عن مجزرة حماة 82..

والصندوق الاسود الذي فُتِح للتو بعد ثلاثة عقود

د. حمزة رستناوي

[email protected]

قد تكون مجزرة حماة 1982 م أكبر مجزرة مفردة ضد الانسانية تمت في النصف الثاني من القرن العشرين في المشرق العربي , و من الملفت أن هذه المجزرة لم تأت في سياق غزو خارجي , و لا حتّى في  سياق حرب أهلية بين طرفين أو عدة أطراف كالتي حدثت في الحرب الأهلية اللبنانية أو اليمنية و نحوها. 

لقد ظلّت هذه المجزرة  التي راح ضحيتها ما بين 15 الى 39 ألف قتيل وعلى مدى ثلاثة عقود طي الكتمان رسميّا , و كل ما كان الاعلام الرسمي يردِّده و على خجل , أنه حدثت هناك فِتْنَة في مدينة حماة و قام الجيش العربي السوري الباسل بالتصدي للعملاء و الخونة , و في حينها حتى وسائل الاعلام العالمية لم تُلق بالاً لما كان يحدث من فظائع في هذه المدينة , فعلى سبيل المثال إنّ راديو BBC Arabic   و راديو مونت كارلو  وهما الأكثر انتشارا آنذاك في العالم العربي لم يعرضا لما يجري حينها في حماة سوى كخبر عابر و عادي دونما اهتمام.

لم يتغير الحال كثيرا مع  ظهور ثورة الاتصالات و عصر الفضائيات , فمنذ حوالي عقدين و الى الآن , ما زالت مجزرة حماة 1982 موضوع هامشي و غير مُتداول الى حدّ كبير إعلامياً  , " لقد ظلت أحداث حماة صندوقا اسود طيلة ثلاثة عقود , و البحث فيها اشبه بالتنقيب عن خيط اسود في ليلة ظلماء " , و بالمقابل هناك كم كبير من المَرويّات الشفوية عند السوريين حول المجزرة تختلط  فيها الحقيقة بالأوهام , و يختلط فيها الواقع بالرغبات , يدور معظمها حول ضرورة الثأر و الانتقام  من النظام الأسدي أو العلويين , أو أنّ هذه المَرويات تُستخدم  كمبرِّر لليأس و القنوط في مواجهة النظام الأسدي عند البعض الآخر.                                               و للأسف , و باستثناء الفلم  الوثائقي الذي عُرِضَ على  شاشة الجزيرة " الصندوق الأسود – حماة 82 " منذ أشهر  , و بعد مرور أكثر من ثلاث عقود على المجزرة , لا  نجد أي عمل  تسجيلي أو توثيقي , بسويّة مِهَنيّة جيدة لمحترفين عن مجزرة حماة  1982 م , و يكاد يكون الفلم التسجيلي الوحيد  المُنجز سابقا هو "حماة مأساة العصر "  المنتج عام  1984 م من قبل مكتب الاعلام في التحالف الوطني لتحرير سوريا , و هو تحالف معارض  للنظام ضمّ في حينها الاخوان المسلمين و بعث العراق , و رغم أن الفلم الأخير قد حوى على شهادات صادِمة و مُهِمّة لشهود عيان إلا أن غلبة العاطفيّة  و الخطاب التحريضي و الاستطرادات التاريخية الطويلة أضعف من القيمة الفنّية للعمل. و نفس التوصيف السابق ينطبق  على صعيد الشهادات المكتوبة أو المُسجّلة حول المجزرة حماة , حيثُ يصدمنا قِلتها أولاً , و سهولة الطعن في مصداقيتها  ثانيا , أو كونها لأشخاص لم يكونوا في داخل الحدث و مطّلعين كفاية , أو أنّها لأشخاص غير مؤثرين على سير الأحداث , من هنا تأتي أهمّية الفلم الاستقصائي  " الصندوق الاسود حماة 82 "   فهو محاولة و خطوة مهمة على صعيد كشف الحقيقة , و اعادة الاعتبار للضحايا و التاريخ , حيث جرى في الفلم عرض تسجيلات صوتية و استنطاق لشخصيات ذات صلة لأول مرّة أمام الكاميرا , كما في : ( الشهادة المُصورة لزياد عقلة / شقيق عدنان عقلة - الشهادة المُصورة لعبد الحميد الصالح القيادي في الطليعة المقاتلة - تسجيل حصري لماهر عصار أحد مقاتلي الطليعة الذي كان داخل حماة أثناء الأحداث - تسجيل صوتي لعدنان عقلة زعيم الطليعة المقاتلة يتهم فيه الاخوان بالتخلي عنهم).

الصندوق الاسود حماة 82 أهتمَّ أساسا بالمجزرة على المستوى السياسي , حيث عرض لمُقدّمات الحدث و سياقات الصراع بين سلطة البعث و الاسلاميين آنذاك ,   وقد استغرق ذلك أكثر من نصف زمن الفلم البالغ 51 دقيقة , وهو زمن أكثر من المطلوب , و مِنْ ثمَّ عَرَضَ الفلم للحدث نفسه , و لكنّه لم  يعرض إلا بشكل محدود لشهود و قصص أناس كانوا في قلب الحدث بالمعنى الفيزيائي ,  و مثاله شهادة السيدة التي كانت إحدى أعضاء الكادر الطبي في المشفى الوطني في حماة أثناء الأحداث , و رغم أن هذه المجزرة بالتحديد شكّلت في حينها أحد التعبيرات النادرة في العصر الحديث " لحيونة الانسان "  على حد تعبير الراحل ممدوح عدوان , حيث شهدت هذه المجزرة أشكالا من العنف الاقصى و الوحشية التي قلّ مثيلها  , فوفقا لروايات شفوية متداولة في المنطقة – و كاتب النص ابن هذه البيئة - جرى احراق عشرات المعتقلين الأحياء في فرن معمل البورسلان , و جرى تقطيع أجساد البشر باستخدام منشره آل الزين للأخشاب في منطقة الدباغة و غيرها من الفظائع... فهناك عائلات بأكملها اختفى ذكرها..الخ . ما قصدتُهُ أن الحيز و التجارب الشخصية , و الجانب الانساني  و التداعيات النفسية و الاجتماعية  للمجزرة  لا تقل أهمّية عن الجانب السياسي فيها , و هذا ما قد يتطلّب من المهتمين و المختصّين  في مجال الصحافة و السينما التسجيلية و التوثيقية جهودا اضافية في المستقبل , خاصّة أن الزمن ليس في صالحنا , و كثير من شهود العيان قد ماتوا  أو تشرّدوا في أصقاع الارض.

*                                                                                     بمناسبة الحديث عن الصندوق الأسود : حماة 82 , سأطرح لتساؤل مركزي , و من ثمّ سأحاول الاجابة عنه , هل نجحت مجزرة حماة  1982 م  في تحقيق الهدف الذي خطّط  له الدكتاتور حافظ الأسد منها ؟!                                                                                عقب المجزرة  1982 تم اعدام و تشييع الحياة السياسية في سوريا , و أصبحت سوريا بمثابة مزرعة و ملكية خاصة بآل الأسد على مدى ثلاثة عقود , و ما كان للثورة السورية أن تحدث لولا ظهور جيل جديد  من السوريين لم يعاصر و يعايش المجزرة و الذكريات المؤلمة المرتبطة بها.

و عندما اندلعت الثورة السورية في درعا في آذار  2011 م ظنّ النظام السوري أن الفرصة الآن قد أضحت مناسبة لإعادة تلقين الشعب السوري درسا جديدا , و لإعادة مستويات الخوف في نفوسهم إلى سابق عهدها , و حاول قمع الثورة في درعا  2011 م على غرار حماة 1982 م , و لكنه فشل مع انتشار الثورة في كامل الجغرافيا السورية تقريبا , عداك عن فشله في قمع الثورة في درعا نفسها.  لقد حاول النظام و منذ البداية تصنيع العدو المطلوب رأسه عالميا ألا و هو الارهاب " السنّي " , ففي بداية الثمانينات استغل النظام الاسدي وجود الطليعة المقاتلة - و هي تنظيم مسلّح منشقّ عن الاخوان المسلمين -  لقمع المعارضة السياسية المدنية و قمع الشعب , و نفس السيناريو حدث في الثورة السورية 2011 م حيث قام النظام بتصنيع و تشجيع ظهور تنظيمات اسلامية متطرفة ليبرر قمعه للثورة السورية , التي كانت في العموم و في مراحلها الأولى  ثورة شعبية مدنية  قبل أن يجرّها النظام الى العسكرة.

إنّ الرسالة التي فهِمها الاسد الأب من القوى العظمى آنذاك و خاصة الولايات المتحدة وفقا لوثيقة مكتوبة صادرة عن المخابرات العسكرية الامريكية في نيسان  1982 م , والتي كشف عنها الفلم الوثائقي , كان فحواها : افعل ما تشاء لتثبيت حكمك , مع الاحتفاظ بمصالحنا و مصالح اسرائيل , للأسف ما تزال هذه الرسالة صالحة و قد عمل بها الاسد الابن , و كأن التاريخ يكرر نفسه! فوفقا لشهادة توماس فريدمان : " قواعد لعبة حماة تُلعب من جديد بواسطة بشار الاسد ابن حافظ الاسد , النظام السوري يحاول اعادة ما فعله في حماة , و لكن بالعرض البطء و دونما استعجال , و بشكل تدريجي ."  إن صعوبات الثورة السورية حاليا تتوافق مع  استنتاج أننا كسوريين  ما زلنا  قاصرين سياسيا في التَفَكُّر و الاستفادة من دروس مجزرة حماة 1982 و الصراع المسلح  بين النظام الاسدي و الاسلاميين .            

إن شهادة السيدة العاملة المنقّبة في المشفى الوطني و التي أخفت هويّتها و وجهها, في  وثائقي الصندوق الاسود   1982 م  و هي تروي لنا فظائع المجزرة التي حدثت قبل 31 سنة  , و كذلك تحاشي ذكر زياد عقلة - أحد أعضاء الطليعة الاخوانية  المقاتلة – لمكان إقامته , حيث كُتب على الشاشة ( في إحدى الدول العربية)  , كل هذا يذكّرنا بأن جدران الخوف لم تتهدّم بعد , و إن استطاعت الثورة السورية تحقيق اختراق مهم في ذلك , على أمل نسفها  , و محاكمة القتلة , و تحرير الانسان من الجهل و الظلم.