فكر بغيرك

ياسمين شملاوي

[email protected]

داخل البلدة القديمة حيث كل شيء قابل للاحتكاك، تتصادم الأكتاف وتتلاحق الأنفاس، أما نظرات المارة فتتحرك بكل الجوانب لمشاهدة ما وسعها من بضائع وسلع، وتقتنص أي لافتة كتب عليها “تنزيلات بمناسبة الشهر الفضيل”.

كنت وزميلتي نلتقط صورا عن أجواء رمضان في مدينة نابلس داخل الخان العتيق. وفي بقعة تُقبلها أشعة الشمس المتناثرة من فتحات قديمة تميز المنطقة، استوقفتنا امرأة بلباس أسود يلفها بطريقة تجعلك تعلم أنها تختبئ خلفه. قسمات وجهها تدل على بؤس عميق وحزن تركا آثارهما المتجعدة على يديها وجبينها.

مساحة ضيقة وحزن كبير

تخرج من بين كل هذا ابتسامة ساخرة، فبادرناها بطرح سؤالنا: “كيف هي أجواء رمضان الجميلة؟”. فجأة وكأن تساؤلنا أثقل كاهلها وفتح جوانب أخرى لم تكن في حسباننا أو حسبانها: “عن أي شهر جميل تتحدثان؟!” قالتها بكل عفوية.

كيف ستكون جميلة؟ والفقير يخاف من هذا الشهر، لأن كل شيء يصبح أكثر غلاء”. تمنيت لو أنها لم تر تلك النظرة الحانية التي انبثقت من عيني وهي تتابع سرد قصتها، وكأنما شبح الفقر القابع داخلها والذي يفترسها وعائلتها منذ سنين يستيقظ أمام كامراتنا لأن ضيق الحال أصبح أكبر من أن يحتمل.

أخرجت ضحكة ساخرة وتابعت: “كل ما تمكنت من فعله اليوم، هو النظر والتحسر على ما لا أستطيع شراؤه لأبنائي، فأنا لدي ثلاثة أبناء معاقين داخل المنزل وابنتين بالجامعة، وزوجي متوفي وراتب الشؤون الاجتماعية الذي يأتي بقيمة 750 شيقلا كل ثلاثة أشهر لا يكفي لسد رمق الجوع والمرض لدينا”.

فقر يلتهم الكلمات

تتحشرج الكلمات لتتقافز داخل أوتاري الصوتية وتضرب بصداها الموجع جسدي وكأنما لا شيء يمكن أن يخفف عن هذه السيدة سوى الإنصات إليها، لكن كلماتي خرجت متلعثمة: “أعانك الله وفرج همك، ورزقك كل السعادة والخير”.

كانت تعلم بأني لست الملامة على وضعها، وبأني لست الحاملة للفانوس السحري، لكنها علمت بأني سأنقل ما تأوه به قلبها، وبأني لن أنسى وجهها الذي تبدو عليه علامات الحسرة والانكسار. ابتسمت بهدوء وأطلقت مجموعة من الأدعية لي ولزميلتي، وأدارت ظهرها المتشح بالسواد وسارت، والموقف الفوضوي لازال يمر أمامي، متتابعا مع كلمات محمود درويش:

وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ

ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام

وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ

مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام”.

المحررة: جلاء أبو عرب