تجديد الدين: الفكرة والواقع

إن تجديد الدين أمر طبيعي، وقد تحدّث الرسول-صلى الله عليه وسلم-عن هذا الأمر فقال:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها" (رواه أبوداوود في سننه)، ويختلف الباعث الذي يدفع إلى هذا التجديد من عصر إلى آخر.

ويمكن أن نأخذ نموذجاً لهذا التجديد من التاريخ، ونُمثّل عليه بالشافعي رحمه الله، فقد سُمّيَ بمُجدّد المائة الثانية، ولُقّب بـ"ناصر السنّة"، وقد كان السبب في ذلك، أن هناك صراعاً بين أهل الرأي وأهل الحديث بلغ أوجَه في القرن الثاني للهجرة، وقد تعمّقت الهوّة بينهما، وقد تعصّب كل فريق لاجتهاده وحكمه وأدواته التي استخدمها لإصدار فتواه، وكادت تحدث فتنة، ولكن الشافعي – رحمه الله – وضع "الرسالة" التي أصّل فيها لعلم أصول الفقه، وضبط العلاقة بين أهل الرأي وأهل الحديث، وأعاد للحديث الشريف مكانته، وأعطاه قيمته الحقيقية، وقنّن للقياس، وبهذا استحق أن يكون مُجدّد القرن الثاني من قرون الهجرة، بعد أن جاء هذا الاستحقاق حصيلة العلم الذي أخذه من مالك بن أنس في المدينة، عندما درس على يده "الموطأ"، وتقصّى "الحديث" عند أهل المدينة، ثم ذهب إلى العراق، والتقى محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله، وأخذ عنه علمه الذي كان مثالاً لمدرسة الرأي، ثم عاد إلى مكة وكتب "الرسالة" في الأصول، وكان هذا الكتاب "الرسالة" تقعيداً لعلم جديد هو "علم أصول الفقه"، وهو علم امتازت به أمتنا، وهو غير موجود عند الأمم الأخرى.

من المهم أن ننتبه إلى أن التجديد لا يأتي بقرار حكومي، بل هو حصيلة وعي الطبقة العلمائية في الأمة، وانتباهها للمشاكل التي تواجه الأمة، ثم تضع الحلول المناسبة لها بشكل تلقائي، من خلال وعي لحقائق الدين، ومن خلال فهم لواقع الأمة، ومن خلال إبداع لقواعد التجديد وأحكامه التي تحتاجها الأمة، وتستدعيها ظروفها وأحوالها.

أما –الآن- فإن الحضارة الغربية تمثّل التحدي الأكبر للدين الإسلامي والأمة والحضارة الإسلامية، لأنها تقوم على أصول مناقضة -في كثير من الأحيان- للأصول التي تقوم عليها أمتنا وحضارتنا، لذلك فإن أي تجديد يجب أن يكون إما رداً على الحضارة الغربية التي تريد أن تفرض نفسها علينا، وتُلغي كياننا، أو يجب أن يكون في إيجاد توافق معها في موضوع من المواضيع لصوابية رأيها في هذا الموضوع، فعلى سبيل المثال يعترف الإسلام بأن الكون مبني على عالمين، هما: عالم الغيب وعالم الشهادة، في حين أن الحضارة الغربية تعترف بعالم الشهادة فقط، ولا تعترف بعالم الغيب وما فيه من روح، وجنة، ونار، وملائكة، وشياطين، إلخ...، وتعتبر ذلك خرافات وأوهاماً.

ومن أمثلة الاختلاف أن الإسلام يقوم على نقل متمثل بالقرآن الكريم والسنة المشرفة، وهما وحيان من الله سبحانه، أوحى الله بهما إلى محمد-ص- ويقوم على عقل يتعامل مع هذا النقل، كما يتعامل مع الكون المحيط به، في حين أن الحضارة الغربية تقوم على عقل يتعامل مع الكون المادي المحيط به فقط ولا تعترف بأي نقل.

ومن أمثلة الاختلاف أن الإسلام يعتبر أنه دين ودولة، في حين أن الحضارة الغربية تعتبر أن الدين لا علاقة له بالدولة، ويجب أن لا يتدخل بها، وقد سبقتها إلى هذا أوروبا المسيحية في القرون الوسطى.

ومن خلال رصد التطورات الفكرية التي حدثت خلال القرنين الماضيين في ساحات الأمة الثقافية، نجد أن محاولات التجديد لم تتوقف، ويمكن أن نقسّمها إلى سلبية وإيجابية، فالسلبية: ما يأتي في إطار تطويع نصوص الإسلام لصالح الحضارة الغربية، والإيجابية: ما يأتي في إطار تحديد موقف من بعض مفاهيم الحضارة الغربية والبناء عليه، وسنضرب أمثلة على نوعي التجديد في السطور التالية.  

أولاً: المحاولات السلبية في التجديد:

الأولى: يمكن أن نعتبر محاولة محمد عبده في مجال تضييق الفجوة بين عالم الغيب وعالم الشهادة لصالح عالم الشهادة، ومن ثَمّ لصالح المادية الغربية مثالاً على ذلك.

فقد ورد في "سورة الفيل" حديث القرآن الكريم عن الطير الأبابيل الذي أرسله الله تعالى على جيش أبرهة الذي جاء لهدم الكعبة، فرماه بحجارة من سجيل، فأهلكه الله مع الفيلة التي جاء بها، فقال تعالى:﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ(2)وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ(4)فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾[الفيل:1-5].

لقد أوّل محمد عبده ذلك الطير الأبابيل بأنه طير من جنس البعوض أو الذباب، وحجارة السجيل بأنها طين يابس من الذي يسمّونه –الآن- بالميكروب والتي هي جراثيم الجدري أو الحصبة.

وقد أوّل محمد عبده الجن بالميكروب والجراثيم فقال محمد عبده: "وقد قلت في المنار غير مرة أنه يُصح أن يُقال: إن الأجسام الخفية التي عُرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة، وتُسمى الميكروبات تصح أن تكون نوعاً من الجن".

كما أوّل محمد عبده خلق عيسى –عليه السلام– بأحد وجهين:

"الأول: اعتقاد قوي استولى على قلب مريم فأحدث الحمل بها، وكثيراً ما يكون الاعتقاد بالمرض مُسبباً له".

ولكن توجه محمد عبده التجديدي بشكل عام لَقِيَ تراجعاً على يد تلميذه محمد رشيد رضا، وهو –في الحقيقة– تصويب وتصحيح لما مثّله محمد عبده من استسلام لمعطيات الحضارة الغربية المادية وترويجها.

الثانية: أصدر علي عبدالرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم" بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924م على يد الإنجليز، وقد اعتبر علي عبدالرزاق في ذلك الكتاب أن الرسول -ص- جاء داعياً ولم يجئ حاكماً، وأن الخلافة التي برزت في التاريخ الإسلامي كسلطة وحكومة وأحكام وجيوش وقتال ودول إلخ...، إنما هي من اختراع المسلمين، وافتئات على الإسلام والرسول ولا علاقة للإسلام بها، وهو في هذا الاجتهاد يُلغي الدولة من أجل أن يُوافق المسلمون الحضارة الغربية فيما انتهت إليه من أحكام حول علاقة الدين بالدولة.

وقد كانت ردود الفعل واسعة على "علي عبدالرازق"، فلم يُقبل كلامه، وقد أُلِّفت عدّة كتب في الرد عليه، وأبرزها "الإمامة العظمى" لمحمد رشيد رضا، ثم قُدّمت دعوى قضائية بحقه في محاكم القاهرة، وتم سحب الكتاب من الأسواق، ثم جُرّد المؤلف من شهادته الأزهرية.

الثالثة: تناول محمد عابد الجابري العلاقة بين النقل والعقل في كتابيه: "مدخل إلى القرآن الكريم" و"تفسير القرآن الكريم"، وقد ضيّق مجال النقل وضخّم دور العقل من أجل صالح الحضارة الغربية التي تقوم على العقل–وحده– كما هو معروف، وقد انطلق محمد عابد الجابري من اعتبار القرآن الكريم معجزة عقلية، وهو في هذا مصيب، ولكنه أخطأ عندما اعتبر أن القرآن الكريم هو المعجزة الوحيدة للرسول – ص- ولم يعترف بكل المعجزات الأخرى من مثل: انشقاق القمر، والإسراء والمعراج، وتكليم الحجر له-ص- وحنين المنبر له، وانبثاق الماء بين يديه، ثم سقايته لجيش كامل، وطرح البركة في طعام قليل وإطعامه عدداً كبيراً من الناس إلخ...، وقد استكمل ذلك بأنه لم يعترف بالجانب الآخر من النقل، وهي السنة المشرفة التي وضّحت القرآن الكريم، وفسّرته، وزادت عليه في بعض أحكامها، وفي هذا تضييق للنقل لصالح العقل، ومن أجل خدمة الحضارة الغربية وترويجها التي تقوم على العقل وحده.

ثانياً: المحاولات الإيجابية للتجديد في الدين:

الأولى: رد محمد قطب على فكرة "نسبية الحقيقة" التي تقوم عليها الحضارة الغربية، في كتاب "التطور والثبات في حياة البشرية"، فذكر أنه ليس كل شئ متطوراً في حياة البشرية، وليس كل شئ ثابتاً، بل هناك قضايا ثابتة، وهناك قضايا متطورة ومتغيرة، ووضّح بعد ذلك إلى أن الثابت ما يتعلق بالعقيدة من توحيد وعبادة، وأحكام الأسرة من طلاق وزواج وميراث، استناداً إلى قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1].

الثانية: تحدّث أبو الأعلى المودودي عن "القوميّة" التي انبثقت في الغرب بعد سقوط امبراطوريات القرون الوسطى واعتبرها "قومية عنصرية"، وبيّن أنها انتكاس ورجوع إلى الوراء في العلاقات الدولية: من الإطار الإنساني إلى الإطار العنصري الضيق، ووضّح أنّ الإسلام طرح بديلاً عن ذلك وهي "القومية الحضارية"، وقد تمثّلت "القومية الحضارية" في أمة الإسلام التي تمازجت فيها مختلف الأعراق والأجناس تحقيقاً لقوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات:13].

الثالثة: كتب الطاهر بن عاشور في مقاصد الشريعة، ودعا إلى توسيع المقاصد، وعدم حصرها في المقاصد الخمسة التي وضّحها الشاطبي في كتاب "الموافقات" وهي: مقاصد حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

لذلك اقترح بعض العلماء اعتماد مقاصد أخرى للدين من مثل مقاصد: الحريّة، والعدل، والمساواة، والتي يمكن أن نستفيدها من تطورات الحضارة الغربية، ولقي هذا التوجه قبولاً لدى عموم علماء الأمة، ليس هذا فحسب، بل زاد الاهتمام بعلم المقاصد بسبب الكتابات الواسعة عن علم المقاصد لدى الطاهر بن عاشور وغيره من الكتّاب.

الخلاصة: التجديد في الدين أصل من أصول الحضارة الإسلامية، وقد قام علماء متعددون بمهمة التجديد في التاريخ الماضي، وإن الحضارة الغربية هي التحدي الأكبر الذي يواجه –الآن- الدين والأمة والحضارة الإسلامية، وقد قامت عدّة محاولات للتجديد والاجتهاد في العصر الحديث، وقد رصدنا بعض محاولات التجديد السلبية في ثنايا المقال، كما رصدنا بعض محاولات التجديد الإيجابية.

وسوم: 640