مـشْيُ الهلافيت!

د. عبد السلام البسيوني

...... ويستمر الشاعر الشاب الذي اغتيل بأيدي (المناضلين) في إطلاق أشعاره الطريفة، في شكل مقطعات قصيرة وطويلة، حافلة بالمفردات العامية المصرية، التي تفجر الضحك في النفس تفجيراً، والتي لم يفهمها محقق الديوان الأستاذ بريغش رحمه الله - لكونه سورياً بعيداً عن دلالات ألفاظ الريف المصري – ما جعلني أصمم حين أهداني إياه سنة تسعين، أن أخدم الديوان، وأستل منه القصائد العامية فأحققها، وأشرح مفرداتها وكناياتها وتعابيرها العامية، لكنني كالعادة أنسى وعودي لنفسي.

ومما قاله الرفاعي رحمه الله تعالى في باب الدعابة والظرف عام 1952م، ممازحاً زميلاً له، ومعارضاً أبياتاً شهيرة لامرئ القيس:

أتانا غنيمي بالفطير وأحضرا وكنا حسبناه دجاجاً محمـرا

بكى أحمدٌ لما رأى اللفتَ دونهُ وأيقن أن الجوعَ كان مقدرا

فقلت له: لا تبكِ عينُك إننا سنأكل لفتـاً أو نموت فنقبرا

وأَحْضَر هنا: من الإحضار، وهو الإسراع.. وقال مهدداً أحد إخوانه أبناء الريف:

يا زارعاً في الحقل ركنَ خيارِ في القطنِ كي يخفى عن الأنظارِ

قسمـاً لئن لم تأتـني بزيارة لأقـول فيك قصيـدةً من نارِ

ويراد بالزيارة: السَّبَتُ المليء بخيرات الريف، من الخضر والفاكهة والجبن والقشدة والفطير المشلتت وغيرها!

وقال مستعرضاً – في إبداع واختصار- رد فعل زوجة فلاحة نَكَدية، مسيئة في ردودها على زوجها، ونَفَسه هنا بيرميٌّ خالص:

لعمرك إني قد برِمت بحرمةٍ إذا قلت يوماً هاتي القرش تردحِ

وإن قلت هاتي فَطِّريني رأيتُها تقول حدَاك العيشُ والجبنُ فاطفحِ

والحرمة الزوجة، وحَداك: عندك، واطفح: من ألفاظ الإيتيكيت المهذبة على الطريقة الفلاحية وتعني كُلْ بالهنا والشفا! كما تقول: اتلقح .. بمعنى تفضل!

لكن من روائع سخريات هاشم الرفاعي ونقده الاجتماعي قصيدة مشي الهلافيت:

لا بالملامِ ... ولا بالنُّصـْحِ تنتفعُ متى أراكَ عن التَّهليـسِ تمتنِعُ

رأيْتُ ذقنَكَ مثلَ الصُّوفِ شايِبَةً ولسْتَ عنْ سيْرِكَ البطَّالِ تنْقطِعُ

كَييفُ مرْمطةٍ، حريفً شعْبَطَةٍ من غيْرِ لخْـبطةٍ للطيْـشِ تنْدفِعُ

وأنت مشْ عيَّلٌ حتى يليقَ بـهِ هذا الهِزارُ وهذا اللَّهـْوُ والدَّلَعُ

قضيْتَ خمسينَ عاماً كلُّها قَرَفٌ حتى كبرْتَ وعادَ الضرسُ ينخلِعُ

عارٌ عليْكَ إذا أصبحْتَ مُنْحنِياً وفيك كلُّ صنوفِ الهلسِ والبدَعُ

وقد بدا رغمَ مكياجٍ تُزاولُه في رأسِكَ الأبيضانِ الشيبُ والصَّلعُ

قطعْتَ عمْركَ في هزلٍ ومسْخرةٍ وعنـدك البؤسُ بالتشبيحِ يجتمعُ

فكمْ سهرْتَ بكازِيـنو تُبعزقُ في مصروفِ بيتِكَ والأولادُ ما شبعوا

إذا رأيْت «لهاليبو» لك ابتسمتْ تطـبُّ في حبها كالعِجْلِ إذْ يقعُ

لكَ انبساطٌ وتهْيـيصٌ وفرفشةٌ وللـوليَّةِ همُّ القلْبِ والوَجــعُ

اسمعْ كلاميَ يا هذا وكُنْ رجلاً مشْيُ الهلافيـتِ مشْيٌ ليْسَ ينْبلِعُ

وهاك يا قارئي الفوكابلري أو معاني المفردات: الهلافيت: جمع هلفوت وهو التافه الذي لا يؤبه له، والتهليس: هو شُغل المسخرة والمشي البطال! والمرمطة: البهدلة، والشعبطة: الله ما يوريكم (نعرضها بالصورة أحسن) وأنت مشْ عيلٌ تعني: لستَ بطفل، والأقْيَسُ أن تكون مش عيلاً، بالنصب خبراً لـ( مش) النافية التي تعمل عمل ليس، وهي ترادف مُب أو مُهُب عند الخلايجة. والتشبيح: البلطجة، وتبعزق: تنفق بلا حساب، ولهاليبو: رقاصة من بتوع الكازينوهات اللي مش تمام، من أيام الأبيض والأسود المهزوز، سمت نفسها بعد انتشار فيلم نعيمة عاكف بتاعة السيرك، والانبساط والتهييص والفرفشة: سيادتك عارفهم، والولية – بكسر الواو- هي الست الغلبانة المتلقحة في الدار، والهلافيت: مرّت أول الكلام، ما توجعش دماغنا سيادتك.

ومن أشهر قصائده وأطرفها قصيدة له في شكوى الزمان بعنوان: الفولُ أكلي ما حييتُ:

الفــــقْرُ يملأُ بالمذلة كاسـي إني سأُشهرُ فـي الورى إفلاسي

لا الجيْبُ يعمرُ بالنقودِ، ولا يـدي فيها فلوسٌ زيِّ كـــلِّ الناسِ

أصبحْتُ باطيَ والنجـومَ، ولا أرى أحداً يُخفــف كُرْبتي ويُواسي

الفولُ أكْلي ما حييتُ وإنــــني متحرِّقٌ شوْقاً إلى القٌلقـــاسِ

قدْ كدتُ يا قوْمي أصيحُ منهِّــقاً وتخلّعتْ منْ أكلِهِ أضْـــراسي

البطْنُ خالٍ كالجيوبِ .. وأشْـتهي ما في المسامِطِ منْ لحومِ الـرّاسِ

وإذا مشِيتُ فإنني مُتهالــــكٌ وأكادُ ألفظُ جائعاً أنفــــاسي

وأمُرُّ بالحاتي فأهتُفُ قائــــلاً: كـــمْ ذا يُكابِدُ مُفلسٌ ويُقاسي

قدْ بِعْــتُ مهريَّ الهدومِ وفي غَدٍ سأبيعُ حتْــــماً للعبادِ نُحاسي

وإذا ذهبْتُ لحفْلةٍ أشْـــدو بلا أجرٍ كعبد الحيِّ أوْ حــــوّاسِ

فهناكَ منْ يأتي يُهدِّدُ صائحـــاً: اجلسْ لحاكَ اللهُ منْ هَــــلاّسِ

فألمُّ أبياتَ القصيدِ وأنثَـــــني أمشي على الطرقاتِ كالمُحتَــاسِ

ويظلُّ ينخلعُ الحذاءُ على الثَّــرى فمقاسُ صاحبِهِ خِـــلافُ مقاسي

لوْ كانَ هذا الفقْرُ شخْصــاً بيْننا لقطعْتُ حالاً رأْسَــــهُ بالفاسِ

ومفردات هذه القصيدة سهلة جداً قارئي العزيز فهاك معانيها:

زَيِّ: أداة تشبيه مبنية على الكسر! باطي والنجوم: كناية عن الفقر الدكر، منهِّقاً: يعني صارت ودانه طويلة الله يعزك، والمسامط: جمع مسمط وهي محلات تطبخ زبالة اللحم وأطراف الحيوان خاصة، ولا أدري كيف يأكلها بعض الناس! والحاتي: مطعم مش عارف ليه سموه كدا، ومهري الهدوم: الخَلَق من الثياب، أو الملابس المهترئة، والنحاس: أوعية البيت المختلفة التي تجهَّز بها العروس (الحلل والطشوت والإبريق) وهو ثروة الفلاحين أيام زمان، حين كان يتباهون بأن أوعيتهم المنزلية من نحاس مش ألموني، وكانت المرأة تعير ضرتها قائلة: (كل نحاسك ألمونيا!) وعبد الحي وحواس: مطربان شعبيان، ثانيهما بلدياتي شخصياً من قرية اسمها سندبسط على أطراف المحروسة زفتى ست الدنيا! والهلاّس: هو الخبّاص، والمحتاس هو الملخوم والمرتبش، وفي البيت قبل الأخير التفات بديع تأمله بنفسك، واللا هاقول لسيادتك كل حاجة؟!

أخيراً: الله يرحمك يا رفاعي ويقبلك في الصالحين..

وسوم: العدد 685