لا سكوتَ عن عدوان ولا بُهتان بلا بُرهان

مجاهد ديرانية

-1-

ليس في الدنيا عمل لا خطأ فيه، وكلما كبر العمل وكثر العاملون زادت مظنّة الخطأ وتكرّرَ احتمالُ ارتكابه، فإذا أردنا أن نعيش بلا أخطاء فلنعش بلا أعمال، وهذا لا يكون. لكن هل معنى هذا أن نرضى بالخطأ ونسكت عنه؟ هذا أيضاً لا يجوز، لأن الأخطاء تعطل الأعمال، وفي ثورتنا ندفع ثمنها دماءً ودموعاً وآلاماً وكوارثَ وتضحيات.

لقد نما الجسم الثوري وتضخم حتى صار بحجم دولة، وفي هذا الجسم الكبير يوجد صالحون خَيّرون مخلصون يخطئون سهواً بحسن نيّة، وفيه طالحون أنانيون منتفعون يخطئون عمداً بسوء نيّة. الأولون لهم منا كل العذر والود والتقدير، وإنما نساعدهم بالنصح على إقالة العثرة وتصحيح الخطأ، والآخرون ليس لهم منا إلا الشدة والزجر والأخذ على أياديهم لإنقاذ الثورة منهم ومما يصدر عنهم من شرّ وضرّ وأذى وعدوان.

إن الثورة مشروع لجماعة السوريين وليس لبعض أفرادهم، ولقد شارك الشعب كله أو جُلّه في دفع ثمن النصر، فلن نرضى أن تحرمنا منه فئة قليلة وأن تدفعنا إلى الهزيمة بسبب أخطائها وتجاوزاتها. الثورة هي السفينة التي نرجو أن تحملنا جميعاً إلى البر الآمن، فهل ترون أن نسمح لثلّة منّا بخرق جزء من أرضها؟ لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن سكوتَ سائر ركاب السفينة عن الَخْرق ورضاهم به وعدمَ التدخل لوقفه جريمةٌ جماعية يدفع الكل ثمنَها، قال: "فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونَجَوا جميعاً".

وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده"، وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تُوُدِّع منهم". فلو أننا شهدنا خطأ أو ظلماً ثم لجَمَنا الحياءُ أو منعتنا الرهبةُ أن نقول للمخطئ أو نقول للظالم: "أنت مخطئ" أو "أنت ظالم" فقد تُوُدِّع منا!

يا أيها الناس: إن السكوت عن الظلم والرضا بالخطأ مما يطوّل المحنة ويسبب الهزيمة، فلا يُبصِرْ أحدٌ منكم الخطأ أمام عينيه ثم يَقُلْ: أنا لا يعنيني! لا ترضوا بالباطل أو تسكتوا عن الخطأ، لا مجاملةً لأحد ولا خجلاً من أحد ولا خوفاً من أحد، فإنما ينمو الطغاة على أشجار الصمت والخنوع.

 

-2-

نعم، لا بد من الوقوف في وجه الخطأ وتصحيحه وعدم الرضا به أو الاستسلام لفاعله، فإن الذين يرضون به ويسكتون ويستسلمون إنما يساهمون في صناعة الطغاة والمستبدين من حيث لا يشعرون. ولكن ماذا عن الفريق الآخر، فريق الساخطين أبداً، الذين لا يرضيهم عملٌ ولا ينجو من ألسنتهم الحادة أحدٌ من أهل الثورة؟

إن يكن الفريق الأول من أهل التفريط فإن الفريق الثاني من أهل الإفراط، وإن يكن الأوّلون يسكتون عن بُنيان الشر وهو يرتفع أمام أعينهم فإن الآخرين يهدمون بنيان الخير فلا يسمحون له بالارتفاع أبداً. إنهم معاول لا تتوقف عن النقض والتهديم، ويندر أن يكون بين أيديهم على ما يَبهَتون به الناسَ من بُهتان دليلٌ أو بيّنة أو برهان، إنما هي قال وقيل وإشاعات وأقاويل.

هؤلاء الساخطون المتشائمون اختزلوا الثورة في السرقات والخيانات والانسحابات وحوّلوا جيشها إلى جيش من الخَوَنة والفاسدين، ولم يسلم من أذاهم وافترائهم أحد من أهل الثورة، حتى بلغت بهم الجرأة أن وصلوا إلى أعراض حرائر سوريا، فكتب أحدهم ذات يوم معرّضاً بنساء الغوطة العفيفات الطاهرات، قطع الله لسانَ مَن تحدّث عنهنّ بسوء.

لقد طفح الكيل، وإلاّ نضَعْ لهذه الفوضى حداً ونمنعْ هذا الشرّ فإنه يوشك أن يدمر ثورتنا لا قدّر الله، فكلما ظهر فينا رجل صالح خَونّاه وكلما نشأ عمل ناجح أحرقناه، فلا يستقيم لنا أمر ولا تنجح لنا خطة ولا ينهض لنا بنيان.

*   *   *

صحيح أننا مطالَبون بإنكار المنكر على فاعله، ولكن هذا الحق محصور فيمَن علم، مَن شهد المنكر أو أيقن بوقوعه علم اليقين. وللتوثق من الأخبار منهج ليس منه البناء على أقاويل المجاهيل وتطيير الإشاعات بلا بيّنة ولا دليل، إنما المنهج: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" (كما في الصحيحين)، ولا ريب أن النقد البنّاء خير وأن التجنّي والبهتان شر. المنهج هو: "كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع"، وفي لفظ آخر صحيح: "كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع".

لقد انتقد القرآن أولئك الذين لا يتركون أمراً إلا أذاعوه وأشاعوه بلا تبيان ولا برهان، فقال تبارك وتعالى على صيغة الذم والإنكار: {وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به}، قال القرطبي في الجامع: "أي أفشَوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته". ثم بيّنَ ربُّنا عزّ وجَلّ المنهجَ الصحيح الذي ينبغي على الجماعة الالتزامُ به: {ولو رَدّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}. وكل العالِمين بالأمر من الامور المطّلعين على حقائقه وخفاياه هم من الذين يستبطونه خاصة، فيصلون إلى الحقيقة ويخلّصونها مما تلبس بها من التضليل والأباطيل.

فيا أيها الناس: دافعوا عن الصواب ولا ترضوا بالخطأ، ولكن توثّقوا وتبينوا قبل النقد الظاهر وقبل الإذاعة والإعلان، ولا يستخفنّكم الذين يختلقون الأخبارَ ويطيّرون الإشاعات، وما أدراكم أن منهم أعداء وعملاء مندسّين، فتكونوا لهم معينين ولثورتكم مفسدين؟