الحياة الدينية في شبه الجزيرة العربية

في العصر الجاهلي

محمد أفقير(صهيب)

باحث في تاريخ الإسلام

[email protected] 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.

 من المؤكد تاريخيا أن شبه الجزيرة العربية من أهم بقاع الأرض، التي عرفت الأديان السماوية. ومن الثابت، كذلك، أن كل الرسالات التي عرفها تاريخ البشرية نزلت على رسل، إما نشأوا في شبه جزيرة العرب أو على مقربة منها. ومهما حاولنا تعليل تشريف الله جلت قدرته هذه البقعة من المعمورة برسالات السماء واختصاصها بها، فلن نصل إلى كنه الحقيقة، لأن الله وحده هو الذي يعلم حيث يجعل رسالاته. ومع هذا، فإن شبه الجزيرة العربية كانت، بصفة عامة، تعيش قبيل ظهور الإسلام عهدا وثنيّا، فكيف يتفق هذا مع كونها مهدا للأديان السماوية؟ ومن أين جاءتهم الوثنية إذن؟ وكيف دخلت إلى شبه جزيرة العرب؟.

 عـرفت بـلاد العرب التوحيد قبـل الدعوة المحمدية بزمن طويـل، فقد نزلت فيهـا رسـالات سمـاويـة؛ رسـالة هود عليه السلام فى جنوبى شرقى الجـزيـرة العـربيـة([1])، ورسـالة صـالح عـليه السـلام في شمـاليهـا الغربـى([2])، كمـا عرفت التوحيد من رسـالة إسمـاعيـل عليه السلام، الذي بعث بمكة المكرمة، قال المسعودي(ت346هـ/ 957م): "أرسله ـ الله تعالى ـ إلى العماليق وجرهم وقبائل اليمن([3]). ولكن، بمرور الزمن نسوا هذه الرسـالات، وتحولوا إلى الوثنيـة وعبادة الأصنام، وأصبح لهم آلهة كثيرة مثل: هُبل واللات والعزى بفعل التغيرات التي حدثت في النفوس والمجتمعات، وبفعل التواصل الثقافي بين شبه الجزيرة العربية، والمناطق الوثنية.

 ذكر الشامي(ت942هـ/ 1536م) في "سبل الهدى" أن سبب اتخاذ أهل مكة للأصنام، معبودا من غير الله، وقد كانوا على دين إبراهيم الخليل، هو اتصالهم بأهل الشام وقد كانوا وثنيين([4]). والسبب، حسبما يذكر، أن عمرا بن لحي خرج إلى أرض الشام، وبها قوم من العمالقة يعبدون الأصنام، "فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها، نستنصرها فننصر، ونستسقي بها فنسقى، فقال: ألا تعطونني منها صنما، فأسير به إلى أرض العرب، عند بيت الله الذي تفد إليه العرب؟ فأعطوه صنماً يقال له هبل، فقدم به مكة، فوضعه عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة([5]). فهل هذا الزعم القائل بأن عمرا بن لحي هو أول من أدخل الأصنام إلى مكة صحيح من وجهة نظر قرآنية أم لا؟.

 القصة المشهورة التي تحكي أن عمرا بن لحي الخزاعي هو أول من أدخل الوثنية إلى بلاد العرب من الشام إلى الحجاز، وإلى بقية شبه الجزيرة، يبدو أنها ليست حقيقة تاريخية ثابتة. فمن تتبع قصص الأنبياء الذين نشأوا في شبه الجزيرة العربية في القرآن الكريم، يتضح له أن المنطقة عرفت الوثنية قبل أن تعرف الرسالات، فعندما تقول قبيلة عاد وهم من العرب البائدة لهود عليه السّلام: Cيا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَB([6]). يفهم أنهم كانوا يعبدون آلهة وثنية من دون الله، ومعناه، أيضا، أن جزيرة العرب عرفت الوثنية قبل عمرو بن لحي. ولما امتنّ الله على هذه البلاد بالرسالات آمن بها من آمن، وظل على وثنيته من ضل، إلى أن كانت رسالة إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام في الحجاز، آمن من آمن وكفر من كفر، كما هو حال الناس مع الدعوة في كل زمان. ومع الزمن لم يبق من شريعتهما إلا صور قليلة ومراسم ظلت في عقول وقلوب قلة من الرجال، أدركوا فساد عبادة الأوثان، وانعكاساتها السلبية على الفرد وعلى المجتمع أمثال ورقة بن نوفل([7]).

 وبطبيعة التأثير المجتمعي على الفرد فقد تحولت الأصنام والأوثان إلى البيوت والمحافل، وتعددت أشكالها فصارت كل قبيلة لها صنم، يصلون له تقرباً إلى الله فيما يزعمون. والصنم أو الوثن هو تمثال على هيئة إنسان أو جني أو ملاك، يصنعه الإنسان ليعبده ويتخذه إلهاً أو واسطة، ويتقرب إليه بالدعاء والتذلل والخضوع، فهو على الإطلاق ما صنعه الإنسان وعبدهُ لأجل التقرب إلى الله. وقد عرض ابن منظور(ت711هـ/ 1311م) لمواقف اللغويين في الفرق بين الصنم والوثن فقيل: إن الوثن هو ما صنع من الحجارة، والصنم ما صنع من مواد أخرى كالخشب أو الذهب أو الفضة أو غيرها من الجواهر، وقيل: إن الصنم ما كان له صورة أما الوثن فهو مالا صورة له([8]). ولربما، في تقديري، قد تأول بعض العرب الجاهليين في المسألة؛ ما الأفضل الصنم أو الوثن؟ وربما رأى الشخص منهم أن معبوده الوثن أفضل من الصنم، أو أن الصنم حرام عبادته، أما الوثن فإنه لا حرج في التزلف به إلى الله، بحجة أنه لا يجسد ذاتا بعينها لإنسان أو سواه، أو غير ذلك من التأويلات والتبريرات النفسية، ولهذا جاء النص القرآني وذكر كلا من الأصنام والأوثان وساوى بينهما في القبح والشرك. ورد ذكر كلمة الأصنام معرفة في القرآن الكريم في سورة إبراهيم، في قوله تعالى على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام: Cوإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيرا من الناسB([9]). ووردت الكلمة نكرة في قوله عز من قائل: Cوجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملونB([10]). فقد حكم الله ببطلان التوجه لغير الله الواحد الأحد، أما لفظ وثن فقد تكرر ذكره في كتاب الله، ومنه قوله جل اسمه: Cذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزورB([11])، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان([12]). فقد حرم الله تعالى الأوثان واعتبرها رجسا، كما حرم وقبح الأصنام مطلقا، لارتباط الناس بها وجدانيا وفكريا وثقافيا، أي إشراكهم بالله بالمفهوم القرآني.

 قال ابن إسحاق(ت151هـ/ 768م) :"واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله"([13]). ولهذا لما بعث الله نبيّ التوبةِ بالتوحيد، كعقيدة وفكرة ثقافية تعيد صياغة العقل العربي، وتعيد بناء المجتمع على أسس إسلامية جديدة، تساءل الناس، خاصة القريشيين الذين فاجأتهم الدعوة بهذا الانقلاب الفكري على كل الثوابت القرشية، فقالوا: Cأَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌB([14]). فكيف العمل بالآلهة؟ إساف ونائلة اللذين كانا على موضع زمزم، وكان سكان مكة ينحرون عندهما"([15]). وكيف سيصير منظر الكعبة ومحيطها الذي ألفه العرب بشكل معين، وقد أحاطت بها الأوثان والأصنام؟ وماهي وضعية المستفيدين من الهدايا والأموال، التي تقدم إلى الأصنام، وقد استغلوا هذا التخلف المجتمعي لجمع الثروة، وتكريس الوضعية الاقتصادية والمفارقات الاجتماعية؟ فقد "كان للكعبة سدنة([16]) وحجاب([17])، وتحيط بها هالة من التقديس، إلى غير ذلك من المظاهر الثقافية الشركية، كل هاته الأسئلة والانشغالات عمقت من رفض القياديين والمتشبعين بعقيدة التعدد (في هذا المجتمع) لدعوة التوحيد، ولهذا "يطلق على العرب نعت: (الذين أشركوا) سمة لهم واسما لزمهم، وإن كان غيرهم ممن تقدم شاركهم في عبادة غير الله تعالى، فإن هذا الاسم لا يطلق إلا على العرب"([18]). هذا، وللإشارة، فإن الشرك ليس هو الإلحاد وليس هو الكفر، إنما ـــــ الشرك ـــــ هو اعتقاد بوجود الله تعالى وإشراك غيره معه، فعلى الرغم من انتشار عبادة الأصنام انتشارًا واسعًا في بلاد العرب، فإن هناك ما يدلُّ عـلى أنهم لم يكونوا يعتقدون فـيها اعتقـادًا حقيقيّاً، فـيحكي القرآن الكريم عـلى لسـانهم قولهم: Cمَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىB([19]). وهذا دليل قاطع على أنهم لم يكونوا ملحدين، إنما عيبهم كان هو الاعتقاد في الوساطة بين العبد وربه. طبعا مع وجود استثناءات، إذ منهم من رفض عبـادة الأصنـام رفضًا قـاطعًا، وهم الذين سُمُّوا بـالحنفـاء(الحنيفية) كما يقول الإخباريون([20])، كورقة بن نوفل(ت نحو 12ق.هـ/ 611م)، و زيد بن عمرو بن نُفيل(ت17ق.هـ/ 606م)، وعثمان بن الحويرث(ت565هـ)، و عبيد الله بن جـحش(ت حوالي 6هـ)، وقس بن سـاعدة الإيـادى، وهـؤلاء لم تقبـل أذهـانهم عبادة الأصنام، وكل منهم طرح على نفسه سؤال: من أنا وما مصيري؟ هذا السؤال الذي يشغل إنسان الفطرة. فانبعثوا في طلب الحقيقة، فاعتنق بعضهم المسيحية، وترقب بعضهم الآخر ظهور الدعوة الخاتمة([21]). وقد انتقد جواد علي(ت1408هـ) في "المفصل" رواة الأخبار في نسبتهم من ذُكر وغيرهم إلى الحنفية أو إلى المسيحية واليهودية، وأرجع السبب إلى خلطهم في بعض الأحيان بين النصرانية وبين هؤلاء الذين أنكروا عبادة الأصنام واعتقدوا التوحيد. قال: "الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المثل الأخلاقية، التي كانت سائدة في ذلك الزمن، ودعت إلى إصلاحات واسعة في الحياة، وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية، التي كانت متفشية في ذلك العهد"([22]). وقال: "دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الأصنام، ومن إسفاف في شرب الخمر، ولعب الميسر، وما شاكل ذلك من أمور مضرة"، وأضاف: "فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كل زمن ينادون بالإصلاح، وقد أثارت دعوتهم، هذه، المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الأوثان، شأن كل دعوة إصلاحية"([23]).

 وعندي، أن الأحناف قوم زايلوا المجتمع القريشي، ليس احتجاجا على الفساد الاجتماعي فحسب، بل على الفساد العقائدي أولا. والدليل هو أنهم خرجوا يلتمسون دين إبراهيم عليه السلام قبل مبعث نبي المرحمة ، قال صاحب "المنمق": "وقال بعض هؤلاء لبعض: أتعلمون والله ما قومكم على شيء؟ لقد أخطأوا دين إبراهيم عليه السلام، ما حجر نطيف به لا يضر ولا ينفع ولا يبصر ولا يسمع"([24])، فالواضح، أن احتجاج هاته الجماعة على قريش كان بالأساس بسبب بعدهم عن دين إبراهيم الخليل، الذي هو الحنيفية، مما يدل دلالة واضحة على هيمنة البعد الديني على فكر من تسموا لدى الإخباريين بالحنفاء([25])، أو طلاب الحنيفية([26])، وهي دين إبراهيم([27])، أما لفظ الأحناف فإن الوحيد الذي استعمله هو جواد علي(ت1408هـ)، استعمله كثيرا في "المفصل في تاريخ العرب" مرادفا لمفهوم الحنفاء([28])، في حين أن غيره من أهل اللغة والرواية والأخبار والفقه يطلقون الأحناف على أتباع الإمام أبي حنيفة النعمان(ت150هـ/ 767م)، والمنسوبين إليه([29]). ومعنا دليل آخر يؤكد أن الجماعة كانت تبحث عن الحنيفية والدين الإبراهيمي الصحيح، أورد ابن كثير(ت774هـ/ 1373م) في "البداية والنهاية" قولا منسوبا إلى ورقة بن نوفل(ت نحو 12 ق.هـ/ 611م) حدث به جماعة الرافضين للوثنية قال لهم: "يَا قَوْمِ الْتَمِسُوا لأنفسكم الدين، فَخَرَجُوا عِنْدَ ذَلِكَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَسْأَلُونَ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ"([30])، ولا يعني (قولي هذا) أن هؤلاء الموحدين الباحثين عن الحنيفية بعد هذا الموقف الواضح من الأوثان والأصنام، كانوا على رأي واحد ودين واحد كالذي يفهم مثلًا من قولنا مسلمين أي على شريعة الإسلام، بمعنى أنهم كانوا جماعة منظمة تسير على منهاج شريعة إبراهيم ولها عبادة محددة، إنما كان أولئك الأحناف نفرًا من قبائل مختلفة، اتفقت رؤيتهم حول رفض عبادة الأصنام. وليس كما يقول جواد علي(ت1408هـ) أن فكرتهم اتفقت في الدعوة إلى إصلاحات واسعة في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية، التي كانت متفشية في ذلك العهد، وأنهم رفعوا أصواتهم بذلك، وأن دعوتهم قد أثارت المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الأوثان شأن كل دعوة إصلاحية([31]). فإنه لم يثبت أنهم دعوا الناس إلى ما اقتنعوا به لسبب من الأسباب كخوف أو غيره، كما لم تحدث أية مواجهة بينهم وبين من سماهم المحافظين، إلا ما كان من زيد بن عمرو بن نفيل(ت17ق.هـ/ 606م) فإنه قد أعلن دعوة التوحيد وناهض الفساد، لكن قام بذلك بمفرده([32])، وقد أوذي إيذاء شديدا. "كان الخطاب ـ عمه ـ قد آذاه أذى كثيرا حتى خرج به إلى أعلى مكة ووكل به شبابا من قريش وسفهاء من سفهائهم، لم يكونوا يتركوه يدخل، فكان لا يدخلها إلا سرا منهم، فإذا علموا به أخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم، أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه([33])، وهو الذي بشر النبي البشير بفوزه برؤية وجه الله تعالى، قال عنه: "يبعث أمّة وحده"([34])، وهو القائل في الجاهلية:

أسلمت وجهي لمن أسلمت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ له الأرض تحمل صخراً ثقالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ له المزن تحمل عذباً زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ له الريح تصرف حالا فحالا"([35]).

 وإذا كـانت الوثنيـة قد سـادت بـلاد العرب، فـإن اليهوديـة والمسيحية عـرفـت، أيضا، طريقهـا إليهـا، فتركزت المسيحيـة في نجران التي كـانت وقتئذٍ من أرض اليمن([36])، وأكبر القبائل النصرانية كانت "غسان وعاملة وبهراء ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم"([37]). فأما قبيلة غسان وهم "أولاد عم الأنصار أوسها وخزرجها"([38])، فكانوا عمالاً للقياصرة على عرب الشام، فتأثروا بهم وتنصروا. وقد كان أن "غلبت غسان على من بالشام من العرب، فملكها الرومُ على العرب، فكان أول([39]) ملك من ملوك غسان بالشام الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس"([40]). "وكان جبلة ـ بن الأيهم ـ آخر ملوك غسان"([41]). وإلى جبلة بن الأيهم ،هذا، "كتب رسول الله يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، وكتب بإسلامه إلى رسول الله ، وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلماً حتى كان في زمن عمر بن الخطاب(ت24هـ) فتنصر في جماعة من أصحابه ولحق بالروم"([42]). وكذلك "بنو ثعلب بن وائل- وهم- من أعظم بطون ربيعة بن نزار، ولهم محل في الكثرة والعدد، وكانت مواطنهم بالجزيرة في ديار ربيعة، وكانوا على دين النصرانية في الجاهلية"([43]). وقد "حاربوا المسلمين مع غسان وهرقل أيام الفتوحات، وسائر نصارى العرب"([44]).

 أما اليهودية فقد استقرت شمال الحجاز، فى يثرب وخيبر وفدك ووادى القرى وتيماء([45]). حسب محمد مهران(ت2008م). وذكر الشهرستاني(ت548هـ) سبب توافد اليهود على يثرب، حيث بنى أسلافهم الحصون والقلاع بقرب المدينة؛ لنصرة رسول الله نبي آخر الزمان؛ فأمروهم بمهاجرة أوطانهم بالشام إلى تلك القلاع والبقاع؛ حتى إذا ظهر، وأعلن الحق بفاران - مكة-، وهاجر إلى دار هجرته يثرب/ العاصمة طيبة هجروه، وتركوا نصره؛ وذلك قوله تعالى: Cوَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَB([46])"([47]). والظاهر أن الطائفة اليهودية بشبه الجزيرة قد أثرت في باقي العناصر في نواحي متعددة، وللمؤرخين رأي في مظاهر التأثير، يرى توفيق برو أنهم تركوا في المنطقة "تأثيرًا مهمًّا من حيث الزراعة والصناعة والتجارة، إذ أدخلوا إليها أنواعا جديدة من الأشجار، وطرقا جديدة في الزراعة: حفروا الآبار وعملوا في تربية المواشي والدواجن، وعملت نساؤهم في نسج الأقمشة"([48]). ويضيف جواد علي(ت1408هـ) بالإضافة إلى أدوار اليهود التجارية والفلاحية بأنهم كانوا "يقرضون الأموال بالربا الفاحش للأعراب، ويحترفون بعض الحرف مثل الصياغة، وهي حرفة اشتهروا بها منذ القديم، ويعقدون الأسواق ليقصدها الأعراب للامتياز"([49]). غير أن التجارة كانت غالبة على أنشطتهم الاقتصادية، ولدينا أدلة تند عن الحصر تفيد اشتهار اليهود بالتجارة، ولقد أحرز بعضهم مثل أبي رافع بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ(ت4هـ)، اليهودي الذي قتله المسلمون في خيبر(7هـ)، شهرة واسعة، وأصاب أموالا طائلة، فكان يكنى بتَاجِر أَهْلِ الْحِجَازِ([50])، إذ كان يرسل بضاعته بواسطة القوافل إلى الشام، ويستورد الأقمشة المختلفة منها. وقد احتكر اليهود تجارة البلح والشعير والقمح (خاصة)، وبلغ ثراؤهم من التجارة مبلغا جعل العرب يلجأون إليهم لاستدانة المال لقاء رهن أمتعتهم لديهم، وكان الربا شائعا بينهم. ومما اشتهروا به صناعتهم المعدنية، كالصياغة والحدادة وصنع الأسلحة والدروع والخوذ([51]). وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي(ت597هـ/ 1201م) أن ابْن أَبِي الْحُقَيْق وظف تلك الأموال في حرب رسول الله محاولا إحباط الدعوة([52]).

 ومن العجيب، أن اليهوديـة والنصرانيـة لم تنتشرا على نطاق واسع في بــلاد العـرب، ولعــل ذلك يكون راجـعا إلى أن اليهوديـة تُعدُّ ديـانـة مغـلقـة على نفسها لعصبية أهلها، فـأهـلها كانوا يعتبرونها ديانة خاصة بهم، فلم يدعوا أحدًا إليها، إلا نادرا، ولم يـرحِّبوا بـاعتنـاق غيرهم لهـا([53])، أمـا المسيحيـة، فعـلى الرغم من أنهـا ديـانـة تبشيريـة، وأهـلهـا يرغبون في نشرهـا في العالم، فإنه يبدو أنهـا حين وصـلت إلى بـلاد العرب كـانت قد بـلغت درجة من التعقيدات والخلافات المذهبية، لم تستسغها عقول العرب، أو لعدم قابلية اليثاربة لأي دعوة دينية لانشغالهم بالحروب. فقد أسفر العداء الطويل بين الأوس والخزرج عن حرب طاحنة يوم بُعاث. قيل: "مكثوا أربعين يوماً يتجهزون للحرب، والتقوا ببُعاث، وهي من أعمال قريظة، فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعا"([54]). وإلى جوار الأوس والخزرج بيثرب كانت "قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، منهم قريظة والنضير وبنو قينقاع"([55])، وبنو ماسلة وزعورا وغيرهم، وقد بنوا لهم حصوناً يجتمعون بها إذا خافوا"([56]). وقد انخرطوا في الحياة الاجتماعية العربية بكل تفاصيلها، وكانوا طرفا في الحرب، وقد ثبت تاريخيا أنهم شاركوا في حرب بعاث. يذكر ابن الأثير(ت699هـ/ 1299م) في معرض حديثه عن تلك الحرب: "أن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر، واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم، ودخل معهم قبائل من اليهود"([57].

 وأخيرا، فبالإضافة إلى عبادة الأصنام والأوثان واليهودية والمسيحية فقد "كانت المجوسية في تميم، ـ ومنهم زرارة بن عدس وابنه حاجب والأقرع بن حابس"([58]) ـ في الْبَحْرَيْنِ([59])، وكانت "الزندقة([60]) والتعطيل([61]) في قريش"([62]). وربما وجدت اعتقادات أخرى!؟ ولا شك أن للأوضاع الدينية بشبه جزيرة العرب انعكاسات على الثقافة والمجتمع.

(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.

               

([1]) ـ ابن قتيبة الدينوري، المعارف. ط.2، تحقيق: ثروت عكاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ـ مصر 1992م، ص. 28.

([2]) ـ انظر: الإصطخري، المسالك والممالك. دار صادر، بيروت 2004م، ص. 19.

([3]) ـ انظر: المسعودي، أخبار الزمان ومن أباده الحدثان وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران. ص. 103.

([4]) ـ "كان الناس قبل المبعث من زمن نوح عليه السلام إلى زمن المبعث عباد أصنام إلا من استجاب للرسل منهم، وهذه الضلالة اشترك فيها العرب والعجم، وعبد كثير من العجم النار وهم المجوس"./ انظر: الشامي، سبل الهدى والرشاد. 175:2.

([5]) ـ الشامي، سبل الهدى والرشاد. 2: 177. (بتصرف).

([6]) ـ سورة هود: من الآية 53.

([7]) ـ انظر: المسعودي، التنبيه والإشراف. تحقيق: عبد الله إسماعيل الصاوي، دار الصاوي، القاهرة ـ مصر (بدون تاريخ)، ص. 160./ ابن حبيب، المنمق في أخبار قريش. تحقيق: خورشيد أحمد فاروق، ط. 1، عالم الكتب، بيروت ـ لبنان 1405هـ/ 1985م، ص. 153./ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. تحقيق: محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، ط.1، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان 1992م، 3: 184.

([8]) ـ انظر: ابن منظور، لسان العرب. مادة: صنم، 12: 349.

([9]) ـ سورة إبراهيم: الآيتان 45 ـ 46.

([10]) ـ سورة الأعراف: الآية 138.

([11]) ـ سورة الحج: الآية 30.

([12]) ـ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم. 5: 419.

([13]) ـ ابن كثير، السيرة النبوية. 4 أجزاء، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان 1971م، 70:1.

([14]) ـ سورة ص: الآية 5.

([15]) ـ ابن هشام، السيرة النبوية. تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، جزآن، ط.2، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر 1375هـ/ 1955م، 82:1. (بتصرف).

([16]) ـ السَّادِنُ: خادم الكعبة وبيتِ الأَصنام والجمع السَّدَنَةُ، وقال ابن بري: الفرق بين السَّادِنِ والحاجب أَن الحاجب يَحْجُبُ وإِذْنُه لغيره، والسَّادِنُ يحجب وإذنه لنفسه، والسَّدْنُ والسِّدانة الحِجابة سَدَنه يَسْدُنه والسَّدَنة حُجَّاب البيت وقَوَمةُ الأَصنام في الجاهلية. ابن منظور، لسان العرب. مادة: سدن، 13: 207.

([17]) ـ نفسه، ص.83. (بتصرف).

([18]) ـ الشامي، سبل الهدى والرشاد. 175:2. (بتصرف).

([19]) ـ سورة الزمر: الآية 3.

([20]) ـ انظر: المسعودي، التنبيه والإشراف. مصدر سابق، ص. 160./ ابن حبيب، المنمق في أخبار قريش. ص. 153./ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. 3: 184.

([21]) ـ انظر: ابن حبيب، المحبر. ص. 171.

([22]) ـ جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام. 12: 38.

([23]) ـ المكان نفسه.

([24]) ـ ابن حبيب، المنمق في أخبار قريش. ص. 153.

([25]) ـ انظر: المسعودي، التنبيه والإشراف. ص. 160./ جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام. 12: 37 وما بعدها.

([26]) ـ انظر: ابن كثير، البداية والنهاية. 2: 297.

([27]) ـ الخليل بن أحمد، العين. 8 أجزاء، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، بغداد ـ العراق 1985م، 3: 248.

([28]) ـ انظر: جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام. 15: 108 وما بعدها.

([29]) ـ انظر: مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس. 23: 183./ الطرسوسي، تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك. تحقيق: عبد الكريم محمد مطيع الحمداوي، ط.2، دار الحق، بيروت ـ لبنان 2000م، ص. 93.

([30]) ـ ابن كثير، البداية والنهاية. 2: 416.

([31]) ـ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. 12: 38. (بتصرف).

([32]) ـ انظر: ابن حبيب، المحبر. ص. 171.

([33]) ـ ابن كثير، البداية والنهاية. 2: 297. (بتصرف).

([34]) ـ ابن قتيبة، المعارف. ص. 59.

([35]) ـ ابن إسحاق، السيرة النبوية. تحقيق: سهيل زكار، ط.1، دار الفكر، بيروت ـ لبنان 1978م، ص. 117.

([36]) ـ انظر: البَلَاذُري، فتوح البلدان. دار ومكتبة الهلال، بيروت ـ لبنان 1988م، ص. 74.

([37]) ـ ابن كثير، السيرة النبوية. 1: 12.

([38]) ـ انظر: الشامي، سبل الهدى والرشاد. 4: 285.

([39]) ـ اختلف المؤرخون حول أول ملوك غسان./ انظر: جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام. 6: 91.

([40]) ـ نفسه، 6: 89. (بتصرف).

([41]) ـ ابن كثير، البداية والنهاية. 8: 69.

([42]) ـ انظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن. 9: 364. (بتصرف).

([43]) ـ ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر. 4: 227.

([44]) ـ المكان نفسه. (بتصرف).

([45]) ـ انظر: محمد مهران، دراسات في تاريخ العرب القديم. ص. 399./ توفيق برو، تاريخ العرب القديم. ص. 307./ عبد العزيز بن صالح، تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة. ص. 185.

([46]) ـ سورة البقرة: الآية 89.

([47]) ـ الشهرستاني. الملل والنحل. 3 أجزاء، مؤسسة الحلبي، (بدون تاريخ)، 2: 15. (بتصرف).

([48]) ـ توفيق برو، تاريخ العرب القديم. ص. 307.

([49]) ـ جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام. 12: 108.

([50]) ـ ابن كثير، البداية والنهاية. 3: 289. (بتصرف).

([51]) ـ محمد إسماعيل الجوادي، اليهود في شبه الجزيرة العربية خلال القرنين 5 و6م. جزآن، ط.1، دار الثقافة للطباعة والنشر، غزة ـ فلسطين 1991م، 1: 121.

([52]) ـ انظر: ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. 3: 262.

([53]) ـ انظر: محمد أبو زهرة، خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم. 3أجزاء، دار الفكر العربي، القاهرة 1425هـ، 1: 39.

([54]) ـ ابن الأثير، الكامل في التاريخ. 538:1. (بتصرف).

([55]) ـ ابن كثير، السيرة النبوية. 1: 11.

([56]) ـ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 229:1. (بتصرف).

([57]) ـ نفسه. 538:1.

([58]) ـ ابن سعيد الأندلسي، نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب. ص. 76./ ابن قتيبة الدينوري، المعارف. ص. 621.

([59]) ـ ابن الأثير، الكامل في التاريخ. 1: 525.

([60]) ـ الزنديق: هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر. وقيل الملحد والدهري، وقيل الزندقة فرقة من الثنوية من المجوس. /البعلي، المطلع على ألفاظ المقنع. تحقيق: محمود الأرناؤوط وياسين محمود الخطيب، ط.1، مكتبة السوادي للتوزيع، 2003م، ص. 462./ الأحمد نكري، دستور العلماء: جامع العلوم في اصطلاحات الفنون. 4أجزاء، عرب عباراته الفارسية: حسن هاني فحص، ط.1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان 2000م، 2: 113. /الرازي، مختار الصحاح. تحقيق: يوسف الشيخ محمد، ط.5، الدار النموذجية والمكتبة العصرية، بيروت ، صيدا ـ لبنان 1999م، ص. 138.

([61]) ـ القاضي عياض، إبطال النبوة: مشارق الأنوار على صحاح الآثار. جزآن، المكتبة العتيقة ودار التراث، (بدون تاريخ)، 1: 311.

([62]) ـ المقدسي، البدء والتاريخ. 4: 31.