استحضار هيجل.. في عقل الربيع العربي

عقب اندلاع ثورات الربيع العربي 2010م و التداعيات اللاحقة بإعادة تشكيل الخارطة السياسيّة للمنطقة, وكذلك  تصاعد مستويات العنف الوحشي بشكل غير مسبوق بالإضافة الى ملايين المعتقلين و  اللاجئين و المُهجّرين ..الخ كلّ ذلك قد يدعو الكثيرين للتساؤل, هل ما يجري في هذه البقعة الجغرافية من العالم منطقي ! هل هو كابوسٌ نعيشهُ أم أنّهُ واقع !  لسان حال شعوب بأكملها تتساءل لماذا حلَّ بنا هذا ! هل هو عقاب إلهي! هل هي مؤامرة كونيّة ضدَّ هذه الشعوب ! أم أنّنا ندفع ثمنا متأخّرا لقصور الثقافة العربية الاسلامية و  تقوقعها خارج العصر!

خرج الملايين من الشباب العربي ثائرين يريدون الحرية و العيش الكريم بعد أن ضاقوا ذرعا بسلطة القمع المزمن و الاستبداد, و لكن و في العموم انتهتْ بهم الثورة الى حيث البداية أو إلى حالة أسوء من السابق بكثير! إذن ثمّة فجوة بين المأمول و المُستطاع , بين الحلم و الواقع , فجوة فشلتْ المجتمعات العربية الاسلاميّة في تجاوزها, و ستسعى هذه المقالة في محاولة للإجابة على ما سبق من تساؤلات استنادا الى الفلسفة الهيجلية , فوفقا لهيجل ما هو منطقي هو حقيقي , و ما هو حقيقي هو منطقي كذلك, أي أن الواقع يحدث وفقا لمنطقه الخاص , و ليس ثمّة منطق آخر خارجهُ يتحكّم به, و ما حدث كانْ يجب أن يحدث, و المنطق هو منطق حدوث الواقع , و ليس منطق نتمنّاهُ نتصوّره في الذهنْ أو سكّة قطار يجب أن تسلكها عربات التاريخ ! إنّ هكذا مقاربة تطيح بالتصوّرات المثاليّة و الرومانسية في مقاربة " ثورات الربيع العربي" سواء من جهة وجود تدخلات إقليمية  ودولية ذات صفة سلبية, أو من جهة أنّ المجتمعات العربية الاسلامية نستحقّ أفضل أو أسوء  من الذي جرى و يجري, فالمنطقي هو الواقعي, و الحقيقة في الفلسفة الهيجليّة  ليست سوى تقاطع النظرية مع الواقع الخارجي, و هذه المقاربة تحِّمل الفاعلين الاجتماعيين و السياسيين مسؤوليِّة ما جرى و مآلات الواقع الجاري.

ولد فريدريك هيجل في شتوتجارت 1770م , عاش هيجل في ألمانيا  أواخر القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشر  ( 1770م - 1831م) , درس في توبنجن في معهد بروتستانتي  لتخريج القساوسة لمدة خمس سنوات, و لكنّه رغم ذلك لم يتبنّى التفسير اللاهوتي للعالم , و كان بعيدا عن الفهم المثالي/ الاخلاقي, و لم يقُلْ بوجود سحري مُفارق للواقع استنادا الى رؤى لاهوتيّة , فوفقا لهيجل ليس ثمّة أسبقية للوعي على ظهور الوجود المادّي كما يقول اللاهوتيون! كما أنّ الوجود المادّي بدوره لا يُنتج الوعي كما يقول الفلاسفة المادّيون!  و ليس الحالُ متروك للمصادفات كذلك! إنّ هيجل يستغني عن فكرة العناية الالهية التي تتحكّم بالعالم و تسيّرهُ لصالح المؤمنين , و ينفي وجود تدخّل إلهي خارجي مُباشر.

لقد عاش هيجل في عصر مليء بالتناقضات و الاضطراب, عقب خيبة الأمل في الثورة الفرنسية , و عقب احتلال ألمانيا من قبل جيوش نابليون 1806م  و من ثم انهيار امبراطورية نابليون و تغير الخارطة السياسية في أوريا, لقد  تجاذبت الرومانسية و العقلانية فكر هيجل الشاب ..الرومانسية السياسية مُمثّلة في فكرة الثورة و العقلانية السياسية في فكرة المُمكن, و في هذا السياق نجد نقاط تشابه بين المشهد الأوربي أنداك و المشهد العربي حاليا , فقد خاب أمل الشعوب بثورات الربيع العربي , و ها نحنُ في صدد تغير جيواستراتيجي في خريطة الشرق الأوسط, تغيّر بسمات أقرب الى العبثية يحصد فيه الموت مئات الالاف و يجري تهجير مجتمعات و شعوب بأكملها! هنا يعود سؤال المنطق ...سؤال العقل الذي يحكم و يتحكَّم بالتاريخ , يرى هيجل أن المنطق وثيق الصلة بالتناقضات...و أنّ التناقضات هي مادّته الاساسية, تناقض المادة مع الروح , السلطة مع الحرية, الموضوع مع المعرفة, الذات مع الآخر, المعرفة مع الايمان ..الخ  و أنّ هذه التناقضات ليس قرينة على الفوضى و لكنّها جزء من وحدة عقلانية منطقية  شاملة تحتوي هذه التناقضات في صيرورة تطوّر مرحلي أشمل و على مراحل  ..وحدة عقلانيّة يسمّيها هيجل بالفكرة المطلقة, " إننا في البداية نتناول فكرة ناقصة، فتؤدي تناقضاتها إلى أن يحل محلَّها نقيضها، غير أن هذا النقيض تظهر فيه العيوب نفسها، فلا يبقى طريق للخلاص سوى أن ندمج بين محاسن التصورين في تصور ثالث، ومع أن هذا العلاج من شأنه أن يحل المشكلات السابقة ويتقدم بنا خطوة نحو الحقيقة,  إلا أنه بدوره يتكشف عن متناقضات، فينشأ من جديد موضوع ونقيضه، ثم يرتفع هذا التناقض بينهما في تآلف جديد، وهكذا دواليك، حتى نصل إلى مقولة الفكرة المطلقة [1] فالهيجلية في إحدى جوانبها هي فلسفة التاريخ ...حيث يحضر التاريخ بوصفه مسرحا لتجسيد الديالكتيك الجدلي و ما التاريخ في الغالب إلا " سلسلة من الثورات، يستخدم فيها " المُطْلَق " الشعوب إثر الشعوب, والعباقرة إثر العباقرة أدوات في تحقيق النمو والتطور (نحو الحرية) , إن هذه العملية المنطقية ( الجدلية ) في سير التاريخ تجعل من التغيير مبدأ الحياة الأساسي[2] و إنّ تاريخ العالم ما هو الا مسار يكافح فيه الروح لكي يصل إلى وعي بذاته، أعني: لكي يكون حرًّا، ومِن ثَم فهو ليس إلا تقدم الوعي بالحرية، وكل مرحلة من سيره تمثل درجة معينة من درجات الحرية[3] و لكن لنتساءل الآن عن الشكل الذي تتحقق فيه الروح! يرى هيجل أن "مشكلة الوسائل التي تطور بها الحرية نفسها في العالم، تقودنا إلى ظاهرة التاريخ نفسه، فعلى الرغم من أن الحرية هي في الأصل فكرة غير منظورة (أي جوانية)، فإن الوسائل التي تستخدمها هي على العكس خارجية وظاهرية[4] و إنَّ معرفة طبيعة الفكر تستبعد ذاتية ظهوره, و حينئذ تكون دلالته هي انه ليس فقط شيء ما خصوصي ذاتي لا يتناسب الا مع وعينا ,و انما يكون عاما موضوعيا بذاته و لذاته[5]

 هنا ينبغي أن نوضح ثلاثة مصطلحات استخدمها هيجل أثناء حديثه عن تحقق الروح، وهذه المصطلحات هي: (العقل الذاتي - العقل الموضوعي - الوعي المطلق) فالعقل الذاتي يعني روح العالم نفسهُ في الفرد, أما العقل الموضوعي فيعني روح العالم نفسهُ في الدولة, لأنه عقل يتجلى من خلال تواصل الناس فيما بينهم, أما العقل المطلق حيث يبلغ روح العالم أعلى اشكال المعرفة  فيتظاهر في الفن و الدين و الفلسفة[6] و نأتي هنا الى مفهوم الدولة عند هيجل و أهميتهُ, فالدولة وفقا لهيجل هي التحقق الفعلي للحرية " إذ فيها تبلغ الحرية مرتبة الموضوعية؛ ذلك لأن الإرادة التي تطيع القانون وتخضع له هي وحدها الإرادة الحرة؛ لأنها تطيع نفسها، وتخضع إرادة الإنسان الذاتية للقانون[7] و من هنا نأتي الى نصيحة هيجلية في أهمّية الحفاظ على الدولة و تحاشي انهيارها...و أن يكون مفهوم الدولة حاضرا في ذهن الفاعلين الاجتماعيين و السياسيين في زمن الاضطرابات و التغيرات الكبرى.. و هذا ما نجد مِصداقه في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي, فالدولة هي المقابل الموضوعي لتحقيق الحرية في الواقع....فمن الصعوبة بمكان الحفاظ على حضور العقل الذاتي بغياب العقل الموضوعي.. أي عمليا حضور الانسان الحرّ المُحصَّن بالقانون في ظل غياب سلطة القانون العام و  الدولة, و تلك مسألة يلمسها الناس في حياتهم ..فمن الصعب عليك كسوري أو ليبي أو عراقي حاليا أن تكون حرا – بالمعنى الهيجلي-  في ظل غياب أو انحسار سلطة الدولة.. نجد ذلك مثلا في فقد مصادر العيش و تدني الخدمات الصحية و التعليمية و تصاعد سلطة المليشيات و شريعة الغاب و افتقاد الافراد للوثائق الرسمية الضرورية لمعاملاتهم و تنقلاتهم ..الخ. فالدولة ما هي الا " ترويض الارادة  الطبيعية على الخضوع للنظام, و جعلها تطيع المبدأ العام[8] و في هذه الناحية بالذات قد يبدو هيجل محافظا من الناحية السياسية , و في سيرته الذاتية لم يُعرَفْ كمعارض سياسي للسلطة القائمة في عصره , رغم أنّها لم تكن سلطة ديمقراطية , و لكنّ محافظة هيجل جاءت أقرب إلى المسؤولية و الاتزان منها الى الخنوع و التبرير, و هي محافظة أثبتت تجارب الربيع العربي أهمّيتها.. و أن لا نستهين بمفهوم  بالدولة و نحافظ على مؤسساتها في ظروف التغيرات الكبرى...و عمليا فصل مفهوم الدولة عن مفهوم السلطة الاستبدادية التي تسعى للهيمنة عليها و التهامها, و ألا نكفر بالدولة كردّة فعل على الطغيان المتحكّم بها, فالطغيان يذهب و يأتي أما الدولة فباقية .

و إذا كانت الفلسفة – وفقا لهيجل نفسهُ- متماثلة مع روح العصر الذي تظهر فيه فهي ليست فوقه, و هي ليست الا وعي ما هو جوهري في زمانها , أو هي ايضا المعرفة المُفتكرَة بما هو قائم موجود في الزمان[9] و نجد تشابه ما يمرّ به الشرق الأوسط حاليا مع روح العصر الهيجلي من جهة كونه عصر اضطراب و صراعات سياسية, و من جهة  خيبة الامل بالتغيير, و من جهة  بروز أهمية مفهوم الدولة, و من جهة  اعادة الاعتبار للتفكير الموضوعي و العقلانية في مواجهة خطاب الخطاب العاطفي أو العدمي أو اللاهوتي التبريري أو اللاهوتي الجهادي. و المفارقة و ما قد يثير الاستغراب أنّ هيجل نفسهُ لم يكن  يثق بطبع الشرقيين , و هو يرى وجوب استبعاد ما هو شرقي من تاريخ الفلسفة [10] و هو يعبّر عن ذلك في كتابه محاضرات في تاريخ الفلسفة قائلا: لا شك ان الذات الشرقية يمكن ان تكون عظيمة كريمة سامية, و لكن النقطة الرئيسية هي ان الفرد ليس له حقوق البتة و ان ما يفعله بنفسه هو من تعين الطبيعة او الاعتباط ..هناك غياب للحق و الاخلاق اللذين يتعينان موضوعيا وضعيا[11] و يبقى برهان نفي ذلك في ما يجري الآن في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط و و قدرتنا نحن الشرقيين على اعلاء هيكل الوعي الفلسفي و السياسي.. و تلك معركة يبدو أنّهُ لا مفّر منها.

[عن موقع الأوان]

هوامش المقال:

[1] الموسوعة الفلسفية المختصرة، جوناثان ري و ج. أو. أرمسون, مراجعة: زكي نجيب محمود، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى 2013م, ص 299

[2] قصة الفلسفة , ول ديورانت ،ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة السادسة 1988م ص381

[3] فلسفة التاريخ , رأفت الشيخ ، دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1988م ص144

[4] العقل في التاريخ ,هيجل ، ترجمة وتقديم وتعليق د.إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، الطبعة الثالثة 2007م, ص89

[5] محاضرات في تاريخ الفلسفة , هيجل, ترجمة خليل احمد خليل, المؤسسة الجامعية للدراسات, بيروت 2002م ط2, ص 108

[6] فلسفة التاريخ عند الفيلسوف الألماني هيجل, سلمان علاء الشافعي, شبكة الألوكة 25-12-2014

[7] فلسفة التاريخ عند الفيلسوف الألماني هيجل, مرجع سابق.

[8] فلسفة التاريخ عند الفيلسوف الألماني هيجل, مرجع سابق  

 [9] محاضرات في تاريخ الفلسفة , هيجل, ترجمة خليل احمد خليل, المؤسسة الجامعية للدراسات, بيروت 2002م ط2, ص 131

[10] محاضرات في تاريخ الفلسفة ,مرجع سابق,  ص 199

[11] محاضرات في تاريخ الفلسفة ,مرجع سابق,  ص 196

وسوم: العدد 645