أنا ونزار "من يوميات امرأة محاصرة"

أنا ونزار "من يوميات امرأة محاصرة"

سما حسن - فلسطين

ربما حين انفردت قناة دبي الفضائية بعرض مسلسل حياة الشاعر الكبير نزار قباني خلال شهر رمضان قبل ثلاث سنوات كنت حريصة بل أحرص الناس أو النساء لمتابعة هذا المسلسل لأنني أريد أن أعرف أشياء جديدة عن هذا الشاعر الذي شغل حياتي منذ سنوات عمري، الأربعة عشر الأولى..

.لقد قرأت الكثير عن الشاعر الكبير سواء أشعارا ً أو بعضا ً من حياته الخاصة وما مر به من مآس ٍ .. ولكن حين تابعت هذا المسلسل شعرت أنني عشت معه يوما ً بيوم بل لحظة بلحظة.. وعادت بي الذاكرة إلى تلك الأيام التي تعرفت فيها إلى نزار قباني شاعرا ً، وبالتحديد شاعرا ً للمرأة وعن المرأة، وحين كانت زميلاتي يتداولن سرا ً بينهن واحدا ً من كتبه ودواوينه كان ذلك الديوان يحمل عنوان أحبك أحبك والبقية تأتي”. كانت زميلاتي يمررن الكتاب من بين المقاعد في فصلنا الثامن كما يمرر تلاميذ نفس الفصل بقايا سيجارة بينهم في غفلة عن شرح المدرس، وهكذا كنا نحن التلميذات، ورغم أننا كنا متفوقات إلا أن تمرير ذلك الكتاب شغلنا عن درس مهم في الرياضيات كانت تشرحه المعلمة، ما زلت أذكر أول تأنيب نلته في حياتي كتلميذة حين طلبت مني المعلمة أن أعيد على مسامعها ومسامع زميلاتي شرح نظرية لا أذكرها وإن كنت لا أزال أذكر رسمها، وكانت المعلمة متأكدة أنني لست متابعة للشرح بل كانت يداي تعبثان من تحت المقعد بحثا ً عن الكتاب الذي نتجاذبه أنا وزميلاتي، وكنت أريد أن أجذبه وأخفيه في جعبتي المدرسية وكأنني أعلن بهذه الخطوة أنني من ستأخذ الكتاب إلى بيتها في ذلك اليوم حتى صباح اليوم التالي، ولكن ذلك لم يتحقق لي سريعا ً كما توقعت وخططت، فقد تلقيت تأنيبا ً من معلمتي لأول مرة في حياتي، وحين انتهت الحصة وأصبحنا في ساحة المدرسة قررت زميلاتي منحي الكتاب بصفة خاصة عوضا ً عن التأنيب الذي نلته من معلمتي بسبب الكتاب.وحين عدت إلى البيت وأنا فرحة بما أحمل من كنز لا يزال صندوقه مغلقا ً لم أكن أعرف أن هناك تأنيبا ً آخر ينتظرني، فرغم أن والدي كان متعلما ً وجامعيا ً ومثقفا ً لكنه كان يضع قائمة من الممنوعات في بيتنا تجعلني أشك في كونه كذلك، وكان من بين هذه الممنوعات… ممنوع منعا ً باتا ً أن أغلق باب حجرتي التي تشاركني بها أختي الوحيدة مهما كانت الأسباب، فجلست أقرأ الكتاب محاولة أن أخفيه بين طيات الغطاء الذي أتدثر به فقد كان الجو ماطرا ً باردا ً في ذلك الوقت من السنة، ولكن والدي لمح بطرف عينه وبذكاء يحسد عليه أنني أقرأ كتابا ً ليس من المنهج الدراسي، فقد كانت تلك هي العادة الثانية التي يمارسها أبي حيث يدلف إلى حجرتي أنا وأختي ويقلب في الكتب والكراسات ويفتح الأدراج ويقرأ عناوين أشرطة الكاسيت، دون أن ينطق بحرف واحد ثم يخرج.أما هذه المرة فهو لم يخرج لأنه انهال علي ّ تأنيبا ً وتوبيخا ً وقال كلاما ً كثيرا ً عن نزار، وطبعا ً كلام لا تجيزه الرقابة لكي يكتب ويقرأ ولكن ما تجيزه الرقابة أن هذا النزار حسب قول أبي يحرض الفتيات على الفسق والفجور منذ حداثتهن ويعلم الزوجات خيانة أزواجهن.وفي النهاية أخذ أبي الكتاب وهو ينوي تمزيقه فانتابني الهلع، وأخذت أبكي وأتوسل لأبي أنني سأعيده إلى صاحبته ولن أكرر هذا الخطأ الشنيع مرة ثانية.أخيرا ً وافق أبي على أن يعيد لي الكتاب ولكن بشرط أن يعيده لي في الصباح الباكر وأنا في طريقي إلى المدرسة حتى لا يكون أمامي متسع من الوقت لكي أقرأه، ونفذ أبي وعده وأخذت الكتاب لأعيده إلى زميلتي، وبدون تعليق، لأنني لم أقرأه، أو لم أجرؤ على أن أفكر بقراءته.ولكن تلك الحادثة جعلتني أبحث في كل مكان عن كتب وأشعار نزار بل أصبحت صديقاتي هن من يقرأن لنزار فقط بصرف النظر عن صفات تلك الصديقة المهم أنها تحب نزار وتقرأ له كما أحبه وأقرأ له.كنت أشعر أنه يكتب لي ويكتب عني، ويكتب عن بيتنا وعن أبي وعن أخي، أنفعل معه وأبكي، وأشعر أنني المرأة التي يكتب عنها ولها.وكان اكتشافي الأول لجسدي كجسد أنثى حين قرأت لنزار فهو الشاعر الذي لبس ثوب الفتاة الشرقية المغلوبة على أمرها.فحين قال:

 يعود أخي من الماخور سكرانا

ويبقى في عيون الأهل أطهرنا وأنقانا

 سبحان الذي يمحو خطاياه ولم يمح خطايانا

فإنني أتذكر قائمة الممنوعات التي كان يحاصرني بها أبي وتكون حلالا ً بالنسبة لأخي الذي هو يصغرني سنا ً، وحتى حين عثرت على رسائل غرامية ملونة في دولاب ملابسه وقدمتها لأمي قالت لي: بكرة بيكبر وبيعقل.لم ترتعد أمي وتصفر وتحمر مثلما حدث معي حين سمعتني أتحدث خلسة بالهاتف مع زميل لي بجامعة النجاح، وحينها كنت أنا في غزة وهو في نابلس وكنت أطلب منه تأجيل بعض المساقات لي حيث لم  أتمكن من الوصول للجامعة بسبب أحداث الانتفاضة الأولى التي كانت على أوجها.كنت أشعر أنني حين أقرأ لنزار أنني أتحدى كل الممنوعات والمحرمات, أشعر أنني أنطلق مع أشعاره بعيدا ً عن كل القيود والعادات البالية حتى أنني أحيانا ً كنت أرى نفسي تلك المرأة المفترسة والمشتعلة والغجرية والمنصهرة في بوتقة الصدق والغريقة في بحور العشق والمحترقة بشظايا القلب والمنخفقة بحبال الغرام، كنت أرى نفسي كل هذه النساء وأبي يتجول في غرفتي مهرولا ً وراء أنفاسي.وكلما قرأت ديوانا ً جديدا ً لنزار كنت أشعر أنني أحقق نصرا ً بل فتحا ً على أبي وأخي، على كل الرجال الذين يتحدث عنهم نزار في شعره فهم لا يرون في المرأة إلا بضاعة وهو يراها تحفة تقتني وتحفظ وترعى.ومرت السنوات حين قررت صديقتي الأثيرة أن تودعني لتعيش في رام الله، وكنت قد تزوجت منذ شهور قليلة حين زارتني في بيتي لتودعني ذلك الوداع الأخير، كنا نختلف في كل شيء ونحب ذات الشيء، وكنا نحب نزار ولذلك أحببتها، هل تعرفون ماذا أحضرت لي صديقتي تذكارا ً للوداع، كانت تحمل لي ديوان أحبك أحبك والبقية تأتي..التمعت  عيناي في تلك اللحظة رغم أنني كنت حاملا ً في شهوري الأخيرة بابنتي ولكني تذكرت تلك الفتاة ابنة الرابعة عشر التي يؤنبها أبوها ومعلمتها على هذا الكتاب، وأخذت منها الكتاب فرحة أنني سأقرأه فكل تلك السنوات مرت ولم أقرأه.. قرأت غيره الكثير حتى القصائد الممنوعة والتي لم يسمح بنشرها قد قرأتها بعد أن جمعها كاتب مصري يدعى أنيس الدغيدي في كتاب يكفي أن أرى غلافه لكي أشعر أنني أطير كعصفورة من عصافير نزار، إلا ذلك الكتاب لم أستطع الحصول عليه… وحين أحضرته صديقتي كنت أنوي قراءته بعد مغادرتها .. ولكن زوجي رآه على حافة السرير فصرخ بوجهي: هل تعرفين ما المقصود بهذا العنوان؟! وكيف تسمحين لهذا الكتاب أن يدخل بيتي-وليس بيتنا.أخذ زوجي الكتاب ومزقه نصفين ثم ألقاه من النافذة إلى الشارع المبتل بماء المطر.لاحقت بعيون دامعة الكتاب الممزق وهو يستقر على الرصيف و تغمره مياه المطر، وكان الكتاب هو نفسه الذي أخذه مني أبي منذ سنوات ومزقه زوجي بعد سنوات…!!كنت أرى تحت المطر نزار بمعطفه الجلدي يهمس لي:

تكلمي… تكلمي

 أيتها الجميلة الخرساءتحدثي

 تحدثي عن كل ما يخطر في بالك من أفكار

تصرفي حبيبتي…كسائر النساء