قيام الحضارات وسقوطها

حسام العيسوي إبراهيم

"ابن خلدون نموذجًا"

حسام العيسوي إبراهيم

[email protected]

ابن خلدون

(732-808هـ =1332-1406م)

 عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، وليّ الدين الحضرميّ الإشبيلي، من ولد وائل بن حجر: الفيلسوف المؤرخ، العالم الاجتماعي البحاثة. أصله من إشبيلية، ومولده ومنشأه بتونس. رحل إلى فاس وغرناطة وتلمسان والأندلس، وتولى أعمالا، واعترضته دسائس ووشايات، وعاد إلى تونس. ثم توجه إلى مصر فأكرمه سلطانها الظاهر برقوق. وولي فيها قضاء المالكية، ولم يتزيّ بزيّ القضاة محتفظًا بزيّ بلاده. وعزل، وأعيد. وتوفي فجأة في القاهرة.

كان فصيحًا، جميل الصورة، عاقلا، صادق اللهجة، عزوفًا عن الضيم، طامحًا للمراتب العالية.

ولما رحل إلى الأندلس اهتزّ له سلطانها، وأركب خاصته لتلقيه، وأجلسه في مجلسه.

اشتهر بكتابه (العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر– ط) في سبعة مجلدات، أوّلها (المقدمة) وهي تعد من أصول علم الاجتماع، ترجمت هي وأجزاء منه إلى الفرنسية وغيرها. وختم (العبر) بفصل عنوانه (التعريف بابن خلدون) ذكر فيه نسبه وسيرته وما يتصل به من أحداث زمنه. ثم أفرد هذا الفصل، فتبسّط فيه، وجعله ذيلا للعبر، وسماه (التعريف بابن خلدون، مؤلف الكتاب، ورحلته غربا وشرقا- ط) ومن كتبه (شرح البردة) وكتاب في (الحساب) ورسالة في )المنطق) و (شفاء السائل لتهذيب المسائل- ط) وله شعر. وتناول كتّاب من العرب وغيرهم سيرته وآراءه، في مؤلفات خاصة، منها: (حياة ابن خلدون– ط) لمحمد الخضر بن الحسين، و (فلسفة ابن خلدون- ط) لطه حسين، و (دراسات عن مقدمة ابن خلدون- ط) لساطع الحصري، جزآن، و (ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري- ط) لمحمد عبد الله عنان، و (ابن خلدون- ط) ليوحنا قمير، ومثله لعمر فروخ[1].

حياة ابن خلدون

 اجتاز ابن خلدون في حياته أربع مراحل، تمتاز كل مرحلة منها بمظاهر خاصة من نشاطه العلمي والعملي:

 (المرحلة الأولى) مرحلة النشأة والتلمذة والتحصيل العلمي. وتمتد من ميلاده سنة 732هـ لغاية سنة 751هـ، فتستغرق زهاء عشرين عامًا هجريّا. وقد قضاها كلها في مسقط رأسه بتونس، وقضى منها نحو خمسة عشر عامًا في حفظ القرآن وتجويده بالقراءات والتلمذة على الشيوخ وتحصيل العلوم.

 (المرحلة الثانية) مرحلة الوظائف الديوانية والسياسية. وتمتد من أواخر سنة 751هـ إلى أواخر سنة 776هـ، فتستغرق زهاء خمسة وعشرين عامًا هجريّا، قضاها متنقلا بين بلاد المغرب الأدنى والأوسط والأقصى وبعض بلاد الأندلس، وقد استأثرت الوظائف الديوانية والسياسية بمعظم وقته وجهوده في أثناء المرحلة.

 (المرحلة الثالثة) مرحلة التفرغ للتأليف. وتمتد من أواخر سنة 776هـ إلى أواخر سنة 784هـ، فتستغرق نحو ثمان سنين، قضى نصفها الاول في قلعة ابن سلامة ونصفها الأخير في تونس. وقد تفرغ في هذه المرحلة تفرغًا كاملا لتأليف "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". ويطلق الآن على القسم الأول من هذا الكتاب اسم مقدمة ابن خلدون، وهو يشغل مجلدًا واحدًا من سبعة مجلدات يشغلها هذا الكتاب بحسب طبعة بولاق. ولم يستغرق تأليف هذا القسم في وضعه الأول إلا خمسة أشهر فحسب.

 (المرحلة الرابعة) مرحلة وظائف التدريس والقضاء. وتمتد من أواخر سنة 783هـ إلى أواخر سنة 808هـ، فتستغرق زهاء أربع وعشرين سنة قضاها كلها في مصر؛ وقد استأثرت وظائف التدريس والقضاء بأكبر قسط من وقته وجهوده في أثناء هذه المرحلة[2].

الظروف والأحداث في حياة ابن خلدون

 لكل عصر قيمه وعاداته وطرائقه وأساليب الحياة السائدة فيه، التي تحدد ملامح حضارة هذا العصر، والتي يعكسها الإنتاج الفكري لعلمائه ومثقفيه. كما يعكس هذا الإنتاج الفكري ملامح الحضارة والعصر التي ينتمي إليها فهو أيضًا يتأثر بهما، لهذا ترتبط عملية استيعاب وفهم الإنجاز العلمي والفكري للعلامة "ابن خلدون" بالتعرف على ظروف عصره وملامحه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية[3].

 الحياة الاقتصادية والاجتماعية في عصر "ابن خلدون":

 كان النشاط الاقتصادي من أكثر الأنشطة الاقتصادية رواجًا في المغرب العربي، حيث كانت قوافل التجارة تقطع فيافي هذه البلاد[4]. ويصف ابن بطوطة بلاد المغرب بأنها هي أرخص البلاد، وأكثرها خيرات، وأعظمها فوائد. وبخلاف النشاط التجاري كان هناك نشاط زراعي واسع في بلاد المغرب الأقصى، وكان استثمار الأراضي للزراعة كان يدرّ مدخلات طيبة. وقد انعكس هذا الرخاء الزراعي على مستوى ونوعية الحياة في تلك البلدان التي عرفت أيضًا نهضة عمرانية كبيرة أشارت كتب الرحالة إلى أبرز معالمها. ولم تقتصر النهضة العمرانية على القصور فقط ولكنها تضمنت الكثير من الطرق البرية والبحرية التي سهلت التنقل من مكان إلى آخر[5].

 أما من الناحية الاجتماعية: فالعصر الوسيط الذي ينتمي إليه "ابن خلدون" لم تعرف مجتمعاته الطبقات الرأسية –كما هو الحال اليوم- بل كانت طبقات ومراتب وأصنافًا أفقية على طول امتداد العالم الإسلامي. فهناك طبقة الجنود وطبقة العلماء وطبقة التجار وطبقة المتصوفة ...إلخ. وكان أفراد كل طبقة يتعاطفون فيما بينهم بغض النظر عن اختلاف جنسياتهم، مهما بعدت بهم المسافات وفرقت بينهم السياسات، بمعنى أن العالمية والوحدة كانتا من سمات العصر الوسيط. وهو أمر كان ملائمًا لطبيعة البنية السياسية والنشاط الاقتصادي لذلك العصر[6].

 ولم تختلف أوضاع الحياة الاقتصادية والاجتماعية بمصر –البلد التي قضى فيها ابن خلدون الربع قرن الأخير من حياته- كثيرًا عن الحياة في بلاد المغرب العربي من حيث ازدهار الحياة الاقتصادية وهو ما يظهر بوضوح في الانطباعات الخلاقة التي أوردها "ابن بطوطة" من خلال وصفه لهذه البلاد التي زارها أثناء رحلته، ووصفه لمصر الحضارية التي بهرته مثلما بهرت معاصره "ابن خلدون"[7].

 الحياة الثقافية والسياسية في عصر ابن خلدون:

 لا يمكن الفصل بين الإنجاز العلمي الذي قدمه "ابن خلدون" للإنسانية وبين طبيعة الحياة الثقافية والفكرية والسياسية التي عاصرها "ابن خلدون" وشكلت ملامح فكره وتكوينه المعرفي. فقد كان "ابن خلدون" تجسيدًا في شخصه لوحدة علمية وثقافية شملت العالم العربي الإسلامي، كما كان تجسيدًا في فكره لفلسفة التاريخ الإسلامي، وممثلا لحال الثقافة العربية الإسلامية في عصر توهجها الأخير. حيث عاش في زمن "كان" العرب والمسلمون فيه ما يزالون يقودون البشرية صوب التقدم والرقي. ومن ناحية أخرى كان العصر الذي عاش فيه "ابن خلدون" هو عصر "التجميع"، الذي أنتج الموسوعات الكبرى، عصر التوهج الأخير الذي شهد محاولات "الجمع" أكثر من محاولات "الإبداع"؛ فقد كتب النويري "نهاية الأرب في فنون الأدب"، وكتب العمري "مسالك الأبصار"، وكتب القلقشندي "صبح الأعشى" ... كما كتب غيرهم مؤلفات وموسوعات ومعاجم "جامعة"[8].

 ومن ناحية أخرى، ازدهرت الكتابة التاريخية العربية، وتنوعت أنماط الكتابة التاريخية ما بين الكتب العامة، والرسائل ذات الموضوع الواحد، والسير الملكية، والتاريخ الحضري الذي يختص بمدينة ما، وفضائل البلدان، والخطط. كان "ابن خلدون" هو ابن العصر الأخير من عصور الثقافة العربية الإسلامية (القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي)[9].

 وإذا كان هذا العصر قد تميز –كما أسلفنا- بغزارة الإنتاج العلمي لعمالقة الفكر في الغرب الإسلامي، إلا أنه يمكن القول: بأن أدب الرحلات هو من أهم الآثار التراثية التي ميزت هذه الحقبة. فقد جاب عدد كبير من الرحالة المغاربة والأندلسيين الشمال الأفريقي طولا وعرضًا، وجاسوا فيه خلال الديار، وفحصوا أغواره، وإنجاده، واصفين لنا بدقة الأحوال السياسية، والثقافية، والتاريخية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعمرانية لهذه البلاد[10].

 ورغم ما تؤكده كتب الرحلة من ازدهار الحركة العلمية والثقافية في عصر "ابن خلدون" نجدها تشير أيضًا إلى ملامح الحياة السياسية في تلك الحقبة، وهي الملامح التي أثرت على رؤية "ابن خلدون" الفكرية، والتي يعكسها كتاب "العبر في ديوان المبتدأ والخبر" بجميع أجزائه. ففي هذا العمل وضع "ابن خلدون" خلاصة تجاربه، وبرز كمؤرخ فهم التاريخ بمعناه الحقيقي الشامل الذي يتلخص في: أن الحدث التاريخي أكبر من أن يكون حدثًا سياسيًا فقط، بل هو نتيجة لتفاعل عدد من العوامل السياسية والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك النفسية أيضًا، وهذا مما دعا "ابن خلدون" إلى الكلام عن مفهوم التاريخ على أنه أشبه بمفهوم الحضارة، أي جعله تاريخًا للأمم والشعوب بدلا من سير الملوك والأمراء وطبقات الأعيان، لهذا لا يمكن فصل رؤية "ابن خلدون" عن أسباب قيام الحضارات والدول وانهيارها بمعزل عن واقع الحياة السياسية في عصره بكل تعقيداتها والتي كان "ابن خلدون" نفسه طرفًا في بعضها، فقد حكمت الشمال الإفريقي في هذا العصر إمارات تميزت إلى حد ما بالرفاهية والقوة والمنعة، وهي الإمارات التي تجزأت إليها دولة الموحدين بعد سقوطها عام 667هـ/1268م[11].

 وقد تواترت في رحلات الرحالة في تلك الفترة الإشارة إلى الصراعات السياسية بين الإمارات المتنازعة وجهود بعض الحكام لتوحيدها[12].

 وبجانب الصراعات السياسية الناشئة بين حكام الإمارات وما أدت إليه من اضطراب سياسي، كان هناك أيضًا مشكلات الصراعات القبلية التي نجمت عن ضعف السلطة السياسية وأدت إلى خروج العديد من القبائل عليها وممارستها لعمليات السلب والنهب[13].

 كذلك تشير كتب الرحلة في تلك الفترة إلى ظلم واستبداد الحكام ونهبهم للمحكومين بدون أي رادع[14].

 كان العالم الإسلامي أيضًا يعاني من أعداء صليبيين لا سيما في المغرب والاندلس، حيث كثيرًا ما لجأت الأندلس لاستصراخ إخوانها المغاربة للجهاد ضد المسيحيين[15].

 أما الجناح الشرقي للعالم الإسلامي فقد كان يتعرض لخطر هجمات التتار الذين احتك بهم "ابن خلدون" بنفسه[16].

 هذه هي أهم الصور والأحداث التي أثرت في فكر "ابن خلدون" وكان لها اكبر الأثر في فكره وكتاباته.

قيام الحضارات وسقوطها عند ابن خلدون

 اهتم ابن خلدون بقضية الحضارة والعمران وبيان أسبابها ومظاهرها وأسباب اندثارها وانحطاطها، هذا ما برز في مقدمة ابن خلدون، وسوف نتحدث عن هذه القضية من كلام ابن خلدون نفسه.

 ولكن قبل أن نبدأ نقرر: أن ابن خلدون لم يرتكب خطأ حصر نفسه في المتغيرات الاقتصادية وحدها لتفسير التنمية والانحطاط، بل إنه اعتمد على مقاربة دينامية متعددة فروع المعرفة، ليبين كيف أن العلاقة المترابطة للعلاقة الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية والتاريخية والديموغرافية، تؤدي إلى نهضة المجتمعات وسقوطها[17].

 أسباب الحضارة والعمران عند ابن خلدون:

 1- العوامل الطبيعية الجغرافية:

 إن للحضارة عند ابن خلدون سببًا طبيعيًا جغرافيًا، ففي المقدمة الثالثة يعنونها ابن خلدون بعنوان: "في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم" ثم يفسر ذلك بقوله: "قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب والبرد في الشمال، ولما كان الجنبان من الشمال والجنوب متضادين في الحر والبرد، وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا، فالإقليم الرابع أعدل للعمران، والذي حافته من الثالث والخامس أقرب إلى الاعتدال، والذي يليهما من الثاني والسادس بعيدان من الاعتدال، والأول والسابع أبعد بكثير، فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال، وسكانها من البشر أعدل أجسامًا وألوانًا وأخلاقًا وأديانًا. حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها، ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية، وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خَلْقهم وأخلاقهم، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}[آل عمران:110]...[18] [19].

 2- الانتقال من البداوة إلى الحضر:

 ثاني هذه العوامل التي تساعد في قيام الحضارة والعمران الانتقال من طور البداوة إلى طور الحضارة.

 فقد بين ابن خلدون أن أجيال البدو والحضر طبيعية، فاختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نِحْلَتِهِم من المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي. فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لِنتَاجِها واستخراج فضلاتها. وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان تدعوهم الضرورة، ولابد، إلى البَدْو؛ لأنه متسِعٌ لما لا يتَّسِعُ له الحواضر من المزارع والفُدُن والمسارح للحيوان وغير ذلك. فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمرًا ضروريًا لهم، وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكِنِّ والدَّفاءة إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصِّلُ بُلغَه العيش من غير مزيد عليه، للعجز عما وراء ذلك.

 ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرَّفْه، دعاهم ذلك إلى السكون والدَّعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط الأمصار للتحضر. ثم تزيد أحوال الرَّفْه والدَّعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك، ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها، والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها، فيتخذون القصور والمنازل، ويُجْرون فيها المياة ويعالون في صَرْحها، ويبالغون في تنجيدها، ويختلقون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون. وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان. ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وُجْدهم.

 فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعية لابد منها كما قلنا[20] [21].

 3- وجود سياسة ينتظم بها أمر العمران:

 يرى ابن خلدون أن الاجتماع البشري ضروري، وأنه لابد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه. وحكمه فيهم: تارة يكون مستندًا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانُهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلَّغُه؛ وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة، ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط.

 وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسًا: ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك "بالمدينة الفاضلة"؛ والقوانين المراعاة في ذلك "بالسياسة المدنية". وليس مرادهم السياسة التي يُحْمل عليها اهل الاجتماع بالمصالح العامة؛ فإن هذه غير تلك. وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير.

 ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين. أحدهما يراعي فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص. وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله عنها في الملة ولعهد الخلافة، لإن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها. الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامة في هذه تبعًا. وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر: إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم؛ فقوانينها إذًا مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية، والاقتداء فيها بالشرع أولا، ثم الحكماء في أدبهم والملوك في سيرهم[22] [23].

 4- الثروة ودورها في الحضارة والعمران:

 المال عند ابن خلدون لا يعتمد على الحظ أو قراءة النجوم أو وجود مناجم الذهب والفضة. يقول ابن خلدون: "اعلم أن كثيرًا من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب في ذلك، ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها بطلاسم سحرية لا يفض ختامَها ذلك إلا من عثر على علمه، واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان"[24].

 وقد أكد ابن خلدون على: أن الكسب والانتاج والعمران لا يتحقق إلا بالعمل، فيقول: "فلابد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول، لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن فلابد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع"[25].

 5- العدل ودوره في العمران والحضارة:

 فقد أكد ابن خلدون على أهمية العدل في قيام الحضارات، ففي عنوان له في المقدمة "الظلم مؤذن بخراب العمران" يقول ابن خلدون: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابُها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب. فإذا كان الاعتداء كثيرًا عامًا في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه الآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيرًا كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونَفَاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وابْذَغَرَّ[26] الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها. فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان؛ لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورةً"[27].

 ثم يقول ابن خلدون: "واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنًا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كان حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهمًا. وأدلته من القرآن والسنة كثير، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر"[28].

 أسباب انهيار الحضارة والعمران عند ابن خلدون:

 أشار ابن خلدون في مقدمته عن أسباب انهيار الحضارات وخراب العمران، ومن هذه الأسباب التي ذكرها ابن خلدون:

 1- تغلب العرب[29] على الأوطان:

 وقد أشار ابن خلدون إلى هذا الأمر، وعنون له عنوانًا "العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب" وقد فسر ذلك بقوله: "والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقًا وجبلة، وكان عندهم ملذوذًا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له"[30].

 2- الاستبداد بالملك وحصول الترف:

 وقد بين ذلك ابن خلدون بقوله: "وبيانه من وجوه:

 الأول: ... ما كان المجد مشتركًا بين العصابة، وكان سعيهم له واحدًا، كانت همتهم في التغلب على الغير والذّبِّ عن الحَوْزَةِ... وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم، وكبح من أعنَّتهم واستأثر بالأموال دونهم، فتكاسلوا عن الغزو، وفشل ريحهم، ورئموا المذلة والاستعباد. ثم ربي الجيل الثاني منهم على ذلك، يحسبون ما ينالهم من العطاء أجرًا من السلطان لهم على الحماية والمعونة...

 والوجه الثاني: أن طبيعة الملك تقتضي الترف، فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعْطِياتهم، ولا يفي دخلهم بخرجهم؛ فالفقير منهم يَهْلَك، والمترف يستغرقُ عطاءه بتَرفِه، ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصُر العطاء كله عن الترف وعوائده...

 وأيضًا فالترف مفسد للخُلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها، فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلا عليه، ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر، فتكون علامة على الإدبار، والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدولة مباديء العطب، وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضي عليها.

 والوجه الثالث: أن طبيعة الملك تقتضي الدعة، وإذا اتخذوا الدعة والراحة مألفًا وخُلُقًا صار ذلك طبيعة وجبلة... فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة[31] العيش ومهاد الترف والدعة، وينقلب خلق التوحش، وينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك، من شدة البأس، وتعود الافتراس، وركوب البيداء، وهداية القفر، فلا يفرَّق بينهم وبين السُّوقة من الحضر إلا في الثقافة والشارة، فتضعف حمايتهم، ويذهب بأسهم، وتنخضد شوكتهم، ويعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس به من ثياب الهرم..."[32].

 3- الظلم مؤذن بخراب العمران:

 "ومن أشد الظلمات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق... فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتُّخذوا سُخْريًا في معاشهم بطل كسبهم واغتُصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متموَّلهم، فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة، وإن تكرر ذلك أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملةً، فأدى ذلك إلى انتقاص العمران وتخريبه"[33].

 "وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس، بشراء ما في أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع، وربما تُفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل، فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطابع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم..."[34].

 4- الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره ومؤذنة بفساده:

 "الملك والدولة غاية العصبية، والحضارة غاية للبداوة، وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس، كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمرًا محسوسًا، وتبين في العقول والنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة، ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضًا كذلك. لأنه غاية لا مزيد وراءها. وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها. والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكَلَف[35] بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل. وللتأنق في كل واحدة من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها. وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها؛ وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمئونات التي تطالب بها العوائد ويعجِز الكسب عن الوفاء بها"[36].

 هذه هي نظرية "ابن خلدون" في قيام الحضارات وسقوطها، ولا شك أنه تحليل مهم قد سبق به علماء الاجتماع في العالم أجمع، ولا شك أن "ابن خلدون" نظر فيه نظرة شمولية، غير قائمة على الجزئية في النظر، لكنه وصف للظاهرة من كل جوانبها، فاستحق بذلك أن يكون عالم الاجتماع الأول في تاريخ الانسانية.

نتائج البحث

 بعد استعراضنا لأسباب قيام الحضارات وسقوطها عند ابن خلدون نستطيع أن نلخص أهم النتائج التي توصل إليها "ابن خلدون" في الآتي:

 1- الحضارة عن ابن خلدون عكس البداوة، وهي غاية العمران، وتؤذن بخرابه، وتحمل بذور فساده.

 2- تعاقب البداوة والحضارة عند ابن خلدون، فطور البداوة هو طور الخشونة والبأس والغلبة والاكتفاء بالضروري والفضائل. أما طور الحضارة، فإسراف وترف وسكون ودعة ومفاسد.

 3- للدول أعمار كما للأشخاص أعمار، لا تتعدى مائة وعشرين عامًا، وتمر بثلاثة أجيال: الخشونة والبسالة في المجد، والترف والانكسار وضعف العصبية، والترف والعجز عن المدافعة وانقراض الدولة.

 4- لقيام الحضارة وانهيارها أسباب متداخلة سياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية.

 هذه أهم النتائج التي استخلصناها من بحثنا عن قيام الحضارة وانهيارها في فكر العلامة ابن خلدون.

المراجع

 1- الزركلي، خير الدين بن محمود بن محمود. الأعلام. الطبعة الخامسة عشرة. دار العلم للملايين، مايو 2002م.

 2- وافي، علي عبدالواحد. مقدمة ابن خلدون. الطبعة السادسة. دار نهضة مصر للنشر، إبريل 2012م.

 3- شابرا، محمد عمر. الحضارة الإسلامية (أسباب الانحطاط والحاجة إلى الإصلاح). الطبعة الأولى. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1433هـ=2012م.

 4- الجوهري، محمد، يوسف، محسن. ابن خلدون إنجاز فكري متجدد. د.ط. مكتبة الأسكندرية، 2008م.

               

[1] - الأعلام، خيرالدين الزركلي (3/330).

[2] - علي عبدالواحد وافي، مقدمة ابن خلدون، ص27.

[3] - محمد الجوهري، محسن يوسف، ابن خلدون إنجاز فكري متجدد، ص20.

[4] - للتعرف على هذه الرحلات الاقتصادية انظر: الطنجي، رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق: عبدالهادي التازي، الرباط، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية رحلة ابن بطوطة، ص1/161.

[5] - محمد الجوهري، محسن يوسف، ابن خلدون إنجاز فكري متجدد، ص26،21،20 بتصرف.

[6] - المرجع السابق، ص20.

[7] - المرجع السابق، ص28.

[8] - المرجع السابق، ص29،28.

[9] - المرجع السابق، ص29.

[10] - المرجع السابق، ص30.

[11] - المرجع السابق، ص34.

[12] - المرجع السابق، ص37.

[13] - المرجع السابق، ص37.

[14] - المرجع السابق، ص39.

[15] - المرجع السابق، ص39.

[16] - المرجع السابق، ص40.

[17] - الحضارة الإسلامية (أسباب الانحطاط والحاجة إلى الإصلاح)، محمد عمر شابرا، ص61.

[18] - مقدمة ابن خلدون، علي عبدالواحد وافي، ص401،399،393،392.

[19] - للتعليق على العامل الجغرافي وأثره في الحضارة والعمران، المرجع السابق، ص404،403، تعليق رقم: (268).

[20] - المرجع السابق، ص468،467.

[21]- للاستزادة في الحديث عن هذا العنصر انظر:

 المرجع السابق، ص480،479،478،477،476،473،472.

[22] - المرجع السابق، ص725،724.

[23]- للاستزادة في الحديث عن هذا العنصر انظر:

 المرجع السابق، ص489-782.

[24] - المرجع السابق، ص838.

[25] - المرجع السابق، ص833.

[26] - ابْذَغَرَّ: ابذعروا تفرقوا وفروا (القاموس).

[27] - المرجع السابق، ص698،697.

[28] - المرجع السابق، ص700،699.

[29] - يستخدم ابن خلدون في معظم فصول المقدمة كلمة "العرب" بمعنى الأعراب أو سكان البادية الذين يعيشون خارج المدن ويشتغلون بمهنة الرعي، وخاصة رعي الإبل، ويتخذون الخيام مساكن لهم، ويظعنون من مكان إلى آخر حسب مقتضيات حياتهم وحاجات أنعامهم التي يتوقف معاشهم عليها؛ وهم المقابلون لأهل الحضر وسكان الأمصار. كما تدل على ذلك الحقائق نفسها التي عرضها ابن خلدون في الفصول التي وردت فيها هذه الكلمة (تعليق رقم 359) للدكتور/ على عبدالواحد وافي، مقدمة ابن خلدون، ص469.

[30] - المرجع السابق، ص509،508.

[31] - الغضارة: النعمة والسعة والخصب (القاموس).

[32] - المرجع السابق، ص535،534،533.

[33] - المرجع السابق، ص701.

[34] - المرجع السابق، ص701.

[35] - كَلِِفْتُ به كَلَفًا فأنا كَلِف، أحببته وأولعت به (المصباح).

[36] - المرجع السابق، ص818،817.