نعمة التخاليف

نعمة التخاليف

محمد محمود كالو

[email protected]

قطبان متباعدان ومختلفان دائماً الخير والشر ، والحق والباطل ، وهما من ضرورات الحياة ، والفرق واسع وشاسع بين الاختلاف في الرأي ، والاختلاف في العقلية ، فقد تتشابه العقلية في أكثر من شخص ، ويختلف الرأي !

وهذا الاختلاف نعمة ورحمة ، فلا ينبغي أن نعتقد أن ما يجول في رأسنا من آراء ، يجب أن يسود الناس أجمعين !

فما من رأي واحد يمكن أن يسود هذه الأرض ، والعالم بأسره لن يستطيع أن يوحِّد الرأي ، لأن هذا ناموس الخالق جل جلاله حينما قال سبحانه وتعالى : ] وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين [ ( هود : 118 ) .

ولقد كان بعض الناس يندهش أحياناً من أن الرئيس الأمريكي يستعين بمستشارين ، لهم آراء تخالف رأيه وفلسفة حزبه ، ولكن هذا بالضبط هو المقصود أحياناً ، فحين يأتي الحاكم بمستشارين ومفكرين من مدرسته وتفكيره ، فكأنه يضع حوله مرايا لا يرى فيها إلا نفسه ، والمفروض أن تجد عناصر أخرى تثير الجدل والنقاش ، ويعطي الموقف زخماً ، فيجد من خلالها فرصة للتعرف على الآراء والتيارات .

وهكذا أعضاء جسم الإنسان ، فالصحة في جسم الفرد قوامها الاختلاف في وظائف الأعضاء ، فالرأس يفكر ، والعين تبصر ، والأذن تسمع ، والفم يأكل ، واللسان ينطق ، والقدم تسير ، والقلب ينبض بالحياة ، والمعدة تهضم الطعام ، والرئتان تتنفسان.

ويوم توحِّد الأعضاء وظائفها المختلفة تنهار الصحة ، وتتهدم القوة ، ويصاب الجسم بالسقم والعطب ، فأعضاء الجسم متضامنة في العمل ، لأنها مختلفة في الوظيفة ، هذا هو سرُّ التناسق في الخليقة .

وإذا انتقلنا إلى الأجرام ، وجدنا أن الاختلاف بين الأجرام في الأحجام هو سر تجاذبها وتماسكها وتعاونها ، ولو أن الله تبارك وتعالى جعل الأجرام حجماً واحداً في كل العناصر والأوزان والصفات والهيئات ، لانفرط عقدها ، وانحلَّ جيدها.

وإذا أردنا أن نكمل الصورة ، فلننظر إلى هذا السر العجيب ، في اختلاف البلاد والعباد ، بلد فيه محاصيل الزراعة وفيرة ، وآخر فيه الأيدي العاملة كثيرة ، وآخر فيه سيولة من المال ، إنها نعمة الاختلاف، ولا يمكن أن يستقل بلد عن بلد تمام الاستقلال ، فكل بلد يخدم الآخر ، وبحاجة إلى الآخر ، وكل شعب يضيف مزية إلى مجموع الأمم والشعوب.

ومن أجمل ما قرأت للمستشرق الإنكليزي » جون هادهام « :

( لو أن كل بلد كان له من الهيئة ومن المواد الخام ما لسائر البلاد ، لكان كل بلد يستطيع الحياة مستقلاً تمام الاستقلال عن جيرانه ، ولكن الخالق جل جلاله نظم خريطة الدنيا على نحو يجعل كل بلد في حاجة كبيرة أو صغيرة إلى كل بلد !

وهذا القول يصدق أيضاً على الشعوب ، فكل شعب قد جعلت فيه مزية ، يستطيع بها أن يضيف شيئاً إلى مجموع الشعوب ، وكل شعب مدين للشعوب الأخرى بشيء يعوزه في إنتاجه، أو ينقصه في تركيبه !)

 وقال مالك بن نبي في كتابه » المسلم في عالم الاقتصاد « :

( إن ليبيا ـ على سبيل المثال ـ لها متسع من التراب ، ومصر لديها فائض من العدة البشرية ، كما للكويت فائض من المال المعطل ، لو اجتمعت هذه العوامل الثلاثة ، في خطة تجريبية ، لأدرك العالم العربي كله أن شروط الإقلاع والاكتفاء الذاتي هي تحت يده ، عندما يريد النهوض الاقتصادي ، بتعميم التجربة الثلاثية التي أشرنا إليها ، حتى تصير هذه التجربة لبنة عربية ، في أساس الحضارة الإسلامية الجديدة).

 وما يقال في شعب يقال في الأفراد أيضاً ، فما من مجتمع صحيح البنيان إلا كانت صحة بنيته ناتجة من أفراد لا يوحدون نوع العمل ، وتلك الصحة ناتجة عن تلك المساهمة المختلفة من كل فرد ، فهل نستطيع أن نتصور قيام مجتمع ، يتكوَّن كل أفراده من متشائمين ، أو كلهم متفائلين ، وكلهم شعراء أو أطباء ، أو كلهم نجارين أو خياطين.

وكل فرد من الناس يختلف عن الثاني ، بلونه أو لغته ، أو بطعامه وشرابه ، أو بمبادئه وقيمه ، فما أعظمها من نعمة ورحمة ، إنها نعمة التخاليف .

كما أن الإنسان بحاجة إلى الحيوان ، يأكل لحمه ، ويشرب حليـبه ، ويلبس جلده ، والحيوان باختلاف أشكاله وأنواعه بحاجة إلى النبات ، والنبات شتى ، وباختلاف ألوانه وأشكاله بحاجة إلى الجماد والتراب ، وفي الجماد اختلاف في الجبال والسهول وغير ذلك .

قال الله تبارك وتعالى : ] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ  [ ( فاطر : 27 ـ 28 )

 وقال النبي r : (( الأرواح جنود مجندة : فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف )) ( رواه الشيخان )

وقال أبو نواس :

إن القلوبَ لأجناد مجـندةٌ         لله في الأرض بالأهواء تختلفُ

فما تعارفَ منها فهو مؤتلفٌ        وما تنـاكرَ منها فهو مختلفُ