قراءة هادئة للمشهد العربي والعالمي المعاصرين

تمر الأمة الإسلامية بمنعطف خطير قد يكون سببا في نهاية حقبة تاريخية تؤثر علي المشهد العالمي إجمالا لتغير خريطة الهيمنة الحضارية الغربية  لتولد معها بوادر حضارة جديدة ومتجددة طالما فرضت نفسها تاريخيا بما تملكه من عوامل تجدد وإعادة بناء وقدرة علي الاستمرار وعمل لصالح الذات الإنسانية التي أوشكت أن تضيع وسط حضارتها التي طغت علي صانعها ليكون الإنسان فيها هو الرقم الثاني بعد كل مظاهرها المادية .

وقد يتعجب البعض كيف بأمة خارج نطاق التاريخ مثل أمة العرب والمسلمين أن تستطيع عبور تلك المحنة لتتخطي مرحلة العدم ثم هي تنتقل لموضع يمكن أن تكسب احترام العالم ونديته فضلا عن ريادته بما تملكه من مادة إنقاذ للبشرية ومنهج صلاح وإصلاح للنجاة من هاوية محققة تهدد الوجود البشري ككل ، وحقيقة الأمر أنه لا عجب في ذلك ، فالتغيير الحضاري هو سنة كونية لا تتبدل ولا تتغير ، وأيما حضارة بلغت ذروة عقلانيتها بحيث تطغي علي روح الإنسان وذاته هي حضارة آيلة للسقوط الحتمي ، ولست هنا في معرض نقد الحضارة الغربية ، وإنما وصف حالة واقعة من عجز لتلك الحضارة عن تقديم السعادة المنشودة للإنسان وآن لعقلائها أن يبحثوا عن بديل حضاري سوف يفرض نفسه جبرا لأنه المشروع الحضاري ليس البديل ، وإنما الأصيل والذي لم تمتد إليه يد بشر بالتغيير والتزوير ،  وأري أن الأمة الإسلامية في حالة من الحراك الداخلي الذي يبشر بمخاض يخرج من وسط ركام آلام الاستبداد والاستعمار والتبعية في انتفاضة شعوبية بدأ الغرب يسمع تقلباتها في رحم التكوين فعاجلها بضربات متوالية في قلبها بالشام ومصر في محاولة للقضاء علي هذا الجنين النابض ، وما ضربات حلب إلا ضرب في قلب القاهرة ، ما ضربات الفلوجة إلا وجع لفلسطين ، وما حفتر بليبيا إلا سيسي مصر وعباس القدس وما كل هذا إلا تتار جديد يجتاح العالم الإسلامي يحتاج لقائد يجمع شتات هذه الأمة ويوحدها تحت راية واحدة بعد أن ينفض عنها غبار استبداد حقب متوالية

الحراك هو بداية ميلاد  جديد ، والمستبد حين يمعن في القتل فقد استنفذ صبره وقلت حيلته واهتاج جنونه وتلك بداية نهايته ، والمظلوم إذا هو قاوم ظلمه بما يملكه من أسباب وإن قلت فهو ما زال حيا ، نعم هناك مؤامرات علي العالم الإسلامي ، لكني لا أعفيه من مسئوليته عنها ، فالجسد لا تهاجمه الأمراض إلا إذا استسلم لها ، وضعف أمامها ، ووهنت عزيمته علي المقاومة ، هنا تهاجمه كل الأمراض ما قوي منها وما ضعف ، والأمة مرت بتلك الحالة من الوهن الداخلي قبل أن يصيبها الاستعمار والتآمر ، مرت بأمراض الركود والسكون والاستبداد والعمالة والخيانة وصمت الشعوب وحب الدنيا وكراهية الموت والركون للقليل والرضا بالخنوع ، والزعامات الفارغة والتشرذم المقيت ، والجهل ، ورفاهية الحكام ، ووقوف العلماء علي أبوابهم يستجدون العطايا . وما ثورات الشعوب العربية ، أو انتفاضتها ، رغم أنها ثورات لم تكتمل ، ورغم أنها ما زالت تتعلم كيف تثور ، إلا حالة من ذلك الحراك الداخلي أو المخاض بميلاد طوفان هادر من الرفض والخروج من هذا المستنقع المزري الذي وضعت نفسها فيه ، وما حالة الغليان الواقعة بين شباب الأمة وصبرهم علي آلامها وتحملهم مسئوليتها إلا مبشرات بأن الجيل القادم هو جيل التغيير إن هو علم أين يضع قدمه في الخطوة المقبلة ، وأن حالة السكون سوف يعقبها التغيير الجذري مع صعوبة المخاض وليس استحالته كما يتصور البعض

والتغيير الحضاري في حياة الدول ليس وليد يوم أو سنوات معدودة أو حقبة زمنية معينة ، وإنما هو وليد جهد متواصل لأجيال تحركها إرادة سماوية وعقيدة محركة وفكرة تؤمن بها وقيادة توجهها الوجهة المرجوة وقادرة علي تحقيق أهدافها دون انحراف عن أصل الفكرة أو العقيدة المحركة

وقراءة الواقع ليست بالأمر الهين أو المتاح لفرد واحد ، فنظرة الإنسان مهما بلغت فطنته هي نظرة جزئية مبتورة طالما كان وحده ، ولذلك لم نجد قائدا تاريخيا فذا كان بمفرده ، وإنما كانت قدرة القائد تتمثل في حسن توظيف من حوله وإدارتهم بما يتيح له رؤية الأمور من كل جانب ثم هو يتخذ القرار الأخير بالشراكة بناءا علي تلك الرؤية الموضوعية الواقعية الشاملة

والواقع حين يراه أصحاب الرأي ومتخذي القرار بشكل جزئي فإنه ينتج مجتمعات كالتي تحيا فيها أمتنا في تلك الحقبة الزمنية الراهنة ، مجتمعات مفككة ، كل قطر يحيا مأساته بشكل خاص ولسان حال حكام الأمة يقول ، مالي وغيري ، فلتضيع الدنيا من حولي وليبقي كرسي واحد أكون عليه حاكما ، وقد نسي أن يوم تؤكل بغداد فستتبعها دمشق ومن بعدها القاهرة وطرابلس بعدما سكت الجميع عن فلسطين

إن النظرة الجزئية التي تجعل مشكلة كل قطر من بلاد المسلمين هو أمر داخلي خاص بهذا القطر هي في حد ذاتها مأساة العرب والمسلمين ، وتلك هي التي حولت النفط ليصير عارا علي أهله ، والجيوش العربية حملا ثقيلا علي شعوبها ، والأراضي المترامية الأطراف سببا لطمع الجميع  ، وأصبح الدين كلا مباحا لكل من أراد ، وحرية الشعوب رهن إرادة حكامها العملاء

وقبل أن أستعرض معالم الواقع المرير الذي تعيشه الأمة والعالم من حولنا أريد أن أذكر عدة ثوابت يجب أن نضعها نصب أعيننا ونحن نخطط لأي عملية تغيير مستقبلي  :

أولا : التغيير سنة كونية ، فليست في هذا الكون ثوابت إلا القوانين السماوية ، وليست هناك قوة مطلقة إلا لله عز وجل

ثانيا : سنن الله لا تحابي أحدا فللتمكين الحضاري أسباب تستمر الحضارة ما استمر الأخذ بتلك الأسباب  ، وتتوقف إذا ما بدلت وغيرت وأفسدت

ثالثا : المسلمون هم بشر كلفهم الله بمهمة تبليغ هذا الدين والدعوة إليه بكل الوسائل التي تتعارض مع هدف إسعاد البشرية وإنقاذها في الحياتين ، فإن هم قاموا بالأمانة تم لهم التمكين ، وإن هم تخلوا عنها بدلهم الله بمن هو خير منهم يحملها ثم لا يبدل ، وتجري عليهم السنن الإلهية كما جرت علي صحابة النبي صلي الله عليه وسلم حين خالفوا أمر قائدهم في المعركة فانقلبت الموازين وهزموا بعد نصر

رابعا : إن هذا الدين أتي ليبقي ، ولم يأتي ليجدد بنبي آخر ، فمحمد صلي الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ، ورسالته هي الدين الذي ارتضاه رب العالمين للبشرية ليكون الدين الخاتم ، فهذا الدين سيحكم الأرض ، وليبلغن هذا الأمر ما بلغت الشمس وما بلغ القمر ، سواء كنا سببا في هذا أو لم نكن ، سواء رأيناه أو لم نره ، الدين بالغ أمر الله شاء من شاء وأبي من أبي ، فلا يشغلنا هذا الأمر ، ولننشغل بالعمل به ، حتى نكون فيمن عمل له

معالم الواقع العالمي الحالي :

الأمة الإسلامية هي جزء من حركة العالم ، لا يمكن أن تجتزئ مشهد لها لتطلق عليه أنه وضع الأمة دون أن يكون هذا المشهد مرتبطا كليا بما يدور في العالم من حولها ، ومن هذه المعالم :

1 ـ الحضارة الغربية لم تعد تملك مقومات البقاء بعدما طغت ماديتها علي مصلحة الإنسان وسعادته وبقائه آمنا ، وبعدما تحولت لوضع تدمر فيه ما قدمته للإنسانية ، بل وتدمر الإنسانية ذاتها

2 ـ الصراع العالمي المعاصر لم يعد صراعا حضاريا أو ثقافيا بالمعني المعروف ، وإنما هو صراع فرض هيمنة ورغبة إبادة الآخر ، فالغرب يتعامل مع المسلمين كما تعامل البيض مع الهنود الحمر أصحاب الأرض الأصليين وكما أرادوا أن يفعلوا بالشعب الفلسطيني وحقهم التاريخي في أرضهم ومقدساتهم ، والغرب لا يريد أرض العرب ، وإنما لا يريد أن يبقي من العرب سوي من يبدل عقيدته قولا وفعلا ، ويقتل فيهم روح الدين التي تبعث فيهم الحرية والحياة كلما خبت

2 ـ الواقع العالمي المعاصر هو حالة من الاندماج الصليبي الصهيوني للقضاء علي الدين الإسلامي في بلاد الإسلام وخارجها وإعادة تقسيم بلاد المسلمين بما لا يسمح مستقبلا قريبا بإعادة الأمة لكيانها القديم وعزتها المستمدة من دينها 3 ـ التحالف الصليبي الصهيوني يتمثل في الغرب الصليبي والكيان المحتل الغاشم والشيعة وحزب اللات ومن علي شاكلته والمشروع الصفوي ذراع من أذرعهم وروسيا سلاح فعال لهم وحكام من العرب وجيوش تسلح نفسها لمواجهة شعوبها أو كل من يخرج رأسه باسم الإسلام أتي الاستعمار ومن خلفه العمالة لتقلم عقول الشعوب بمشاريع تعليم واهية تغير مفاهيم النشء وإعلام راكع موجه وقتل لكل إبداع وتربية الشعوب علي المذلة والمهانة والانبطاح لترضي بأقل مما تحتاج ولتصل في بعض مراحلها للركوع المختار لحكامها ومن خلفهم تم استئناس معظم الحركات الإسلامية بتوريطها في دائرة الأمن والمال والاستسلام لتصبح بعضها عدوا لبعض لم يتبقي سوي مشروع المقاومة الصامد ، والكيان الكبير ، والتنظيم الوحيد القادر علي مواجهة ذلك المشروع الاستعماري الجديد ، هذا الكيان هو الإخوان المسلمين ومن دار حول فلك فكرتهم ولو بأسماء أخري ، فكرة الإسلام الشامل الذي يسع مظاهر الحياة جميعا فينظمها ويسمو بها ويصل بها لدرجة التفوق الحضاري المادي والروحي بأمر كتابه الذي يتعبد به أصحابه ابتداءا من كلمة اقرأ ومرورا ب " قل سيروا " وصولا  لصفات قوم " يتفكرون " ، " يعقلون " . ولذلك فالحرب كلها اليوم علي اختراق كافة الحركات الإسلامية المعبرة عن تلك الفكرة ، وتوجيه الضربات الموجعة لها بتفريقها وبث روح الشقاق بداخلها لمحاولة تفتيتها بوسائل متعددة ، قتل وهجمات أمنية مباركة من العالم كله ، ومطاردة في الأرزاق ، وتنكيل لم يسبق أن حدث في مصر أو العراق أو سوريا بهذا الحجم ، وتخويف للشعوب منهم ، ولذلك فلن يسلموا بسهولة ، ولن يتركوا تلك الحركة تعمل في صمت باسم الإسلام لإخراج الوطن الإسلامي كله من تلك الدائرة المغلقة ، وإنما سيحاولون تجميدهم فكريا ليسقطوا تلقائيا ، أو يحاولوا تفرقتهم ليصيروا كيانات صغيرة ليس لها قدرة علي إحداث تغيير ، أو التوغل بداخلهم لبث نعرة الذاتية والصراعات الداخلية وعلي تلك الحركات أن تنتبه لما يراد بهم ، ليس عداءا لها خاصة ، وإنما عداءا للمشروع الإسلامي كله واخص هنا حركة الإخوان المسلمين التي تتلقي أشد الضربات المتتابعة عليهم أن ينهضوا سريعا بما يحملوه من فكر وتنظيم ورغبة وقدرة علي التصدي السريع لما يحاك للأمة علي الإخوان أن يعلموا أن تكليفهم من الله ليس شرف بقدر ما هو مسئولية وسنة الله لا تتبدل ولا تتحول فالاستبدال إن هم لم ينتبهوا سريعا علي الإخوان أن يكونوا قدر المسئولية التي تحملوها وتحملها سالفيهم في نبذ تلك الروح المنتنة كما سماها رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم علي الإخوان ألا يخافوا من الانفتاح الفكري فالانغلاق أشد خطرا منه أيها الإخوان وغير الإخوان ممن يهتمون لأمر المسلمين وممن ينتسبون للحركة الإسلامية المباركة أنتم مشروع التحدي الوحيد المتبقي في هذه الأمة ، فكونوا قدر مسئوليته ، قبل أن تغرق السفينة بالجميع ، ثم يأتي الله بغير ولا يكونوا أمثالنا .

وسوم: العدد 670