ساعدوني.. ولدي يغار

كثيراً ما يشكو الوالدان، لا سيما الأم، من أن طفلهما شديد الغَيْرة، وهو ما يسبب إزعاجات شتى، للطفل نفسه، ولإخوته ولأبويه...

فما حقيقة الغَيْرة ؟ وما أسبابها ؟ وما علاجها ؟ وهل هي خاصة بالأطفال ؟...

في الإنسان دوافع شتى. ولكل دافع دور إيجابي في الحياة طالما بقي في الحدود الطبيعية. وهذه الدوافع هي ثمرة تفاعل بين غرائز موروثة وتجارب مكتسبة من البيئة.

وقد تتداخل الدوافع أو تتراكب لتشكل دافعاً جديداً. والدافع حالة نفسية داخلية تنشئ توتراً يدعو صاحبه إلى إشباع الدافع، فإذا أشبعه زال التوتر.

والغَيْرة محصلة لمجموعة من الدوافع، أهمها ثلاثة:

1- دافع التملك. فالإنسان يحب التملك )وتحبُّون المال حبّاً جمّاً(. فإذا وجد أقرانه يملكون أكثر منه، فقد يغار، وقد يحسد!

2- دافع التفوق. والإنسان يحب أن يتفوق على الآخرين، ليس في حيازة الممتلكات فحسب، بل في المهارات الذهنية والنفسية والبدنية... فإذا وجد التلميذُ من يتفوق عليه في التحصيل الدراسي، أو في بعض الألعاب الرياضية أو الإبداعات الأدبية، فقد يغار، وقد يحسد!.

3- دافع القبول الاجتماعي. والإنسان يحب أن يكون محل رضا في مجتمعه: يحبه الناس، ويحترمونه، ويقدّرونه... فإذا وجد نفسه متخلّفاً عن أقرانه في ذلك فإنه يغار منهم، وقد يحسدهم!.

ومن هذا التحليل نجد أن الغَيْرة ليست خاصة بالأطفال، بل هي عند الكبار كذلك. لكن الطفل يعبّر عن غيرته بعفوية وبراءة، وبصورة مباشرة عارية عن التزويق والغش، بينما قد يواري الكبار غيرتهم، أو يغلفونها بادعاءات مختلفة، وما التنافس والغبطة والحسد... إلا صور من الغَيْرة.

**********

وإذا كانت شخصية الإنسان تتبلور، وتتحد ملامحها في السنوات الخمس الأولى من العمر، فإن أهم عنصر في البيئة هو الأسرة ومحيط الأسرة، من أم وأب وإخوة وأقارب وخدم... لذلك فإن البحث في غيرة الأطفال هو الأجدر بالاهتمام، لأن هذه الغَيْرة قد تؤثر في مستقبل حياتهم كله.

ومن حكمة الله تعالى أن جعل ارتكاسات الطفل ظاهرة، بمعنى أن أي خلل في بدنه أو نفسه يولِّدُ أثراً شديد الظهور، وهو ما يلفت انتباه الكبار إلى ضرورة المسارعة إلى العلاج، فالحمّى التي تصيب الكبير وتسبب له ارتفاعاً في حرارته بمقدار درجة واحدة، قد تسبب للطفل ارتفاعاً بمقدار ثلاث درجات، وهو ما يقلق الأهل ويدفعهم إلى تلمّس العلاج.

لذلك فإن الطفل الذي يغار من أخيه أو ابن عمه أو ابن الجيران يسبب إزعاجاً وإرباكاً في بيئته، فتظهر الشكوى من الوالدين لطلب العلاج.

**********

وتكاد الغَيْرة – لاسيما عند الأطفال- أن تكون مزيجاً من مشاعر الحب والخوف والغضب.

فالطفل يغار من أخيه المولود حديثاً لأنه يحب أمه، ويخاف أن يكون هذا المولود منافساً له في هذا الحب، ويغضب من أي تصرّف من أمّه إذا فسّره تحولاً من الاهتمام به، إلى الاهتمام بالوليد.

وهو يغار من قريبه الذي يحتضن لعبة جميلة، لأنه يحب اقتناء مثل هذه اللعبة، ويخاف ألا يحصل عليها أو على مثلها، ويغضب لهذا.

**********

ونؤكد أن الغَيْرة إذا كانت في الحدود الطبيعية المعتدلة، لا ينبغي أن تدعو إلى القلق، بل هي شعور مفهوم وسائغ، ولا خوف منه.

ولكن متى تصبح الغَيْرة مرضاً يحتاج إلى علاج، أو جنوحاً يحتاج إلى تشذيب؟! إنها تصبح كذلك إذا وصلت إلى حد الإفراط.

أربعة مظاهر للغيرة المُفْرِطة:

أولها: السلوك العدواني الذي يؤدي إلى إلحاق الضرر بمن يغار منه (كأن يضرب أخاه المدلّل، أو يتهمه ببعض الذنوب ليسبب له عقوبةً من والده، أو يسرق له لعبة أو يحطمها)، أو يؤدي إلى جذب الأنظار إليه، وكأنه يقول بلسان حاله: عالجوا مشكلتي ولا تهملوني!.

ثانيها: الحيل التي تستجلب عطف الآخرين واهتمامهم، من غير ظهور سلوك عدواني، كأن يتظاهر الطفل بالمرض، أو بالخوف من بعض الأشياء، أو يمتنع عن الطعام... فهو في كل موقف من هذه المواقف يقول لذويه بلسان حاله: "قفوا معي. اهتموا بي".

ثالثها: الميل إلى العزلة، وضعف التواصل مع الأقران.

رابعها: الشعور بالحزن والكآبة، نتيجة الشعور بالإهمال والاضطهاد!.

والمظهران الأخيران يمثلان تعبيراً عن الغَيْرة بطريقة سلبيّة انسحابية.

***********

درهم الوقاية، والمسارعة في العلاج:

إذا كان درهم وقاية خيراً من قنطار علاج، فإن تلافي أسباب الغَيْرة ابتداءً، أو القضاء على هذه الأسباب فور ظهور آثار الغَيْرة هو العلاج. إذاً فلنذكر أهم أسباب الغَيْرة حتى نتوقّاها، أو نسارع إلى علاجها:

1- توجيه الأسرة اهتمامها نحو المولود الجديد، بحيث يشعر الطفل السابق أن منافساً له جاء ليحتل قلب والديه مكانه!. ومن علاج ذلك أن يستمر الأبوان في إظهار الاهتمام بالطفل السابق، ودعوته هو إلى الاهتمام معهما بهذا الضيف الجديد، وإشعاره بأن هذا المولود يحب أخاه...

2- التمييز بين الذكور والإناث، فالمجتمعات الشرقية تظهر اهتماماً بالطفل الذكر يفوق كثيراً الاهتمام بالأنثى، وهو ما يفسد الذكر نفسه حين يحسّ بالاستعلاء الكاذب، ويعقّد الأنثى ويجعلها تغار من الذكر الذي يحظى بالدلال والتكريم...

3- إظهار الحب الفائق للطفل الأكثر جمالاً وتكريمه بالقبلات، والحمل في الأحضان، وشراء الألعاب له، والغض عن تجاوزاته... بما لا يحظى به أخوه الذي حُرم من هذا القدر من الجمال...

4- إشعار الطفل أنه أقل من إخوته أو أقاربه أو جيرانه، سواء في ذكائه، أو جماله، أو قدرته على التعبير، أو توافقه الاجتماعي، أو تفوقه الدراسي... كأن يكثر الأهل من أمثال هذه العبارات:

- انظر إلى أخيك كيف يجيد اللعب بالكمبيوتر، وأنت لا تُحسِنُ شيئاً، ولا تصلحُ لشيء!

- ابن الجيران حصل على الترتيب الأول في صفه، بينما كان ترتيبك متأخراً.

- هذا الطفل يعرف كيف يرحّب بالضيوف، وأنت جامد...

************

ولا شك أن دافع الأهل وهم يُجْرون هذه الموازنات، دافع طيب، ولكن أسلوبهم هذا يجعل الطفل يحس بالدونيّة، ويغار من أولئك الذين تفوقوا عليه، لاسيما إذا لم يكن بإمكانه أن يجاريهم. فهل من الممكن مثلاً أن يكون جميع الأطفال أوائل في صفوفهم؟!

ألا يمكن أن يُقال للطفل، بدلاً من الأساليب السابقة: هذا السلوك جيد من فلان، ونحن على ثقة أنك قادر على تحسين سلوكك؟!.

أي إن الطريقة الصحيحة في مثل هذه المواقف أن يثني الكبار على التصرف الجيد، ويُبدوا استهجانهم للتصرف الخاطئ، من غير أن يَعْقِدوا الموازنة المباشرة بين الطفل الذي يتصرف التصرف الأول، والطفل الذي يتصرف التصرف الآخر. أي إنهم بدل أن يقولوا: هذا الطفل أفضل منك، يحسن أن يقولوا: "هذا السلوك جيد. ما أجمل أن يتعلم الطفل اللعب على الكمبيوتر!. ما أحسن أن يكون الطالب متفوقاً في دراسته. من الجميل أن يرحّب الطفل بضيوف أهله..."

***********

لقد أشرنا من قبل إلى أن الغَيْرة ليست خاصة بالأطفال... بل توجد عند الكبار في صورة التنافس أو الغبطة أو الحسد...

لذلك يجب أن نتقدم خطوة إلى الأمام في معالجة الأمر من جذوره:

إذا كان الإنسان يغار من أخيه وجاره وزميله في شأن من شؤون الآخرة، أو في خُلُق كريم... ويتمنى أن يكون مثله، بل أن يسابقه في ذلك... فهذه الغَيْرة محمودة )وفي ذلك فلينافسِ المتنافسون(.

  وإذا كانت في عَرَض من أعراض الدنيا، كمنافسة على شُهرة أو ثروة فهي تتراوح بين غبطة غير محمودة، وهي أن يتمنى الإنسان لنفسه مثل تلك المزيّة من غير أن يتمنى ذهابها عن صاحبها، وبين حسد ذميم، قد أمرَنا الله تعالى أن نستعيذ من شر صاحبه.

وحتى نتفادى الوقوع في التنافس على حطام الدنيا، فضلاً عن الحسد، يجب أن نرسخ في نفوسنا ونفوس أبنائنا وأهلينا وأصحابنا معاني الرضا بما قسم الله، والزهد بأعراض الدنيا الزائلة، وسؤال الله من فضله )والله ذو الفضل العظيم(، والعلم بأن الله سبحانه حكيمٌ فيما يعطي ويمنع، وفيما يبسط من الرزق ويقدر...

الله لطيف بعباده: يرزق من يشاء. وهو القوي العزيز(. (الشورى: 19)ولو بسط الله الرزق لعباده لبَغَوا في الأرض، ولكن الله ينزّل بقَدَر ما يشاء. إنه بعباده خبير بصير(. (الشورى: 27).لله ملك السماوات والأرض. يخلق ما يشاء. يهب لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوّجهم ذكراناً وإناثا، ويجعل من يشاء عقيماً. إنه عليم قدير(. (الشورى: 50).قل: اللهم مالك الملك. تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء، وتذل من تشاء. بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.. (. (آل عمران: 26)

ولا شك أن ترسيخ هذه العقائد وما ينبثق عنها من قيم ومفاهيم، يؤدي إلى تفهم حكمة الله تعالى، والرضا بقدره، وينزع من القلب كل مشاعر الحسد والضيق...

وبعد فالأمر يحتاج إلى حكمة )ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. وما يذّكر إلا أولو الألباب(.

وسوم: العدد 687