المنظومة التعليمية

المنظومة التعليمية

وهرم الفساد المصري

عصام أبو الدهب

[email protected]

بشكل من الأشكال تعبر المباني المعمارية ذات الأصالة والتاريخ والعمق الوجداني والنفسي في أي مجتمع أو أمة عن آثار كثيرة تتجسد في مفردات اللغة؛ في القيم؛ في منظوماتها الاجتماعية ونظامها السياسي، وأمراضها في ذلك كله.

و في مصر رمز معماري يحمل شيئا غير قليل من هذه المعاني هو الهرم بعجائبه وغرائبه، وهو يصور اصدق تصوير كثيرا من إشكالياتنا وقضايانا، والتي تمثل هرما ضخما مليئا بالأسرار والجهل المكين بكيفية بنائها وبداياتها وتكوينها، وفي الوقت ذاته الخوف الشديد من هدمها أو حتى مجرد التفكير في ذلك، إنه خصوصية مصرية مطلقة وإن وجدت له نماذج هنا اأومكنن  نميبتيمكمكم  ذ  كمنكخ    ح  حح  ننينبنبحأو هناك لكنه يظل صاحب الفرادة التي لا يمكن تخيل مصر بدونه.

والفساد في مصر يمثل هرما رابعا وخامسا وسادسا إلى ما نهاية من الخراب الاجتماعي والاقتصادي والإنساني. يعاني منه المصريون جميعا، وهذا الفساد هو القبر الضخم الذي تدفن فيه كفاءات مصر وإمكانياتها من خلال منظومة معقدة من العلاقات المتراكمة والمترابطة بقوة.

ولا يعنينا هنا الحديث عن الفساد ومظاهره وأعراضه وأسبابه ووسائل علاجه، ولكن ما أنظر إليه وأتأمله هو ما يمكن أن يحدث خلال المنظور القريب من اختراق لهذا الهرم الضخم المتغلغل في حياتنا جميعا، فكلنا كما قال العبقري أحمد زكي في رائعته [ ضد الحكومة ] " كلنا فاسدون؛ لا استثني أحدا ".

وأخذ الأمل العريض يتربع في قلبي ويكبر جنينه يوما بعد يوم في عيني منذ عامين حول الحديث عن إصلاح وضع المعلم باعتبارها الركيزة الأساسية لإصلاح المنظومة التعليمية برمتها؛ إذ فجاءة اكتشف المصريون أننا متأخرون وأن أعظم كنز مصري والمورد شبه الوحيد لمصر العبقرية هو أولادها وبناتها الذين اغتالت مواهبهم وإمكانياتهم نظم تعليمية ملوثة ومريضة وبئيسة لا تنتج سوى أعباء على الدولة وعلى أنفسهم إلا من نماذج قليلة ونادرة.

وتكاملت البشرى واستدار القمر في ليلة بدره، ووافق مجلس الشعب على الكادر الجديد للمعلمين بعد حمل دام سنتين متصلتين من النقاش والجدال بين ترقب وترصد وخوف، ومن قبلهما دراسات ومناقشات ومطالبات وأصوات زعقت بأعلى صوتها حتى خرمت جميع طبول آذاننا من الخطر المحدق بأخطر مؤثر في حياة المصريين وهو التعليم الذي وقع بين سندان تجاهل حكومي يحمل شبهة التعمد غير المقصود؛ وسندان إهمال مجتمعي يوصم بالتغابي والتفريط في حق العقل المصري الذي فقد كثيرا من أهليته في أشياء كنا نحن روادها وأساسها، فليست العملية التعليمية مجرد تدريس القراءة والكتابة أو بعض المعلومات أنها منظومة متكاملة لإخراج الأجيال.

ولعل هذه البشرى التي زفها السيد الرئيس في خطابه إلى مصر وشعبها الطيب ببدء العمل بهذا الكادر الجديد مؤكدا على أن الجودة في التعليم هي أساس وجود الأجيال القادمة، إذ أن الجيلين أو الثلاثة الذين غبر عليهم الزمن قد ضاعوا في ظل وضع تعليمي مؤسف، وأنا أتحدث هنا باعتباري جزءا أصيلا من العملية التعليمية، ولن ندخل في تفاصيل القضية فهي مشاهدة ومعاينة حتى أنها لا تحتاج إلى أي إشارة، لعل هذه البشرى تكون إيذانا بإشارة العبور الثانية بعد حرب أكتوبر المجيدة لاختراق هرم الفساد المصري، الذي لا القوانين ولا المحاكمات ولا أي شيء يمكن أن يحدث فيه أثرا بدون منظومة متكاملة من القيم والأخلاق التي لا تؤسسها الأسر أو المؤسسات الإعلامية بقدر ما تؤثر فيها العملية التعليمية.

وأتصور أن الطالب والطالبة في مختلف مراحل التعليم مصاب بمرضين من أخطر أمراض هذا العصر.

أولهما: إيدز الدروس الخصوصية، واسمحوا لي بهذا التعبير القاسي، فأقولها صادقة من قلبي، إن الدروس الخصوصية هي أخطر معرض تعاني منه العقلية المصرية، إذ أنها تفقده أهليته ومؤهلاته وإمكاناته وحضوره، وهذا المرض لا يظهر عمله التخريبي في عام أو عامين بل يستمر منذ التورط في تعليم الطفل منذ عامه الرابع أو الخامس وحتى حصوله على   شهادته النهائية التي يكون المرض قد وصل فيها إلى ذروته ونهايته، فالطالب الذي يشتري المدرس والمدرس الذي يبذل نفسه من أجل جنيهات الطالب، ومن بينهما رحلة طويلة من إهدار لكل القيم هو حالة من التواصل التعليمي المرضي، أحد الطرفين ملوث بهذا الداء الخبيث فيصيب الآخر، وعلاج هذا المرض يحتاج إلى هبة وطنية قومية تماثل في قوتها وهدوئها ثورة يوليو وإنجازاتها على المستوى الاجتماعي والتعليمي.

ثانيهما: سرطان الامتحانات، وهذه المصيبة تكمل المصيبة الأولى في هدم كيان وعقل الإنسان المصري، هي تضر ضررا بالغا يبقى أثرها كامنا إلى أن تظهر بدون سابق إنذار ولا علاج لها، فالامتحانات في مصر لا تعبر عن مستوى الطالب الحقيقي أو تكشف إمكانياته ومؤهلاته واهتماماته، بل هي مهزلة علمية وتعليمية في كل مراحلنا التعليمية، والمشكلة أنه من السهل وفق مبادئ [ خليك مع مصلحة الطالب، والمعنى في بطن الشاعر، وطالما الولد كتب أديلو درجة، والزيادة أفضل، والمشكلة لو نقصت درجات الطالب، ونسبة النجاح لازم تكون (80%)، ] وهي مبادئ وقيم سائدة في تقييم الطلاب، وهذا أحد أهم أسباب انهيار التنمية البشرية المنوط بها رفع مكانة هذا الوطن خلال العقدين الماضيين وبالتالي انهيار كل منظومة التنمية.

بين هذين المرضيين الخبيثين ضاعت أجيال متعددة، وعلاجها يحتاج إلى إستراتيجية شاملة وواضحة ذات أهداف محددة تتجاوز المصلحة الفردية وتنظر إلى مصلحة هذا الوطن. و لا شك في أن المنظومة التعليمية يعاونها في ذلك إشكاليات اقتصادية قد ساعدت على انتشار الفساد الذي رصدته دراسة استطلاعية لثمانمائة شخص من العاملين في القطاع العام نشرت في المجلة المصرية للدراسات التجارية لأهم مظاهر الفساد في الأداء الحكومي تبين أن ثمة ظواهر من الفساد يقترب المستطلع رأيهم من الإجماع على تفشيها، مثل: عدم احترام الوقت (93%) والمحسوبية (92%) والرشوة (89%) والتسويف في إنجاز المصالح (89%) والإهمال في العمل (60%) وقبول الهدايا (50%) وإفشاء أسرار العمل (44%) وسوء استعمال السلطة (25%)، وجاء في تقرير 'مؤشر مدركات الفساد لعام 2006'  مصر في المرتبة السبعين برصيد ( 3,3%)، والخشية كل الخشية أن يظل الحديث عن الكادر الجديد ويبقى هذا الوصف عالقا به ونصاب بلوثة التكرار الممل كأننا حقا سنصنع المعجزات بهذا الكادر الذي ما هو إلا خطوة أولى على الطريق، إن لم تعقبها خطوات ستصبح عبئا ومرضا آخر يضاف إلى أمراضنا الكثيرة، وهو حقد المجتمع الشامل على المعلمين بهذه الرواتب التي لا تمثل شيئا أمام رواتب موظفي البترول أو الاتصالات أو غيرها من الوظائف المحترمة.

إن التعليم هو أشرف وأكرم وأهم وأخطر وظيفة في مجتمعنا المصري، لقد هب المجتمع الأمريكي في عام 1957م كله بعد أن أطلق الاتحاد السوفيتي أول أقماره الصناعية معتبرا أن هذا الحدث يهدد الأمن القومي الأمريكي، ما جعلهم يعتقدون أن النظام التعليمي هو خط الدفاع الأول لاسيما في مواد الرياضيات والفيزياء، وصدر تقرير في أمريكا بداية الثمانينيات يؤكد أن الحالة التعليمية تعرض أمتهم للخطر، مع أن أرقى المستويات التعليمية تتوفر هناك.

العملية التعليمة تحتاج إلى الكثير والكثير من الأطباء المهرة ذوي الكفاءة وبعد النظر، والابتعاد عن هؤلاء القائمين عليها الذي أصبحت مصلحتهم في بقاء الوضع على ما هو عليه, ولهذا اقترح التالي:

- التفكير في مؤسسة المدرسة التي أصبحت عبئا على الجميع، ففي مصر قرابة (40) ألف مدرسة وهو رقم ضخم وكبير، فلا بد من التفكير في بديل عن المدرسة، وأدعو جميع العقليات المبدعة إلى التفكير في هذه القضية، وليس هذا بدعا أو ادعاء فارغ بل هو تفكير قائم تحت عنوان مجتمع بلا مدارس وفي   هذا الصدد يشير " إليتش" وهو صاحب كتاب يحمل ذات العنوان إلى أننا تعلمنا معظم ما نعرفه خارج المدرسة، ومعظم ما يتعلمه الطلاب يتم دون مساعدة المدرسين، فكل ما يتعلمه الطالب، كيف يعيش ويتكلم ويفكر ويحب ويكره يتعلمه بعيدا عن المدرسة..

وليس هذا معناه إلغاء المدرسة وإنما دعوة إلى التفكير في تطوير إمكانياتها بما يحقق الناتج الحقيقي من التكلفة المادية والاجتماعية المنفوقة فيها. يكفي هذا القطار البشري الذي يستيقظ من الساعة السادسة صباحا والمكون من (27) مليون طالب وطالبة إن لم يكن أكثر، وأكثر من مليون من الهيئة التعليمية يوميا للانتقال إلى المدرسة، وفي الأخير ما المحصلة النهائية في ظل تكدس طلابي يبلغ على الأقل ستين طالبا في الفصل الواحد، وحصة تبلغ (40)   دقيقة تقضى في حالة من التوتر بين مدرس عاجز لا يملك أن يسيطر على الطلاب الذي لهم الحق كله، وطالب يضمن حصوله على المعلومة من المدرس الخاص الذي سيأتيه ليشربه المادة في كأس يحمل عنوان [ هات من الآخر ] و [ إزاي أنجح بدون أي تعب ].

ولذلك اقترح التالي وهي أفكار مطروحة للمناقشة:

-       هيئة مستقلة لتقييم الطلاب

لا نجاح لأي جهود ألا إذا تغيرت نظرتنا إلى فكرة تقييم الطالب من خلال الاختبارات الموضوعة، ولنتجاوز مرحلة البحث عما استفاد منه إلى سبر غور تطلعاته. امتحاناتنا عمياء صماء بكماء، ولذلك فهي تخرج نماذج معوَقة، ومعوِّقة في جميع المجالات، ولذا أنا أطالب بهيئة مستقلة تماما عن وزارة التربية والتعليم تشرف على تقييم الطلاب، ولتستمر عملية التقويم على مدار العام   كله وفق مبادئ الشفافية والجودة، ووفق آليات تحارب الغش والتدليس وهما السمتان الأساسيتان في امتحاناتنا خاصة في سنوات النقل.

-       تقييم المعلم ومكافأته حسب نتائج هيئة التقييم

ويرتبط بهذا ارتباطا وثيقا تقييم المعلم ومكافأته، إذ لو تم الفصل بين سلطة التربية والتعليم، وسلطة التقييم في جميع المراحل العلمية من الابتدائي وحتى   الجامعي، هنا يمكن التعرف على حقيقة عمل المدرس وتقييمه علميا بعيدا عن ترهات وخزعبلات الوضع الراهن القائم على الحفظ والتلقين وحتى هذين المبدأين لم يعدا كما كانا سابقا، إذ أصبح المعلم خبيرا في كيفية إنجاح الطالب بأقل جهد ممكن، ولذلك نجد المعاناة الحقيقة عند وصول الطالب إلى الثانوية العامة والتي نرى فيها شرائح متنوعة من المجتمع المصري تعطي أولادها دروسا خصوصية في المادة الواحدة عند مدرسين وأحيانا ثلاثة هذا للمذاكرة وهذا للمراجعة وذاك للتقييم.

-   دمج اللغتان العربية والإنجليزية

الاهتمام باللغة أساس من أهم الأسس التي تقوم عليها العملية التعليمية الناجحة، وهنا أدعو إلى قنوات خاصة تهدف إلى تعليم اللغة العربية واللغة الإنجليزية جنبا إلى جنبا باعتبارهما أساس النهضة، والملاحظ أن اللغة العربية وبالتالي الإنجليزية في تدني مستمر، وهي كارثة حقيقة، فاللغة العربية هي النهر الذي نستمد منه الوجدان والشعور من خلال التاريخ والدين والتراث والتواصل مع بعدنا العربي والإسلامي، أما اللغة الإنجليزية فهي قناة السويس التي نعبر من خلالها إلى العصر بتقنياته وعلومه وابتكاراته وأبحاثه المتجددة، وليس معنى   هذا أن اللغة العربية ليست لغة العلم بل هي لغة تتمتع بخصائص لا توجد في غيرها ولكن يبقى لكل ذي حق حقه، فالعلم العربي في أسوأ مرحلة من مراحله، والعلم الآن في معظمه يفكر بحروف إنجليزية ويكتب بذات الحروف، ونسخه أو تعريبه لا يعطي العربية قيمة أو يضيف لها شيئا غير شعور فارغ بالاستعلاء على [مبدأ حسنة علمية وأنا سيدك وتاج راسك].

-  تطوير التعليم عن بعد ( الفضائيات – الإنترنت)

تمتلك مصر العديد من القنوات الفضائية التعليمية، ولكنها لا زالت لا تشد انتباه الطلاب وهي   لم تتغير منذ سنين، جامدة باردة، ومن الضروري كي تؤدي دورها المبتغى لها أن يتم تكليف لجان تشمل متخصصين في التربية والمناهج وخبراء من التقنيين ومخرجين على أعلى مستوى، وإشراك الطلاب أنفسهم في إعداد هذه البرامج.

هذه بعض الاقتراحات التي أراها ضرورية وهامة كي نتجاوز المرحلة الحالية بكل ما فيها.