سوريّة

ذلك الكوكبُ الدّريُّ الفخمُ الذي تربَّعَ في سماءِ العالمِ واعتلى كبرياءً وجمالاً وبهاءً، شامةٌ في وجهِ الزَّمانِ منها بدأ التّاريخُ وانطلقتِ الحضاراتُ وهناكَ وُلدتِ البشريَّةُ، وينسجُ الفجرُ خيوطَ النّورِ من ربوعها ليُنيرَ الكونَ من فيضِ بركاتها.

يا شامُ ، يا شامَةَ الدُّنيا ، ووَردَتَها

يا مَنْ بحُسنِكِ أوجعتِ الأزاميلا

ودَدْتُ لو زَرَعُوني فيكِ مِئذَنَةً

أو علَّقوني على الأبوابِ قِنديلا[1]

سوريّة حوريّةٌ ذاتُ وجهٍ مُطهّمٍ كأحسنِ ما أبدعَ الخالقُ ترتدي ثوباً قشيباً لا يبلى وكلّما مرَّ عليه الزَّمانُ ازدادَ جمالاً، كأنّ اللهَ جعلها مثالاً لتلكَ الجنّةِ في السّماء،أنهارٌ وبحار أشجارٌ وثمار وهواءٌ عليلٌ يغسلُ القلوبَ والأفئدةَ وصوتٌ للبلابلِ ينزلُ في المسامعِ كأجملِ لحنٍ فيُشنِّفُ الآذانَ وتطربُ به النّفوس، وأرضها الطّيبةُ قد ارتدت أجملَ ثوبٍ أخضرَ من سندس، وكأنّه قد حاكته الملائكةُ في الفردوسِ ونزلتْ لكي تكسوها به.

وطنٌ أعار الخلد بعض فتونه                   وسقى المكارم فضلة الأقداحِ[2]

وبمَ أخبركَ عن أهلها؟! فهم القومُ قد عَجَنَتْ أرضُهُم قلوبَهم فَكَسَتْهَا طيبةً وكَرَماً وخيراً فأصبحوا سلسلةَ طهرٍ متواصلةٍ ومضربَ المثلِ في معالي الأخلاقِ والأمور، أصفياءُ الصّدورِ كتلكَ الينابيعِ التي تجري بين ظهرانيهم، أخلاقهم سمحةٌ رفيعةٌ ترتدي ثوبَ البراءةِ كتلكَ الأطيارِ التي تجولُ فوقَ رؤوسهم، قلوبهم نقيةٌ طاهرةٌ كتلكَ الأزهارِ البيضاءِ حولهم فهم قد سَقَوْهَا طيبتهم وشربوا منها نقاءها.

أهلُ النَّدى والبأسِ إنْ تنزلْ بهم                  تنزل على عُرْبٍ هناكَ فصاحِ

الشَّام منبتهم وكم من كوكبٍ                     هادٍ وكم من بلبلٍ صدّاح[3]

وهم واللهِ مع طيبتهم وجمالِ أخلاقهم إلاَّ أنّهم في الحقِّ كالأسدِ في عرينه إذا ما اعتدى عليهم أحدٌ صاروا كالبركانِ في ثورته.

والطّنطاويُ الخبيرُ بهم يقول:"وأهل الشَّام كالماءِ .. لهم في الرضا رِقته وسيلانه .. وفي الغضبِ شدّته وطغيانه .. بل رُبما كان لهم من البركان فورانه وثورانه"

هكذا هي تلكَ البلدة الطّيبةُ تعيشُ بين طيبة الأرضِ وطيبةِ السّكان، ثمَّ قلَب لها الدّهرُ ظَهْر المِجَنّ فغدتْ مقبرةً بعد أنْ كانت جنّة، وتحوّلت لصحراءَ بعد أنْ كانت دوحةً غنّاء، وهاهم أهلها الأطهارُ انقلبَ عليهم وجهُ الزّمانِ فنشبَت أظفارهُ في أجسادهم جُرحاً دامياً أبدلهم بجنّتهم جنّةً ذاتِ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْل.

رُبَّ قومٍ قد غدوا في نعمةٍ        زمناً والدَّهرُ ريَّانٌ غدقْ

سكتَ الدَّهرُ زماناً عنهم          ثمَّ أبكاهم دماً حينَ نطقْ[4]  

وتلكَ الأيّامُ نُداولها بينَ النّاسِ ودوامُ الحالِ من المُحالِ فمن كانَ اليومَ في نعمةٍ غداً في نقمة ومن كانَ في محنةٍ انقلبت عليه منحة، ومهما اشتدَّ ظلامُ الليلِ وتجبّرَ الظّالمُ فلابُدَّ للفجرِ أنْ يُشرق،وللظّالمِ أنْ ينكسر، وكلّما اشتدَّ الألمُ اقتربَ الفرجُ ويريدُ اللهُ أنْ يُمحّصَ اللذينَ أمنوا ويتخذَ منكم شهداء.

أتطمعُ دولةٌ في حبِّ شعبٍ             وليس لها إلى العدل احتكامُ ؟

 فحبلُ الظلمِ في الدُّنيا قصيرٌ           وعقبى قاتِل الشَّعبِ انهزامُ[5]  

وتبقى سوريّةُ في سويداءِ القلبِ مهما ابتعدنا عنها، تجري في دمائنا، وذكرياتها ترافقنا في جميعِ أوقاتنا وتنبضُ قلوبنا بحُبّها، يحملُ الليل على أجنحتهِ أصداءَ ضحكاتنا وسَمَرنا حينَ يُذكّرنا بأيَّامنا الخوالي بها.

قالوا: تُحبُّ الشَّام؟ قلتُ: جوانحي              مقصوصةٌ فيها، وقلتُ: فؤادي[6]

 ******************************************

[1] نزار قبّاني ، [2] [3] الأخصل الصغير ، [4] يحيى بن خالد البرمكي، [5] عبد الرحمن العشماوي، [6] الأخصل الصغير 

وسوم: العدد 629