سيحدثونك يا بُنيّ عن السلام

أحمد جمال الحموي*

يا عبير الشهادة يهبُّ رطباً ندياً من هضاب القدس وربى فلسطين وبطاح غزة هاشم مضمخاً بالمسك والعنبر والزعفران ما أطيب عَرفك ، وما أزكى ريحك القدسي الأثير ، وما نَشر العود والخزامى ؟ وما شذى الشيح بجانب العبق الطاهر الفواح .

ومع هذه النسمات العبقة والشذى الفتّان تتردد أنشودة بدايتها أعماق التاريخ ومطلعُ المجد والفخار ، ويا لها من أنشودة سماوية نظمها صوت التكبير ينطلق من أفواه جند الحق المتسربلين بالأكفان ، المشتاقين إلى الجنان ، وصاغ ألحانها صيحات الأبطال المسرعين إلى الميدان ، المتسابقين إلى الشهادة الآملين بالرضوان ، وقد امتزج ذلك كله بزمجرة القنابل وأزيز الرصاص الناطق بما تعجز عنه الفصحاء ـ في نغمٍ عذبٍ شجي يتردد في جنبات القدس وغزة هاشم وأرجاء فلسطين بسنابك خيل أبي عبيدة وإخوانه الأفذاذ ، نعم يتردد في أرجاء فلسطين بجبالها السامقة الطاهرة الشماء ووديانها الحانية حنوَّ المرضعات على الفطيم ، فتهيج الجمادات ويذوب الحديد ويّرقّ قلب الحجارة لذلك اللحن البطولي الساحر المظلوم ، فلا يُطربها بعده نقرُ الدفوف في أويقات السرور ولا غناء العندليب في طرب وحبور وهو يهتز فوق ما يعجبه وما يختاره من أفنان الأشجار وألوان الأزهار ، فقد اختارت أرض فلسطين ما تهوى من نشيد موصول بأسباب السماء وأذِنتْ في إيمان راسخ لما ارتضته من إيقاع ولحن فلم يعد يطربها سواه ولم تعد ترضى إلا إياه .

لكن ثمة قلوبٌ كالحجارة أو أشد قسوة لا ترق ولا تلين على الرغم من هول ما ترى وتعاين ، وإنها لقلوبٌ خليقة بأن تلينها نارُ جهنم وساءت مصيراً .

لك الله يا قدسنا الحبيبة ، يا قدسنا المخذولة ، يا مسرى أعظم الأنبياء وخاتم المرسلين الأصفياء ، لك الله يا غزة هاشم ، يا وسام العز والمجد .

أنذرف دمعةً عليك ؟ وهل يجدي العويل أو البكاء ! أم تذرف دمعة على أنفسنا ونحن نقتات الصمت ونتدثر الجُبن ونمتطي التواري والاختفاء .

 بالله يا فلسطين أجيبي ماذا نفعل ؟ لكأني بصوتك ينداح في الآفاق وتُردد صداه الأرضُ والسموات وأنت في شموخك المعهود وصمودك المعروف المشهود يقول :

ـ أنا ساحة من ساحات النضال وميدان من ميادين الميامين الأبطال ، فهل يعرف الأبطال التواري والاختباء ؟ وهل يلوذون بالعويل والبكاء ؟ أم دأبهم مقارعة الأهوال ، والتشمير كلما دعا الداعي إلى القتال والنزال ، فهي عندهم إحدى الحسنيين : نصر أو شهادة ونوال الجنتين (ولمن خاف مقام ربه جنتان) .

لك الله يا أرض فلسطين المسلوبة فكم تجالدين وكم تكابدين ؟ بينما قلوب المحبين يعتصرها الأسى ويقتلها الحزن والمرارة ، فالأحرار مكبلون ، ومن النجدة والغوث ممنوعون ، بل قد غدا الحزن لأجلك جريمة نكراء ، والاحتجاج لما يصيبك يوقع المحتج في أعظم البلاء ، وأكثر من هذا فالدموع مصادرة يلاحقها ذوو الشأن أكثر من ملاحقة المنكرات : من مخدرات وقتل وسرقات .

بوركت فلسطين من أقصاها إلى أقصاها ، وبوركت يا غزة وأنت تقفين وقفة عز ربانية ، وتسيرين بخطى راسخة ورباطة جأش نبوية ، على هدى إيقاع مهيب ، إيقاع الجهاد الماضي إلى يوم القيامة ، تعزفه الأيدي المتوضئة وقد سطّرت كلماته بالأحمر القاني دماء المجاهدين الأبطال عشاق الجنة حماة فلسطين على امتداد السهول المطمئنة ، وفوق الصخور المضيئة الشماء ، وفي ساحات الأقصى المبارك وتحت مآذنه المشرئبة نحو العلا تهتف بالتوحيد وتعلن به ، وتحت الأنقاض الجاثمة على جثث الطفولة المسكينة المذبوحة ، والشيوخ الضعفاء ، والنساء البائسات المعذبات ، وقد فاضت أرواح هؤلاء إلى بارئها تشكو بلسان الحال ولسان القال خيانة الخائنين ، وجبن الجبناء ، وتهالك المتهالكين على الحطام ورخيص المتع والملذات ، المصدقين بأن فلسطين يردها الكلام المسمى زوراً بالسلام مع الشراذم الطغام ، ولقد صدق من قال :

سيحدثونك يا بني عن السلام

إياك أن تصغي إلى هذا الكلام

لا سلم أو يجلو عن الوجه الرّغام

صدقتهم يوماً فآوتني الخيام

وغدا طعامي من نوال المحسنين

يُرمى إليّ إلى الجياع اللاجئين

فسلامهم مكرٌ وأمنهم سراب

نشروا الدمار على بلادك والخراب

يا فلسطين كل فلسطين ويا قدس أيت    أاأأاا أيتها الدرة الغالية قرّي عيناً ببشارة من لا ينطق عن الهوى ، فالتحرير والتطهير آتيان لا محالة ، و ُيخطئ من يتوهم أننا نبادلك بملء الأرض ذهباً ، فالأحرار ماضون يحررون الأرض ويحمون العرض ويأسون الجراح وإنْ كانت عميقة نازفة فأنت مسرى الروح وخفقة القلب ، فدىً لك الغالي والنفيس ودونك الأجساد والمهج .

أتأذنين لي يا قدس يا قلب فلسطين أن أعود إلى التاريخ القريب لاستخلاص العبر عساه أن يحدثنا : كيف سلبك وسرقك شذاذ الآفاق ، وكيف تعودين ومن الذي سيعيدك إلى حضن الأمة المحبة الملتاعة .

يقول التاريخ : إن قضيتك أيتها الدرة الغالية نشأت عن واقع فاسد مرير ، اجتاح كلَّ صعيد ، في غفلة طارئة من أتباع الحق وحملة مشعل النور والهداية ، ولولا هذا لما كان لقتلة الأنبياء :

المعتدين في السبت

عبدة العجل

ونابذي العهود

وناسبي البخل إلى الله تعالى

الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه

القائلين : إن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة

الطاعنين في عرض السيدة العذراء عليها السلام

الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة

الذين قال الله سبحانه لهم : كونوا قردة خاسئين

حقاً ما كان لمن هذه بعض قبائحهم ورذائلهم أن يدنسوا أرضك ولا يطأ مجرم منهم ساحة مسجدك الذي باركه الله تعالى حتى امتدت البركة بسببه إلى ما حوله (الذي باركنا حوله) نعم ما كان لهم أن يدنسوا أرضك لولا واقع الفساد الطامي والغفلة العارضة .

ويقول التاريخ ومنطق الحق : إن معركة غزة واسترداد القدس جزءٌ من قضية فلسطين واسترداد فلسطين ، وإن قضية فلسطين هي قضية المسلمين جميعاً مهما نأت ديارهم وتباعدت أقطارهم ، وليست قضية حاكم أو رئيس ولا قضية حفنة من المهزومين الخائفين .

وإذا كانت المسألة كذلك فإن فلسطين والقدس على رأسها لن تعود إلا بأمرين اثنين :

1 ـ ظهور قائد مؤمن مخلص شجاع يعيد سيرة صلاح الدين .

2 ـ عودة صادقة إلى الله تعالى وإلى الدين العظيم الذي ارتضاه لنا .

ولكن لماذا صلاح الدين ؟ ويجيب التاريخ : إن صلاح الدين رحمه الله تعالى لم يكن من عبيد الدنيا الذين تستهويهم مباهجها وزينتها وتسلبهم لذائذها ، ولم يكن جباناً متخاذلاً حريصاً على الحياة يُصدر الأوامر من قصور محصنة بعيداً عن ميدان القتال وأرض الكر والفر وساحات الوغى ، وهو يتيه في أبهة السلطان ، ويترنح من سكرة الحكم ، وإنما كان فارساً مقداماً قضى شطر عمره على ظهر جواده ، يجالد أعداء الله ، وأعداء الخير ، ويقاتل الوحوش المترائية بصورٍ بشرية ، الزاحفة من بلادٍ بعيدةٍ تريد أن تطفئ نور الله وهيهات هيهات ، فإذا ما غلبه الإعياء استلقى ذلك البطل على الأرض يلتحف السماء أو يستظل بخيمة متواضعة توحي بعظمة نفسه المتطلعة إلى السماء المستخفة بسقط المتاع .

لقد كان في نفسه من أمر القدس همٌّ عظيم لا تحمله الجبال ، يجول بفرسه في سوح القتال وهو كالوالدة الثكلى يحث الناس على الثبات وينادي : يا للإسلام .. وعيناه تذرفان الدموع تذللاً لله واستعطافاً لجوده وكرمه .

ويروي التاريخ الصادق : الكثير عن حبه للجهاد وعشقه له ، وشغفه به ، حتى كان جل حديثه عنه ، وكان أكثر وقته فيه ، لا يبالي بما يصيبه بسببه ، ولا يهاب عدوه ، بل كان هو الذي يلقي الرعب في قلوب أعدائه ، وعندما فارق الحياة لم يجدوا معه ما يكفي لتجهيزه ومواراته الثرى ، ألسنا بحاجة إلى مثل هذا القائد العظيم !.

أما العودة إلى الله عز وجل وإلى دينه فإنما يفهم مغزاها من فهم الإسلام ودوره في الحياة ومن كان كذلك لا يرتاب في هذا المطلب وأهميته .

وبهذين الأمرين تعود فلسطين وعلى رأسها القدس وتنجو غزة العزة ويقول الحجر والشجر :(يا مسلم .. يا عبد الله .. هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) .

أرأيت ماذا يقول الحجر والشجر؟ (يا مسلم) ويتبعها بنداء آخر (يا عبد الله) إسلام وعبودية خالصة . وعلى يد هؤلاء المسلمين الذين أخلصوا العبودية لله تعالى تعود فلسطين وتعود القدس فهل نصحو فقد طال النوم والرقود وآن أوان النهوض .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.

               

* عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام.