العمل الإسلامي.. والحرب النفسية (1)

د. عامر البوسلامة

[email protected]

الحرب النفسية قديمة حديثة، وآثارها على الأفراد والمجتمعات والدول، لا يستطيع عاقل على وجه الأرض أن ينكر أو يتجاهل أخطارها وآثارها، ومن هنا تعددت أنواعها، وتشعبت أغراضها وأهدافها.

فمثلاً من أنواعها: "الحرب النفسية العسكرية"، و"الاقتصادية"، وكذلك "الاجتماعية"، وكذلك "الأمنية"، وهذا التقسيم والتنويع إنما هو تعبير عن خطورة الحرب النفسية؛ لأنها أصبحت منظمة ومدروسة وذات صفة شللية تحدث أثرها الرهيب، وتلقي بأخطارها في المكان الذي تشاء، والوقت الذي تريد، والأثر الذي تحب، دون أن تترك بصمات وآثار جريمتها، بحيث إنها تحاسب أو تعاقب؛ لذلك كان الاهتمام بهذه الحرب قديماً قدم التاريخ، لما تتركه – كما قدمنا – من آثار، ربما أحياناً تعجز عنها جيوش جرارة، لذا لا عجب أن تجد كل الناس يتكلمون عن هذه الحرب، ويؤلفون فيها، ويقيمون الندوات لدراستها، وتمثل أفلام لإبراز الظاهرة، وما فن الدعاية إلا جزء من موضوعها.

ونحن المسلمين أيضاً ينبغي أن نهتم بهذا الموضوع اهتماماً دقيقاً لما يترك من آثار على واقعنا الإسلامي، لهذا فالقرآن نبهنا والسُّنة كذلك إلى أخطار أهل النفاق الذين يستخدمون الدعاية والإشاعة والحرب النفسية؛ لأجل الترويج لباطلهم، ومنع الآخرين من أخذ الحق والاهتمام به، من هنا شن هؤلاء جميعاً حرباً ضروساً على الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلّم، والصف الإسلامي؛ انتصاراً لباطلهم، وضرباً للحق الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلّم من عند الله تبارك وتعالى.

وما حادث الإفك بكل عظاته ودروسه وعبره، إلا طيف من أطياف هذه الحقيقة، والألوان في هذا المجال كثيرة جداً سنمر على ذكر بعضها عند ذكر الدروس بعون الله تبارك وتعالى.

فكم عانى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أساليب هؤلاء القوم في هذا المجال، كما في غيره من المجلات الأخرى، لا عجب إنه العداء للإسلام بما يحمل في طياته من دقائق ومعان ومفردات، وصدق من قال: "مضت قريش في حروبها النفسية، مستميتة في دفاعها عن أوثانها وجاهليتها، فلجأت فيما لجأت إلى حرب الإشاعات والافتراءات، لقد لجأت إلى سلاح الدعاية منذ الساعة الأولى، بكل ما ينطوي عليه هذا السلاح من مجادلة وحجج ومهاترة وترويج إشاعات، وتوهين لحجة الخصم، واستعلاء بالدليل على دليله.. الدعاية على العقيدة، وعلى صاحب العقيدة، واتهامه فيها، واتهامها لذاتها، والدعاية التي لا تقف عند حدود مكة، والتي لم تكن مكة بحاجة إليها كحاجة البادية.

فقد كان في التهديد والإرهاب والتعذيب بعض ما يغني عن الدعاية في مكة، لكنها لم تكن لتغني عنها شيئاً عند الألوف الذين يفدون إلى مكة كل عام في التجارة والحج، والذين يجتمعون في الأسواق؛ لذلك فكرت قريش منذ استحرت الخصومة بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تنظيم الدعاية عليه، وخاصة حينما فكر الرسول صلى الله عليه وسلّم في دعوة الحجاج إلى عبادة الله الواحد.

ويستمر هذا العداء بهذه الصورة في حياة وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلّم، وكذلك على أصحابه الكرام رضوان الله عليهم جميعاً، واستمر هذا أيام الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وملأ خصومهم عنهم الدنيا كذباً وافتراء وشائعات مغرضة، نعاني من حر وسوء مروياتها إلى يومنا هذا، وهكذا الأمر في كل العصور الإسلامية المتلاحقة إلى عصرنا الحاضر هذا.

حيث تطالعنا الأخبار كل يوم شائعات وأكاذيب، ليس لها أي رصيد في الواقع من حيث الصحة، فيختلق الخبر، لأغراض سياسية معروفة أهدافها، ومعلوم المراد من نتائجها في هذا الباب.

وبعض الإذاعات العالمية ليست عنا ببعيد، وهي تعمل على بث الخبر الكاذب عن الإسلاميين، وبعض الدول الإسلامية، لأجل توجيه الرأي العام صوب ما يخطط له من هو قائم على هذه الإذاعة أو تلك.

وها هي بعض الصحف التي تركز جهودها في هذا الباب أيضاً على كثير من الشخصيات الإسلامية، أو المواقع الإسلامية، أو الدول الإسلامية، أو بعض المؤسسات الإسلامية، أو.. أو.. إلخ.

فتطالع الناس بالأخبار الكاذبة، وتختلق الإشاعات المنفردة، وتصوغ الأخبار والقصص والحكايات المصنوعة، وتذيعها بين الناس، ضمن خطط وأهداف مرسومة.

وأعرف أن عالماً كبيراً من علماء الأمة ورموزها في بلد من البلدان الإسلامية، تشن عليه صحف التيه حملات عجيبة، بين الفينة والأخرى، وفي بعض الأحيان، ما من يوم إلا وهم يفترون فرية على هذا الشيخ، أو يكذبون كذبة عليه، أو يدسون دسيسة عليه، حتى أقول في نفسي: سبحان الله، إن الله تعالى ابتلى هذا الشيخ بهؤلاء الناس ليفتروا عليه ويكذبوا، ويصبر هذا الشيخ ويحتسب، والله تعالى يرد عنه كيد هؤلاء الكائدين.

لذا أستطيع القول: إن العلماء والدعاة والفضلاء هم هدف من الأهداف العظيمة لهؤلاء الناس، في عالم الدعاية والإشاعة والكذب، لإحباطهم في باب الدعوة والعمل للإسلام وإقعادهم وعزلهم، هذا من جانب، وحتى لا يثق الناس بهم، وهذا جانب آخر.

من هنا تجد أن الصهاينة يعترفون بأنهم قد خططوا لعملية تشويه سمعة العلماء والدعاة والعاملين للإسلام؛ من أجل الحط من أقدارهم، وبعد ذلك ينحسر دورهم في الواقع العملي.

يقول الصهاينة: "وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من رجال الدين من الأميين في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وأن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً".

فهذا المخطط الصهيوني الماكر، نراه واقعاً عملياً في هذا الشأن، ومن الأسف أن نجد بعض الدعاة يستجيبون لهذا الإقعاد فيقعدون، أو يضعفون أمام هذه الضغوط فيتركون ما هم عليه من خير، والأصل في الداعية أن يثبت ويصبر ويتحدى.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر بأن المندسين داخل صفوف العاملين للإسلام، من منافقين وفاسقين وفجرة وأصحاب مصالح، هؤلاء أخطر من الأعداء الظاهرين الواضحين.

لأن هذا يعتبر منك، ومحسوباً عليك، لذا فإن هؤلاء المتلصصين يعملون في السر والخفاء، في الدس والافتراء والإشاعات ويختلقون الأكاذيب، ويشيعون الإرجاف والتخذيل، وروح الإحباط داخل الصف الإسلامي.

ثم لما ينكشفوا لجميع الناس، ولم يعد بإمكانهم أن يبقوا في مواقعهم، يصنعون من أنفسهم أناساً لهم مكانة، فيكتبون ربما، أو يعملون حركة بهلوانية معينة؛ فيؤذون، ويكدرون، ويحدثون البلبلة، ويقلقون المجتمع أو الصف إلى فترة، ثم ما يفتأ هؤلاء أن يندحروا، وينطووا على أنفسهم، ويخذلوا، وتصير قضيتهم أثراً بعد عين.

ولا يفوتنا الحديث في هذا الشأن عن ضعاف النفوس، من أصحاب أمراض القلوب الذين يتواجدون في المجتمع، أو في المؤسسة، أو ربما في جماعة أو حركة إسلامية، هؤلاء بحكم فسادهم، كحسّاد مثلاً، أو يبحثون عن مركز، أو منصب، ولا ينالون ذلك، أو بحكم فساد تربيتهم، فإنهم يفجُرون، خصوصاً إذا خاصموا، فيخرجون عن حدود الأدب، ويخترقون الحكم الشرعي، ويفقدون صوابهم، فيحدث منهم الشر، ومن أطيافه – من خلال التجارب العملية – العمل على إشاعة الأكاذيب، وبث الافتراءات، وإطلاق الشائعات؛ ظناً منهم أنهم بهذا الأسلوب الشيطاني الإبليسي سوف يحققون ذاتهم، أو ينالون رغباتهم، في جانب الطموح لهم، أو في جانب الأذى الذي يطلقونه كحقد دفين على غيرهم.

والشائعات وبثها على الأنبياء والدعاة والمخلصين، أمر معروف قديماً وحديثاً، لأنه سلاح خبيث مدمر.

وهناك حديث رائع في هذا الميدان، أخرجه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات فتذاكر بنو "إسرائيل" جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتنه: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا".

وبينما صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع، فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه، فجعل يمصها، قال: "ومروا بجارية وهم يضربونها، ويقولن: زنيت، سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهنالك تراجعا الحديث، فقالت: مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولن: زنيت، سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها؟ قال: إن ذلك الرجل كان جباراً، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزنِ، وسرقت، ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها" اهـ.

فانظر إلى هذا الحديث، وكيف أن جريجاً كادوا له بهذه المكيدة العظيمة، وكيف أنهم أرادوا حرق شخصيته، وتحطيم ذاته.. من خلال هذه "الشائعة" و"الفرية" التي هو منها براء، إلا أن الله تعالى أنقذه، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا‏) (الحج:38)، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (فاطر:43)، فأنجاه الله تعالى من كيدهم، بهذه الكرامة العظيمة التي أكرمه الله تعالى بها.

وهذه التي تجلد وهي متهمة، ويقولون عنها: زنت، سرقت، وكل هذا من الكذب والفرية والتهمة والشائعة، فما زنت، ولا سرقت، وهذا دليل على وقوع الكذب والفرية والشائعة والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وهذا الإمام البخاري – يرحمه الله – يبتلى ببعض الحسد، فيفتروا عليه ويتهموه فيما هو منه براء.

قال أبو أحمد بن عدي: ذكر لي جماعة من المشايخ أن البخاري لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت، فقال لأصحاب الحديث: إن البخاري يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق"، فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أبا عبدالله، ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثاً، فألح عليه، فقال البخاري: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والسؤال عنه بدعة، فشغب الرجل وقال: قد قال: لفظي بالقرآن مخلوق.. وقال البخاري: حركاتهم وأصواتهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المثبت في المصاحف الموعى في القلوب فهو كلام الله غير مخلوق، قال الله تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ {49})(العنكبوت).

قال: وقال أبو حامد بن الشرفي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ولا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.

وقال الحاكم: لما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ انقطع الناس عن البخاري، إلا مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سلمة.

قال الحاكم: أحمد بن سلمة النيسابوري يقول: دخلت على البخاري فقلت له: يا أبا عبدالله، إن هذا رجل مقبول بخراسان خصوصاً في هذه المدينة، وقد لج في هذا الأمر حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فما ترى؟ قال: فقبض على لحيته، ثم قال: وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد، اللهم إنك تعلم أني لم أرد من المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً ولا طلباً للرياسة، وإنما أبت عليَّ نفسي الرجوع إلى الوطن لغلبة المخالفين، وقد قصد لي هذا الرجل حسداً لما آتاني الله لا غير.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - يبتلى بالكيد الذي من أبرز ألوانه "الافتراء عليه"، و"الكذب عليه"، و"اختلاق الشائعات".

وكان من أظهر هذه الاتهامات التي رشقوه بها:

التجسيم: فزعموا أنه يقول عن الله بأنه جسم، ويشبه الله تعالى بالمخلوقات – والعياذ بالله – وما ذنب ابن تيمية إلا أنه أثبت صفات الله تعالى على منهج سلف هذه الأمة.

اتُهم أنه يمنع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم وغيره من الأنبياء.

اتهامه بإهانة الصالحين والأنبياء.

اتهامه بالخروج على الإجماع.

ونتيجة لهذه الشائعات ولغيرها، سجن مراراً بل ضرب وأوذي أذى شديداً.

وأستطيع أن أقول: إنه لم تشن حملة ظالمة على عالم من علماء الأمة، كما شنت على هذه العالم الجليل؛ وذلك لعدة أسباب لا مجال لسردها في هذه العجالة.

لكني أقول: إنه من المؤسف حقاً، أنه ما زال بعض المتعصبين على هذا الإمام يرددون هذه الشائعات ويلوكونها على أنها حقيقة، دون تثبت ولا تمحيص.

ونذكر هؤلاء في هذا الشيخ وفي غيره من الأئمة، أن اتقوا الله تعالى، وحذار حذار، فإن لحوم العلماء مسمومة، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم.