واجبات غير المسلمين في المجتمع الإسلامي

دندل جبر

إذا كانت أحكام الإسلام قد اتسعت لاستيعاب أصحاب عقائد مختلفة من غير المسلمين يعيشون في الدولة الإسلامية ومع المجتمع الإسلامي، فكذلك أوجبت على أصحاب هذه العقائد من غير المسلمين جملة من الواجبات والالتزام بها، وذلك من أجل حفظ الأمة ومصالح المواطنين جميعاً، ومن أجل صيانة النظام العام الذي يحصن وجودها.

ويمكننا إجمال هذه الواجبات فيما يلي:

أولاً: الواجبات المالية وهي – دفع الجزية – الخراج – العشور.

ثانياً: التزام أحكام الشريعة الإسلامية فيما يرجع إلى المعاملات المدنية والجنائية.

ثالثاً: الدفاع عن دار الإسلام إذا دهمها عدو، والنصرة للمسلمين.

رابعاً: الولاء السياسي للدولة الإسلامية والخضوع لسياستها الداخلية والخارجية وعدم المساس بالشخصية الإسلامية لها.

خامساً: ترك ما فيه ضرر على المسلمين وكيانهم.

سادساً: احترام العقائد والشعائر الإسلامية.

أولاً: الواجبات المالية

أ- دفع الجزية:

والجزية هي ضريبة سنوية على الرؤوس (المعاهدين من غير المسلمين) تتمثل في مقدار زهيد من المال يفرض على الرجال البالغين القادرين على حسب ثرواتهم، أما الفقراء فمعفوون منها إعفاءً تاماً، قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (البقرة – 286).." (الدكتور يوسف القرضاوي – غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – ص34).

وقد وجبت بقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)(التوبة – 29)، وصاغرون من الصغار، والمراد به خضوع أهل العهد للدولة الإسلامية – فهم يعتبرون من مواطنيها ورعاياها – والتزامهم بأحكام الشريعة فيما وافق شرائعهم أو فيما ليس له في شرائعهم وجود (الأم للشافعي – جــ2  ص179 – الأحكام السلطانية للماوردي – ص143).

وقوله تعالى: (عن يدٍ) فمعناه: عن غنى وقدرة، أي أن يكون أهل الذمة (العهد) قادرين على دفع الجزية للدولة الإسلامية، فإن كانوا غير قادرين فليسوا مكلفين بها. (الأحكام السلطانية للماوردي – ص143. تفسير ابن كثير – جـ2 ص347. تفسير الطبري – جـ6 ص77. أحكام القرآن لابن العربي – جـ2 ص910).

ملاحظة:

لقد تأكد من خلال التحقيق والبحث في موضوع الجزية: جواز أخذ الجزية – المترتبة على المعاهدين من غير المسلمين – باسم الصدقة (الزكاة) شأنهم شأن المسلمين، وهذا الحكم ثبت من خلال مصالحة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع بعض القبائل العربية التي كانت تدين بالنصرانية*، ولم يعترض أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آنذاك، فأصبح إجماعاً منهم على صحة ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد كتبت مقالاً في هذا الموضوع نشر في موقع أدباء الشام بتاريخ 12/4/2014م.

ب- الخراج:

يعرف الخراج بأنه: "ما وضع على رقاب الأرض المفتوحة عنوة أو صلحاً من حقوق تؤدى عنها، أما الأرض التي أسلم عليها أهلها فلا يؤخذ عنها الخراج. (نمر محمد الخليل النمر – أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي – طـ1 – 1409هـــ- المكتبة الإسلامية – عمان – الأردن – ص116).

فالأرض الخراجية هي: كل أرض فتحت عنوة وصار أهلها ذمة (أهل عهد) وتركها الإمام في أيدي أهلها، وكل أرض صالح أهلها عليها وصاروا ذمة (أهل عهد)، فهي أرض خراج سواء كان الصلح على أن تبقى ملكيتها لهم أو زالت ملكيتهم عنها وصارت للمسلمين، شريطة أن تقر في أيديهم بالخراج (أبو يوسف – الخراج – ص69. ابن قيم الجوزية – أحكام أهل الذمة – جـ1 ص110 – 112. الماوردي – الأحكام السلطانية – ص41 – 42).

- وتقدير الخراج أمر اجتهادي يعود للإمام، فيراعى في ذلك مصلحة الطرفين العاملين في الأرض وبيت المال.

- ودليل مشروعية الخراج هو اجتهاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

حين فتحت أراضي سواد العراق في عهده، وموافقة الصحابة له فيكون إجماعاً (الأحكام السلطانية للماوردي – ص145. الأحكام السلطانية للفراء – ص153. الخراج لأبي يوسف ص26 -27. الخراج لابن آدم. الاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب الحنبلي).

- وبما أن تقدير الخراج أمر اجتهادي فللإمام أن يسقطها أو أن يفرضها كما يمكنه أن يقدر الضريبة في حد معين أو أن يزيد بحسب ما يراه محققاً للمصلحة دون إجحاف بغير المسلمين في كل الحالات. (الدكتور علي الصوا – موقف الإسلام من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – مؤسسة آل البيت – سلسلة معاملة غير المسلمين في الإسلام – جـ1 ص224 عمان – 1989م).

فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن تقدير عمر، هل هو شيء موصوف على الناس ولا يزاد عليهم؟ أو أن رأي الإمام غير هذا يزاد أو ينقص؟ قال: بل هو على رأي الإمام إن شاء زاد عليهم وإن شاء نقص. (الأحكام السلطانية للفراء – ص165).

- كل ذلك يدل على مراعاة حق الطرفين في وضع الخراج، فلو وجدت عوامل أخرى تؤثر في الإنتاج زيادة ونقصاناً فلا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار في وضع الخراج. (نمر محمد الخليل النمر – أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي – طـ1 – 1409هـــ- المكتبة الإسلامية – عمان – الأردن – ص118).

- ويسقط الخراج بواحد من أمرين:

أحدهما: إذا تعطلت الأرض وبارت بسبب لا يد لأهلها فيه...

الثاني: بإسقاط الإمام للخراج.

فللإمام أن يسقط الخراج عن بعض ما هو عليه، وله تخفيف عنه بحسب النظر والمصلحة العامة، لأنه أجرة الأرض وحق من حقوقها وهو موضوع بالاجتهاد فإسقاطه كله أو بعضه بمنزلة إسقاط الإمام أجرة الدار عن المكتري (ابن قيم الجوزية – أحكام أهل الذمة – جـ1 ص117).

جـــ- العشور:

هي ضريبة تجب على المسلم والذمي (المعاهد) والحربي المستأمن مع اختلاف في مقدارها المتوجب على كل منهم.

- تؤخذ ضريبة العشر ممن لا ذمة له (لا عهد له) كالحربي المستأمن العشر، ومن الذمي (المعاهد) نصف العشر، ومن المسلم ربع العشر، لكنها من المسلم تعتبر زكاة لماله (انظر: بدائع الصنائع للكاساني – جـ2 ص36).

- ودليل شرعية هذه الضريبة من السنة والإجماع.

أما السنة:

فقد ورد عن أنس بن مالك أنه قال بعثني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على العشور وكتب لي عهداً أن آخذ من المسلمين مما اختلفوا فيه لتجاراتهم ربع العشر، ومن أهل الذمة (أهل العهد) نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر. (الخراج لأبي يوسف – ص135).

وعن زياد بن حدير قال: أول من بعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على العشور أنا، قال: فأمرني أن لا أفتش أحداً، وما مرّ علي من شيء أخذت من حساب أربعين درهماً، درهماً واحداً من المسلمين، ومن أهل الذمة (العهد) من كل عشرين واحداً، وممن لا ذمة له (لا عهد له) العشر. (المصدر السابق).

أما الإجماع:

فعندما نصّب عمر بن الخطاب رضي الله عنها العشّار، وبين لهم مقدار ما يأخذونه من التجار الحربيين المستأمنين ومن أهل الذمة (أهل العهد) والمسلمين تعشيراً في أموالهم التجارية لم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان ذلك منهم إجماعاً. (انظر: الكاساني – بدائع الصنائع – جـ2 ص35. المغني لابن قدامة – جـ8 ص518).

- وتقدير هذه الضريبة بالنسبة لغير المسلمين أمر اجتهادي – اجتهد به الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – فللإمام أن يفرضها أو يسقطها أو يزيدها أو ينقصها حسبما يراه محققاً للمصلحة دون إجحاف بهم في التقدير الذي يحدده.

شروط التجارة التي يجب فيها العشر:

1- أن تكون الأموال التي تعشر معدة للتجارة، وهي بالنسبة للمسلم والذمي (المعاهد) مما ينتقل بها من بلد إلى بلد داخل الدولة الإسلامية، أما بالنسبة للمستأمن فتؤخذ الضريبة على ما يدخل به من مال للتجارة إلى دار الإسلام.

- ولا ضريبة على الذمي (المعاهد) في أمواله في داخل البلد وإن كانت معدة للتجارة وإن بلغت نصاباً، لأن المنصوص عليه عند الفقهاء أن هذه الضريبة لا تجب على الذمي (المعاهد) في أمواله إلا إذا انتقل بها من بلد إلى آخر. (انظر: الدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمستأمنين – ص181).

2- التعشير مرة واحدة في السنة:

فهذه الضريبة تستوفى مرة واحدة في السنة وهذا ما صرح به الأحناف والحنابلة والشافعية والزيدية. (الفتاوى الهندية – جـ1 ص183. شرح السير الكبير – جـ4 ص286. الكاساني – جـ2 ص37. المغني لابن قدامة – جـ8 ص518. كشاف القناع – جـ1 ص728. الأم للشافعي – جـ4 ص193. شرح الأزهار جـ1 ص577 – 578).

3- بلوغ النصاب:

وقد اشترط ذلك الحنفية والحنابلة والزيدية: (شرح السير الكبير– جـ4 ص284. شرح الأزهار – جـ1 ص577. المغني لابن قدامة – جـ10 ص599 و602).

فإذا كان مال التجارة أقل من ذلك لم يؤخذ منه شيء (الخراج لأبي يوسف – ص133).

ويشمل هذا الشرط أن يكون الذمي (المعاهد) خالياً من الدين، فإذا كان عليه دين استوعب هذا المال وأثبته بالبينة لم يعشر. (انظر الدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمستأمنين – ص179).

- والحربي المستأمن يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من الذمي (المعاهد) وذلك لأن الحربي لا يؤخذ منه إلا هذه الضريبة بخلاف المسلم والذمي (المعاهد) اللذين يترتب عليهما ضرائب أخرى في الدولة الإسلامية.

- والمعاملة بالمثل هي القاعدة عند الحنفية والزيدية في فرض هذه الضريبة ومقدارها، فيعامل المستأمن، (وهو غير الذمي الذي يدخل إلى بلاد الدولة الإسلامية بمثل ما يعامل به مواطنو الدولة الإسلامية إذا دخلوا دار الحرب بأموالهم التجارية.. ومن أدلة هذه القاعدة أن أبو موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب أن تجار المسلمين إذا دخلوا دار الحرب أخذوا منهم العشر، فكتب إليه عمر: خذ منهم إذا دخلوا إلينا ذلك العشر. (الخراج ليحيى بن آدم – ص173).

- ويعلل الفقهاء ذلك بأن دخول الحربي دار الإسلام (الدولة الإسلامية) بأمانها وحمايتها أوجب استيفاء هذه الضريبة منه، فإذا عرفنا ما تستوفيه دولته من رعايا الدولة الإسلامية أخذنا منه مثله، وإذا كان أهل دار الحرب يعفون من الضريبة مالاً معيناً من أموال أهل دار الإسلام إذا دخلوا به دار الحرب فإننا نعفيهم أيضاً من الضريبة بالنسبة إلى ذلك المال. (شرح السير الكبير – جـ4 ص283 – 286).

- ولا يعشر مال المستأمن إذا كان أقل من مئتي درهم، أي إذا كان أقل من نصاب الزكاة لأن ما دون النصاب قليل (الدر المختار شرح تنوير الأبصار – جـ4 ص56. حاشية ابن عابدين – جـ2 ص56).

- من النظر في بحث ضريبة الخراج على رقاب الأرض الخراجية تبين أنه أمر اجتهادي صادر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووافقه الصحابة على اجتهاده، وهذه الضريبة قابلة للزيادة والنقصان بل والإسقاط أيضاً من قبل ولي الأمر، وذلك حسبما تقتضيه المصلحة العامة للأمة، مع التأكيد على عدم الإجحاف بحق غير المسلمين ممن تؤخذ منهم ضريبة الأرض الخراجية التي تحت أيديهم.

ولعل من المصلحة العامة تحقيق الشعور بالألفة والمودة والرأفة والتعاون بين أفراد المجتمع المسلم بمواطنيه من المسلمين وغير المسلمين، بإسقاط هذه الضريبة وخاصةً إذا كانت الأمة في بحبوحة من العيش الرغيد.

وكذلك الأمر بالنسبة لضريبة العشور كونها أمراً اجتهادياً من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، شأنها شأن ضريبة الأرض الخراجية، وأنها خاضعة في تقديرها للزيادة والنقصان، فلعل من المصلحة أن يكون مقدارها مما يؤخذ من المعاهدين غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلامية والمجتمع الإٍسلامي كالمقدار الذي يؤخذ من المواطنين المسلمين، وذلك كما أجيز أخذ الجزية منهم باسم الزكاة، وفي هذا تحقيق لمصلحة الأمة في شعور غير المسلمين بالانتماء لهذا المجتمع والولاء الصادق للدولة الإسلامية والحفاظ على كيانها وتماسك مجتمعها وعدم التفكير بالتآمر عليها.

* - على أخذ الجزية منهم باسم الصدقة (الزكاة).