممارسة جميع أشكال النضال لتجسيد طموحاته لإقامة دولته على تراب أرضه فلسطين.

إن للشعب الفلسطيني الحق في العمل مع كافة القوى لتحقيق حقوقه وتطلعاته ومع اغتيال الشيخ هاشم الخزندار أُسكت صوت من الأصوات العاقلة والواعية لطبيعة الكفاح الوطني والمواقف السياسية للشخصيات الوطنية والاتجاهات الإقليمية والدولية التي حددت إطار السياسة الفلسطينية منذ بداية العشرينات.

باغتياله طُويت حقبة تاريخية كاملة وصفحة من صفحات النضال الفلسطيني في الوقت الذي كان الشعب الفلسطيني أحوج لمن يقوم بعملية إعادة بناء تاريخية لتطور البرامج السياسية والخطاب العقائدي والبُنى التنظيمي