الراحل الحبيب الداعية المعلم محمد علي الهاشمي، وجيل التأسيس الثاني .. وصفحات فضل

hashimi644.jpg

رحل بالأمس عن دنيانا علم من أعلام الفكر والدعوة في سورية الحبيبة . بل في كل بلاد العرب والمسلمين . رحل الأخ الداعية المعلم والمربي الدكتور محمد علي الهاشمي رحمه الله تعالى فكان كما قال الأول إن شاء الله :

وألقت عصاها ، واستقرت بها النوى ...كما قرّ عينا بالإياب المسافر

لقد قرت عين المسافر بل المهجرّ المهاجر وصار الأخ الداعية أبو عبد اللطيف إلى ربه ، حيث يصير الأولون والآخرون . بعد عمر قضاه ثباتا ومضاء ودعوة وتعليما وتأليفا وتذكيرا . نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقبله وأن يقبل منه وأن يخلفه في ذريته وفي إخوانه وفي جماعته وفي أمته خيرا وأن يجزيه عن دينه وأمته ودعوته خير الجزاء ..

وحين يقف الإنسان على ضفاف حياة الكبار مودعا وملوحا ، قد يكون من السهل القريب أن يطوي عقودا من الجهد والجهاد من الصبر والمصابرة ، من الألم والمعاناة والمثابرة بقوله( رحمه الله) كان علما ، كان معلما وكان كبيرا ؛ ثم يطوي الكتاب ..

إن بعض ما يقتضيه الوفاء للحق ، والاعتراف بالفضل من إخوة الدرب الطويل أن يذكروا الراحلين من إخوانهم ببعض ما وعووا وعرفوا ليس على سبيل المكافأة وحسن الثناء وتعجل الجزاء ، وهذا لذاته مطلوب ، ولكن ليبقى ذكر بعض مآثرهم وفاء لحق يقدره أهله ، واعترافا بفضل ، واقتناصا لدرس وعبرة يستفيد منها السالكون ، وباعث عزيمة يتأسى بها المتأسون ..

الدكتور محمد علي الهاشمي رحمه وجيل التأسيس الثاني

تفتح وعي كاتب هذه السطور المطرزة بفضائل الراحل الفقيد الدكتور علي الهاشمي في مطلع ستينات القرن العشرين . لقد عايشنا أطفالا عهد الوحدة مع مصر . وأصبحنا فتيانا عندما قام البعث بانقلابه فسمعنا بياناته الانقلابية تصادر في سورية كل ما ينتمي إلى الحياة العامة من نشاط . وكانت جماعة الإخوان المسلمين قد خرجت من عهد الوحدة منفرطة العقد ، نتيجة قرار حل التنظيم ،وفاء لمتطلبات الوحدة التي كانت أثيرة ومحل تقديس كهدف استراتيجي عند جماعة الإخوان المسلمين ...

ومع دخول عهد البعث ما أسرع ما توفي الدكتور السباعي رحمه الله تعالى ، وما أسرع ما اضطر العديد من القيادات التاريخية للجماعة إلى مغادرة سورية تحت تأثير السياسات التعسفية التي كانت تطال كل الذين يمتون إلى الإسلام وإلى هذه الجماعة بصلة . ليجد رجال اللحظة من حملة رسالة هذه الجماعة ، المؤمنين بمنهاجها أنفسهم أمام تحد حاسم ثقيل ، سمعوا واجب الوقت يناديهم أن يتحملوا الأمانة ، وأن يأخذوا الأمر بجد ، فشمروا عن ساق ، وأعادوا لمّ الشعث ، وجمعوا المتفرق ، وضموا أجيالا جديدة من أبناء سورية إلى بحبوحة الجماعة ، وكان كاتب هذه السطور واحدا من أبناء هذا الجيل . كما وجد رجال اللحظة هؤلاء أنفسهم أمام استحقاق أن يضعوا الاستراتيجيات والخطط والبرامج والمناهج في مناخ العسف والظلم الجديد . فيما يماثل إعادة التأسيس للجماعة من جديد .

كان الداعية الراحل محمد علي الهاشمي رحمه الله واحدا من كوكبة هؤلاء الرجال ، هؤلاء تحملا وأداء . فقد تحمل فكان نعم ما تحمل وأدى فكان ما أجمل ما أدى . حين حمل مع ثلة من إخوانه في سورية ثم في حلب الشهباء مسئولية التأسيس للسير من جديد ...

 لا تستطيع الكلمات مهما بلغت أن توفي المرحلة من أوائل الستينات إلى أواسط السبعينات من تاريخ هذه الجماعة حقها ، وما اقتضته من حملة أمانتها من جهد ودأب وشجاعة ومعاناة ، وكذلك من بصيرة وحكمة وروية ، وبعد عن الانفعال والغلو والتطرف . وهو أهم ما امتازت به المدرسة التي انتمى إليها الأخ الراحل محمد علي الهاشمي وشارك في الوقت نفسه في التأسيس لها وبنائها.

 ربما لأول مرة في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين يتم التأسيس لتنظيم حقيقي في أجواء عمل بالغة الخطورة ، على قواعد من الفقه الشرعي المنضبط ، والحكمة المبصرة ، والسير القاصد على المحجة الواضحة بلا غلو ولا انبتات . لقد ظل الأخ الراحل طوال حياته المديدة الحارس الأمين على مبادئ هذه المدرسة قواعدها حتى توفاه الله .

تلك مرحلة من تاريخ الجماعة يدرك ألقها من عاشها . حين كان أبناء الجماعة وكوادرها خلية نحل بحق انتشارا وبلاغا وتعليما وتربية والتزاما وفقها وعملا وأملا وصبرا ومصابرة وثباتا ومضاء كل ذلك كان للراحل الكبير الحظ الأوفى فيه . وعلى كل الذين يحاولون التأريخ لهذه الجماعة بعد أن يذكروا بعرفان هذه المرحلة من تاريخ الجماعة وأن يذكروا من أعلامها على صعيد مدينة حلب الذي عايش كاتب هذه الشهادة العالم العامل المعلم عبد الفتاح أبو عدة والأخ الشهيد أمين يكن والراحل الحبيب محمد علي الهاشمي وآخرين نسأل الله أن ينفع بهم ويمتع بهم ...

ومن ينسى فلا ينبغي أن ينسى في مآثر الأخ الراحل الحبيب تجربته الجادة الصادقة الأليمة مع محاولة ( التقويم ) ...

فمع التجربة المرة التي عاشتها الجماعة في أوائل الثمانينات بكل ما كان فيها . والتي كانت خاتمتها تجربة النفير ، ومجزرة مدينة حماة بكل وحشيتها وقسوتها قرر مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين تشكيل لجنة عملية لتقويم الوقائع والاستفادة من الدروس والعبر فيها مع تحديد المسئوليات ، التي ما يزال الكثير منها يتدافعها المتدافعون .

وشكل مجلس شورى الجماعة هذه اللجنة ، وأوكل إلى الأخ الراحل الحبيب أمر هذه اللجنة ثقة به ، وإقرارا بمصداقيته وجديته . وتحمل الأخ أبو عبد اللطيف المهمة بجد ودأب ، وظل لسنوات يتابع ويستكتب ويستقصي ويحقق ويتدارس مع إخوانه في اللجنة النتائج ويستخلص الحقائق حتى خلصت اللجنة إلى تقريرها في بضع سنين . تقرير جهد لتجلية وجه الحق في تجربة من أقسى التجارب التي عاشتها الجماعة في ذلك الزمان . ولكن وحديث ما بعد ولكن لا يحتمله جلال الموت وخشوع الموقف ...

وظللنا لسنوات نتلمس مرارة الجهد المهدور أو المؤود في قلب الراحل الكبير .. ولكنه ورغم شعور المرارة هذا ، لم يقل إلا خيرا ، ولم يصدر منه ما يليق بأخ كبير ومعلم عظيم . تجرع المرارة، وطوى على الألم ، حتى عندما رد على جهده الذين وأدوه ظل في كبريائه وفي عليائه معلما للالتزام والصفاء وقدوة فيه ...ومرة أخرى رحمك الله أيها الراحل الكبير الحبيب

وكان الأخ الراحل قد فقد في زحمة الأحداث ولده وفلذة كبده الطبيب أسامة . أسامة الذي حاول أن يجمع في لحظة خيوط الموقف على أرض الشهباء . وظل رغم الخطر ثابتاً وشامخاً ومصاولاً حتى وقع بأيدي الظالمين . ثم كان الذي يعرف الجميع كان أسامة واحد عند والده ووالدته واحد من عشرات الألوف من إخوانه المجاهدين ...

أذكر يوم قرأت مقالا كتبه أخونا الراحل الأديب بنجيع قلب الأب المكلوم ، يسأل ولده الحبيب : ماذا لبست ! كيف نمت ! كيف قمت ..أكثر من ثلاثة عقود وعشرات الألوف من الوالدات والوالدين يتنسمون الأخبار لعلهم يجدون ريح يوسف التي افتقدها نبي الله يعقوب ؟؟ ومع غور الجرح وتمادي أيام الألم فقد ظل أخونا الراحل الحبيب يعايش غربته وغربة إخوانه وجماعته بعقل وقلب . يأسى لأسى إخوانه ، ويهتم بآلامهم ، ويعيش محنتهم ، ويدفع جهده في سبيل التخفيف عنهم . كان دائما الناصح المبتسم لا يقصر ولا يني ولا تأخذه في الحق لومة لائم ...

كان الأخ الراحل مدرسة في سيرته وفي نهجه وفي فقهه وفي صبره وفي لطفه وفي ذوقه وفي وفائه لإخوانه .

 رحل الأخ الحبيب والأستاذ الوفي أبو عبد اللطيف لن أنتظر بعد اليوم أن أسمعه يطلب سماعة الهاتف من نجله عبد اللطيف ليقول له وهو في قرارة البلوى والضعف: أعطني أسلم على أبي الطيب فيظل في كل ما يقول الأستاذ الوفي الحميم الذي يبعث في نفوس إخوانه العزيمة والوفاء ...

رحمك الله أيها الراحل الكبير . وفي سبيل الله ما بذلت وما قدمت وما ضحيت وما عانيت . وأجرك في كل ذلك على ربك وقد وفدت اليوم عليه.

 في مثل أخينا أبي عبد اللطيف يتلو المؤمن من كتاب ربه (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ..))

اللهم ارحم أخانا وتقبل منه وألحقه بالأحبة محمد وحزبه واجزه عن جماعته ودعوته خير الجزاء . اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله ..

وإنا لله وإنا إليه راجعون ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 644