الشيخ كشك مساعد طيار

د. عبد السلام البسيوني

بين عامي 1923 و1996م عاش الرجل العظيم عبد الحميد كشك، خطيباً لسناً فصيحاً، ومتحدثاً ظريفاً، ومفكراً وطنياً مشاغباً، ومحاصراً مضغوطاً عليه، ونجح في أن يضع نفسه خلال هذه المدة بين أشهر خطباء القرن العشرين في العالم الإسلامي، بعد أن خلف وراءه أكثر من2000 خطبة مسجلة، ومائة وثمانية كتاب!

وقد أظهر الشيخ كشك نبوغاً مبكراً؛ إذ حفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، ثم التحق بالأزهر ليحصل - لأول مرة في تاريخ الأزهر فيما أظن، وبعد أن أصابه العمى وهو ابن ثلاث عشرة سنة- على معدل 100% في الشهادة الثانوية الأزهرية، ويكون الأول على الجمهورية، والأول على الكلية طوال سنوات الدراسة، ثم ليحصل على إجازة التدريس من كلية أصول الدين بامتياز، ويمثل الأزهر الشريف في عيد العلم عام 1961م أمام الرئيس عبد الناصر رحمهما الله، وبدأ من وقت مبكر صعود المنابر، والتحدث مع الناس بخطب مميزة لافتة، جعلت منه مدرسةً دعوية خاصة، كان يسميها (مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم) كان هو نجمها الدري، وناطقها الرسمي، إذ لم يستطع أحد بعده أن يجاريه في طلاقته وجرأته ومواقفه التي اعتقل بسببها غير مرة، وعذب عذاباً شديداً، بل هاجمه الرئيس السادات رحمه الله علناً في خطبة له في 5 سبتمبر 1981م هجوماً شديداً، نسأل الله ألا يعيد على مصر مثل هذا اليوم؛ لما كان من آثاره المروعة على مصر بعد ذلك.

لكن أروع ما حصل لكشك على الإطلاق خاتمته الحسنة التي لقي الله تعالى عليها – نسأله تعالى أن يحسن خواتيمنا- إذ توضأ في بيته لصلاة الجمعة، وكعادته كان يتنفّل بركعات قبل الذهاب إلى المسجد، فدخل الصلاة وصلى ركعة، وفي الركعة الثانية، سجد السجدة الأولى ورفع منها ثم سجد السجدة الثانية، وبقي ساجداً بعد أن فاضت روحه إلى بارئها! فهنيئاً له هذه الميتة المعجبة، في زمن يموت فيه كثيرون من هدة الحيل، أو جرعة زايدة، أو من كثرة الشرب، أو من الإيدز؛ عافانا الله وإياك قارئي الحبيب!

لم يسعدني الله تعالى بلقيا الشيخ مباشرة، لكني هاتفته من القاهرة ذات يوم لأسجل معه لتلفزيون قطر فأبى بشكل قاطع، رغم إلحاحي عليه - وكان له موقف شديد من الإعلام، ومن العمل خارج مصر، إذ كان يرى أن الإعلام يخون الأمة، وأن الخروج من مصر من أجل المال أو العمل أو غير ذلك خيانة وطنية، وتولياً من المعركة يوم الزحف! وقد نقل بعض محبيه نتفاً من طرائفه العفوية أثناء خطبه أو قفشاته، ينال فيها من كل إنسان، حتى رجال المباحث الذين كانوا مكلفين بمتابعته وتسجيل خطبه، بل ورئيس الجمهورية، غير متهيب، ولا متردد - وهو الذي اعتقل وسجن سنين، وعذب، ووقع تحت الإقامة الجبرية، وقُطع عنه راتبه حتى مات، ومنع من الخطابة حتى لقي ربه سبحانه– وكان رحمه الله يعتبر منعه عن الخطابة أشد ما وقع عليه من البلاء، فهو الفصيح المتدفق الهدار الجريء المصقع الذرب المفوه اللسِن - رحمه الله تعالى وقبله عنده في المرضيين - ومن لاذع أقواله وطريفها:

• يروى عن الشيخ أن مسجده كان مزدحماً جداً ذات جمعة، فقال:

إخوانّ المباحث اللي في الصف الأول يِتْأدِّموا - يتقدمون- علشان إخوانهم المصلين اللي في الخارج يعرفوا يصلوا!

• وذات مرة قال: اللهم صل على الصف الثاني، والثالث، والرابع. فقيل له: واللي في الصف الأول يا شيخ؟ ليه ما دعيتش لهم؟! فقال: دا الصف الأول كله مباحث يا إخوانّ!

• وبلغه أن أحد الخطباء نقل من مسجده لمسجد آخر بسبب كثرة رواده ومحبيه، وشدة تأثيره عليهم، فذهب الناس وراءه للمسجد الجديد، وأصبح المسجد السابق فارغاً، فقامت جهة ما بدفع جنيه لمن يصلي في هذا المسجد، فتجمع كثير من غير المصلين، وغير المسلمين لملء الفراغ في المسجد، حتى لا تُفتضح الصورة، فكان الشيخ يقول: طبعاً، خد بالك، ده جنيه!

• وكان يقول: الظلم تسعة أعشاره عندنا في السجن، وعُشْرٌ يجوووووب العالم كله، فإذا أتى الليل بات عندنا!

• وعن حياته في السجن كان يقول عن الطعام: في السجن جابوا لنا سوس مفوِّل، مش فول مسوس؛ باعتبار أن السوس في الطعام كان أكثر من الفول!

• واعتقل ذات مرة، فسأله من يحقق معه؛ متجاهلاً سن الشيخ ومقامه: اسمك إيه؟ فقال: عبد الحميد كشك/ بتشتغل إيه؟ فرد الشيخ ساخراً: مساعد طيار!

وهذا يذكرني بالطرفة التي تروى عن بشار بن برد الشاعر الأعمى حين كان في مجلس الخليفة، فسأله أحد الجالسين: ما صنعتك يا شيخ؟ فقال: أثقب اللؤلؤ، فضحك الخليفة جداً؛ لأن ثقب اللؤلؤ يحتاج بصراً حديداً، وقال له: أتسخر من خال أمير المؤمنين؟ فقال: ماذا أقول لرجل يسأل أعمى عن صنعته؟!

• وقال عن صدام قبل غزو الكويت: أول ساندويتش حياكله صدام: الكويت!

• وكان يقول عن بابا النصارى، ناعياً أن المسلمين لا رأس لهم: آه ياني، يللي مالناش بابا.. ويشبه هذا ما يقول شيخنا القرضاوي، هُمّا لهم بابا، واحنا مالناش لا بابا ولا ماما!

• وكم كان يسخر من الممثلين والمطربين المعروفين، ومن كلمات الأغاني التي لا تعجبه، ويتخذ من ذلك مادة لفكاهته؛ فمن مأثوراته الساخرة التي ذاعت عنه: كنا نبحث عن إمامٍ عادل، آمْ طِلِعْ لِنا عادل إمام!

• وهاجم أم كلثوم ذات مرة: امرأة في السبعين من عمرها تقول: خدني لحنانك خدني .. يا شيخة ربنا ياخدك وتريّحينا!

• وقال عن عبد الحليم حافظ: وهذا العندليب الأسود عندنا ظهرت له معجزتان: الأولى أنو بيمسك الهوى بإيديه، والتانية أنو بيتنفس تحت الماء!

• وفي إحدى خطبه قال: مواطن من الإسكندرية يسمى " شعبان رجب السيد" هرب ابنه الذي لا يزيد من عمره عن عشر سنوات، فقال المواطن: إذا لم يعد ابني فسوف أرفع دعوى على التلفزيون.. لماذا يا شعبان؟ قال لأن ابني فتح الدولاب وسرق مائة جنيه وهرب.. فما ذنب التلفزيون؟ لأن صلاح السعدني قام بنفس هذا الدور في تمثيلية " الليلة الموعودة" فأراد الغلام أن يقلد السيد صلاح السعدني؛ حيث لا صلاح، ولا سعد هناك!

• ...... يعني إعلام مدمر مفيش حاجة طول النهار مافيش غير أقابلك فين؟ وأقولك إيه؟ يبقى الواحد طالع على باب الكريم بيقول: يا فتاح يا عليم، بدل ما يقولوا له في الراديو: اتق الله ولا تأكل حراما.. لأ.. يسمع محرم فؤاد بيقول: رمش عينه اللي جرحني.. جرحكِ؟! هو رمش عينه موس حلاقة يا ولد؟ هو إيه؟

وفي موقع الساخر وجدت جملة من الطرائف المفرغة من أشرطة صوتية للشيخ رحمه الله كان منها:

• بستغرب من الناس بتوع العربيات زي اللي راكب تاكسي وكاتب عليه إيه: يا ناس يا شر بطلو قر؛ جاتك خيبة، طيب اكتب ما شاء الله لا قوة إلا بالله! قر إيه؟!

• زي اللي كاتب على العربية بتاعته إيه: اللي ماشي ورايا مغفل، واللي كان ماشي وراه بتاع المرور، قال له: تعال.. يبقى أنا مغفل؟ والله غير معلمك الأدب!

• زي اللي يركب عربية وكاتب عليها...كايداهم! كايدة مين يا حبيبي؟ كايدة ألمانيا؟ كايدة إسرائيل؟ كايدة مين يا غلبان؟!

• .... خدوا السيد الأبنودي يومين في طره.. وبعدين احنا قاعدين معاه قال: الواحد يعني لازم يقدم للبلد خدمات ومواهب، فقلت له: حضرتك قدمت إيه من المواهب؟ قال: انتم مش عارفني؟ والله بنحب نتشرف يا بني.. قال دا أنا فلان مؤلف أغنية تحت الشجر يا وهيبة.. ما شاء الله، إيه دا؟ إيه الفتوح دي والتجلي دا؟ إيه يا واد يا بتاع وهيبة انتا!؟ إيه العظمة دي يا سيدي؟ تحت الشجر يا وهيبة؟! إسرائيل بتجيب صواريخ هوك وطيارات إف 15 وإف 16 واحنا أُف منكم! إيه يا وهيبة إيه!

• ..... روسيا طلعت القمر وأمريكا طلعت القمر، واحنا لسة القمر بتاعنا على الباب! مش عارف إمتى بقى راح يسيب الباب!

• .... وعن الناس الذين يربون الكلاب في بيوتهم قال: الناس نايمة على الرصيف ودا عامل للكلب غرفة لوحده، وبيبقوا نايمين على الرصيف الواحد يقول للتاني: إيه وسّع شوية يا أخي، يرد عليه: انت عاوزني أنام في الشارع؟!

• ويبقى الناس مش ملاقية مواصلات، وتلاقي بيجو دا هو باصص من شباك الشيفروليه، وانت واقف على المحطة بقالك ثلاث ساعات، والكلب باصص لك، وبيضحك لك بابتسامة زرقة بنت كلب! حتقول إيه يعني؟ شيفورليه ومرسيدس واحنا مش لاقيين حمار سيدس! حتعمل إيه؟ تقول يعني: يا ليتني كنتُ... وحد الله وقول لا إله إلا الله، النهار ده فيه كلاب أحسن من موظف درجة رابعة... يعني الكلب إذا ما كملش كيلو الكباب.. تلفون يضرب للدكتور البيطري: - يا بيه/ - نعم يا مدام؟/ - ده بيجو ماكملش ال....أنا خايفة يكون في حاجة في الجهاز الهضمي!

• ......... الناس زمان كان فيها خير والله حتى العيال الصغيرة في المدارس حتى الأناشيد اللي كنا بنحفظها زمان كانت تعلمنا الأخلاق والأدب، كان بيقول لك:

كم يا أبي لك من يدٍ عندي وكم لك من أثر

أنت الذي ربيتني ورعيتني منذ الصغر

وكسوتني وغذوتني ووقيتني شر الغِير

فإذا ألم بي الضنا حل الأسى بك والسهر

تدعو الطبيب ولا تني حتى يجاوزني الخطر

وأفدتني العلم الذي هو كنز مالي المدخر

وتظل تكدح في الحيــاة لحاضري والمنتظر

هو يا أبي دينٌ عليّ أرده عند الكبر

امبارح بقول للواد ابني اللي في تالتة ابتدائي: أخدتم إيه أناشيد؟ أنا بفكر انهم بياخدوا الأناشيد بتاعتنا اللي بتخلي الواد يحترم أبوه، قال لي: أخدنا نشيد القطة مشمشة!

قلت له: قوله..قوله.. بتعرف...اسمع ياسيدي..اسمع التعليم بتاع التربية والتعليم يا خويا، أنا حفظته أعمل إيه؟ اسمع يا سيدي:

يا حلاوة القطة مشمشة في وسط عيالها مفرفشة

بتقول لهم بالنونو أكل الفيران ليكم دوا

بخاف عليكم من الهو لو كلب صاح واللا عوا

الله أكبر يا سيدي يا دي تربية!

وسوم: العدد 685