السيد قطب في (معركة الإسلام والرأسمالية)

clip_image001_14204.jpg

أحمدك الله وأشكرك عظيم الحمد والشكر على ما أنعمت على الأمة برجل رجل، وسيد سيد، هو قطب في سائر أحواله، قبل أن يهتدي إلى الإسلام منهجاً وسلوكاً ونظام حياة، إلى أن شغفه الإسلام حباً فكان فارسه الميمون النقيبة، الذي راد ميادينه كلها، وكان فيها السابق المُجلِّي، فكراً وسلوكاً، وتنظيماً، وجهاداً، وشهادة، كان سيداً من سادة الشهداء، خافه أبالسةُ الأرض، فأتمروا به ليقتلوه، وما خافهم على خسةٍ منهم ونذالة، وعلى شموخ منه وإيمان، لو وُزِّع على أهل الأرض لَوسعهم، وما ضاق بهم.

تصدَّى لشياطين الشيوعية واليسار، ومعه عقلٌ يزنُ الجبال، وإيمان في عمق المحيطات، وقلم بَزَّ قلامَ أساتذته وأقلام االذين كانوا أنداده ولِدَاته، ولم يلحق به تلميذ من الآلاف الذين تتلمذوا عليه، من اليسار إلى اليمين، في أرض الكنانة، في كثير من مقالاته، وكان كتابه الرائع "السلام العالمي والإسلام"، قد بشَّر الشقَّ الشرقي من الحضارة الغربية بالسقوط أولاً، وقد سقطوا كما توقع، وانفرط عقد الاتحاد السوفياتي الذي كان يمثل أحد شقي الحضارة الغربية.

وتصدى لأبالسة الرأسمالية في الغرب المادي، وفي بلاده الكنانة، ممن كانوا عبيداً للغرب فكراً وسلوكاً هابطاً، وكتب كثيراً من المقالات الثائرة بهم، وبقيمهم المادية الكثيفة، في أوروبا وأمريكا، وفي بلاد العرب، وندّد بسلوكياتهم المنحرفة، المنبثقة من فكرهم المادي، ولم يوفّر ذيولهم في مصر، فساطهم بسياطه الإنسانية، وسياطه العربية والإسلامية، وكان كتابه "معركة الإسلام والرأسمالية" – وهو هذا الكتاب الذي نقدمه لناس القرن الحادي والعشرين بعد أن فعل مفعوله العجيب في ناس القرن العشرين – فقد كتب فصوله قبل انقلاب يوليو 1952م، وظهرت في كتاب عام 1953م، وفيه يحذّر، وينذر، ويبشر بميلاد المجتمع المسلم والإنسان المسلم الذي سوف ينأى بنفسه وقيمه عن الحضارة المادية الغربية بشقيها: الماركسي والرأسمالي.

وكذلك فعل في كتابه الآخر الذي ضاعت بعض فصوله، وهو كتاب: "أمريكا التي رأيت" رآها فيما قرأ عنها وطالع ودرس، وفيما شاهد فيها وعاين عندما ابتعثته وزارة المعارف المصرية إلى أمريكا، فكان نعم المُوفد اليقظ، والضمير الحر، والبصير ببصائر الإنسان المسلم الشامخ بإيمانه وفكره وأدبه، العَصيّ على التأثر والاختراق.

وقارئ سيد في كتبه آنفة الذكر، ومقالاته وكتبه الأخرى المُبشرة بميلاد عملاق الفكر الإسلامي الحديث، منذ أواسط الأربعينيات، بكتبه التي أرهصت بولادته، وهي: (التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن، والعدالة الاجتماعية في الإسلام).

بل إن قارئ سيد، قبل تَوجُّهه نحو الإسلام عقيدةً وشريعة ونظام حياة، يلاحظ تطور فكره المتمرد، نحو الثورة الإنسانية الشاملة، وقد وجدها في الإسلام العظيم، الذي توغَّل فيه دراسةً وفهماً، وخلص إلى ثوابت دفع عمره كله من أجلها، وأعرض عما يقتتل الناس حوله من المال، والجاه, والمنصب، وسائر البهارج والزخرف.

وكانت كتبه معبرة تعبيراً صارخاً عن المسلم المجاهد الذي يجاهد بهذا القرآن العظيم، بهذا الدين العظيم، ليعمر به الحياة التي لوَّثها الفاسدون والمفسدون من حملة الفكر الرأسمالي المادي الكثيف.. فكان كتابه العظيم: (في ظلال القرآن) وكتبه الأخرى المنبثقة من الحياة في ظلال القرآن: (هذا الدين – المستقبل لهذا الدين – خصائص التصور الإسلامي – مقومات التصور الإسلامي – الإسلام ومشكلات الحضارة – معالم في الطريق – وسواها)، وقد أحدثت ثورة فكرية إسلامية في عقول المسلمين، وأرواحهم، وقلوبهم، وضمائرهم، كما نبهت أعداء الإسلام إلى هذا المفكر الثائر، بل المجاهد، وعرفوا أنه الخطر الماحق عليهم وعلى حضارتهم وقيمهم المادية، فبادروا إلى قتله، فارتقى شهيداً عظيماً.

وانتشرت كتبه بما تحمل من فكر إسلامي مجاهد، وقد حاول أعداء الإسلام قتلها، وسلطوا عليها وعلى مؤلفها العظيم، وعلى الجماعة التي انتمى إليها، وصار من قادتها المُنظِّرين لها – حملة ظالمة، وحاولوا تشويهها وتشويه سمعة كاتبها، ولكن هيهات، فسيد قطب صار عند الله والناس: سيداً من سادة الشهداء، وكتبه صارت في قلوب الناس وحياتهم، كما هي في مكتباتهم، وقد ارتقت بالمسلمين في كل مكان وزمان، وعملت على إصلاح نفوسهم، وإصلاح مجتمعاتهم، وما زال الشباب المسلمون ينهلون من معينه، ويقتاتون من سيرته، حتى صار – بحق – مجدّد الفكر الإسلامي تجديداً حقيقياً منذ أواسط الخمسينيات في القرن العشرين ولذلك قتلوه.. زعموا.. فما مات من هو حيٌ عند الله وعند الناس.. الناس، لا الأوشاب الأوباش.

قتلوا الجسد الفاني، ولكنهم ما استطاعوا، ولن يستطيعوا قتل روحه الذي سرى وعَمَرَ كل خلية من خلايا الشباب المسلم المتوهج بهذا النور القطبي الحي الذي يَلقفُ ما صنعوا من حبال فكرية زائفة، ظنوا أنها تصمد في وجه النور الإعصار الذي جاء به سيد من كتاب الله العظيم، وسُنة رسوله أستاذ الحياة الأمين، ومن حضارة الإسلام التي عاش الناس في ظلالها حقباً زمنية سعيدة..

قتله الرأسماليون والشيوعيون معاً، لأنه فضحهم جميعاً، رفع الغطاء عنهم، كشف زيفهم وعوارهم، وندد بعمالتهم للشرق والغرب. كشف المستور من أنانياتهم التي أودت بالأمة أو كادت، أنانياتهم والأهواء التي تعصف بالشعوب التي غلبوها على أمورها، واستاقوها كالأنعام، بما زيّنوا لها من إفك، وأثاروا من غرائز حيوانية هابطة، فَعَمُوا وصَمُّوا، وأُصيبوا بالعجز، فضاعوا وضاعت مصالحهم، وعاشوا في جحيم الجهالة، فيما يرتع أولئك الأنانيون الشهوانيّون الغرائزيون أصحاب المصالح الشخصية الفاجعة، ويأكلون خيرات الوطن ونُعْمَياتِه. يعيشون في القصور، فيما يعيش أولئك البائسون من العمال والفلاحين والمساكين في الزراريب والأكواخ التعيسة.. ظهروا أنذالاً لا يمتّون إلى مصرهم بصلة قُربة أو قرابة أو أي معنى إنساني، وليس لهم بدين الأمة وأخلاقها علاقة.

لقد كشفهم سيد، فبرزوا عرايا كما نساؤهم على الشواطئ والبلاجات.. عرايا من الشرف والإنسانية، من الوطنية التي ارتكبوا، وما زالوا يرتكبون بحقها ما ندعوه جرائم وطنية.. خانوا الوطن والمواطنين، ولم يرعوا إلاً ولا ذمة..

خشي الرأسماليون والشيوعيون معاً، أن يدرك (الغَلابة) ما هم فيه من ضَنْك، إن هم قرؤوا ما يدعوهم إليه سيد قطب، بل ما يدعوهم إليه الإسلام...

خشي السادة بل الأسياد الذئاب من ثورة (الغَلابة) التي تحطّم القيود والأغلال التي يرسفون فيها وتُزيلُ المزابل التي يتقلبون فوقها، فلم يُخَلُّوا بين سيد وكتبه وأفكاره وبينهم، ليستمروا في ركاب العبيد، وقوداً يحترق، ليضيء للسادة الأسياد سراديب العهر، يؤمّن لهم (السعادة) القائمة على انتفاخ الكروش وما تحتها، على حساب أولئك التاعسين هم وأزواجهم وذراريهم.

هذه رسالة السيد القطب فيما كتب، ومن أجل هذه الرسالة لقي الألاقي على أيدي الخونة الأنذال الحاكمين بأوامر شياطين الخارج والداخل.. سجون، وتعذيب وظلم وظلمات في هذه الحياة، ثم جنات وفراديس عند الله له ولمن اتبعه من الأحياء.. الأحياء الذين أدركوا ما يريده لهم الإسلام، ولسانُه قلمُ سيد قطب، وخَسِئَ وخاب من ظنَّ أن ذلك القلم الشجاع قد أورده المهالك، ورفعه إلى حبل المشنقة.

إن قلم سيد، المعبر عما يعتمل في عقله وصدره من مشروعات وطموحات، قد ارتقى به إلى الفردوس، عند مليكٍ مقتدر. رحمان رحيم، مخلِّفاً وراءه أولئك التافهين الحاكمين بأمر أعداء الأمة، بلا كرامة.. إيْ نعم.. بلا كرامة ولا شرف. والحمد لله الذي أعطى وأبقى كما نزع فأذلَّ وأشقى.

وسوم: العدد 661