قدوة القيادة في الإسلام 23

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة الثالثة والعشرون :

مشروعية الجهاد في سبيل الله وضرورته

د. فوّاز القاسم / سوريا

لقد جاء الإسلام العظيم ، لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، إلى العبودية لرب العباد ، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، ونبذ ربوبية كل الأدعياء الآخرين .

وهذا معناه : الثورة الشاملة على حاكمية البشر ، في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها .

والتمرّد الكامل على كل وضع لا ينسجم مع هذه الحقيقة الراسخة .

ولقد فهم العرب الذين واجهتهم الدعوة الأولى ، هذه الحقيقة ، منذ اللحظة الأولى التي صدع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ب( لا إله إلا الله ) ، وذلك لأنهم كانوا يعرفون جيداً مدلول لغتهم العربية .

فلقد عرفوا أن من أهم ما تعنيه ( لا إله إلا الله ) ، انتزاع سلطان الله المغتصب من قبل أصحاب الأهواء والمطامع والمصالح ، من الكهان  والكبراء والوجهاء ومشيخة القبائل وغيرهم ، ورده إلى الله .

وطرد المغتصبين له ، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم ، فيقومون هم مقام الأرباب ، ويقوم الناس مقام العبيد .

بمعنى آخر .. تحطيم مملكة البشر في الأرض ، وإقامة مملكة الله .

(( إن الحكمُ إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيّم ، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون )) يوسف (40)

وإقامة مملكة الله في الأرض ، وتحطيم مملكة البشر ، وانتزاع السلطان المغتصب من أيدي مغتصبيه ، ورده إلى الله وحده ، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها ، وإلغاء شرائع البشر .. كل ذلك لا يتم بمجرّد الدعوة والتبليغ والبيان ، لأن المتسلطين على رقاب الناس ، والمغتصبين لسلطان الله ، والمنتفعين بهذا السلطان ، لا يسلّمون سلطانهم بمجرد الدعوة والبيان _ وإلا فما كان أيسر مهمة الرسل في إقرار دين الله في الأرض _ بل لا بد من الجهاد والتضحية ، وبذل الغالي والرخيص في سبيل الله ، لإقرار هذه الحقائق وترسيخها .

فإذا كان لا بد من الدعوة والبيان ، لمواجهة العقائد والتصورات .

فكذلك لا بد من الجهاد والتضحية ، لمواجهة العقبات المادية التي تقف في وجه الدعوة ، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على عوامل اعتقادية تصورية ، أو عنصرية ، أو طبقية ، أو اجتماعية ، أو اقتصادية ..إلخ

  وهما معاً .. الدعوة ، والجهاد ، لا بد منهما لانطلاق حركة تحرير الإنسان في الأرض ، من كل ما يعيقها ويكبلها .

وليس ذلك معناه إكراه الآخرين على اعتناق عقيدة الإسلام كما قد يفهم البعض ، فالإسلام ليس مجرّد عقيدة فحسب ، بل هو إعلان عام لتحرير الإنسان ، كما ذكرنا .

فهو يهدف ابتداءً ، إلى إزالة كل الأوضاع التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر ، وعبودية الإنسان لأخيه الإنسان .

ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً بالفعل ، في اختيار العقيدة التي يريدون ، بمحض إرادتهم ، بعد رفع كل الضغوطات عن ضمائرهم،  وإزالة كل العقبات من طريقهم ، والبيان المنير لعقولهم وأرواحهم .. 

ولئن كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، قد اكتفى  في مرحلة الاستضعاف المكية ، بالدعوة والبيان ، ولم يجاهد في سبيل الله لإقرار منهج الله في الأرض ، ليس لأن أمثال هذه المعاني كانت غير واضحة له في تلك المرحلة ..

بل لأن فقه المرحلة ، وفهم الواقع ، وتحديد الأولويات ، لم يكن ليسمح له بإطلاق عملية الجهاد في غير ظرفها ، أو تفجير المعركة في غير أوانها ، والذي يؤدي حتماً إلى إزهاق المزيد من الدماء ، وهدر المزيد من الأعمار والأموال ، من غير طائل .

والذي يمكن أن يقود أصحاب الدعوة في النهاية إلى الصدمة والإحباط ..

ولذلك ما إن وطئت أقدامه صلى الله عليه وسلم ، أرض المدينة المنورة _ بعد أن بايعه هذا الحي من الأنصار على حرب الأحمر والأسود ، وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ، على أن ينصروه ، ويؤازروه ، ويساندوه ، ويمنعوه مما يمنعون منهم أُزرهم ، على نُهكة الأموال ، وقتل الأشراف _ حتى بدأ يعد العدة للقتال ، ويضع الخطط للجهاد ، ويهيء الظروف للمعركة .

استجابة لقوله تعالى : (( أذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا ، وإنَّ الله على نصرهم لقدير ، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله )) الحج (39). 

ولا أريد في هذه الدراسة ، أن أعيد كلاماً مكروراً ، عن فقه الجهاد وأحكامه وآدابه ، فلقد ألَّف أهل الاختصاص في ذلك الكتب والمجلدات .

ولكنني معنيٌّ هنا بتسليط الضوء على أهم الزوايا المشرقة في جهاده صلى الله عليه وسلم ،  والتي عكست كفاءتة القيادية المبدعة ، وحضوره القيادي المتميز ، وقدوته الجهادية الراشدة .

لتكون نبراساً يقتدي به كل من شرَّفه الله بنعمة الجهاد في هذا العصر..

ولتكون مشعلاً يسير على هديه كل من ابتلاه الله بمسؤولية القيادة والريادة والتجديد ، في العمل الإسلامي المعاصر …