نظريات الحجاب في رؤيتها الخارجية

مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

جاءت أكثر النظريات التي تفسر الحجاب من خارج منظومته الداخلية بإحالته الى وقائع في التاريخ القديم، مما يؤكد ذلك الجذر التاريخي للحجاب كمفهوم وعقيدة دينية وتشريعية، ومنها النظرية التي ترى في الحجاب بانه اتجاه رهباني وممارسة في الرياضة الروحية باعتبار المرأة من وجهة نظر قديمة هي موضوع للّذة ورمز للدنيا، وموضعتها بهذا المعنى في تأويلات الرؤيا والمنامات لاتزال تشكل امتدادا لتلك التصورات القديمة حول المرأة، وبهذه الرمزية قد تعيق المرأة رحلة الراهب نحو الله، فلجأت تلك المجتمعات القديمة إلى إلزام المرأة بالحجاب حتى لا تفتن الراهب ومن ثم المجتمع وتشغله عن سلوكه الزهدي.

 لكن الرهبنة لم تكن سلوكا عاما في تلك المجتمعات يفضي إلى فرض الحجاب، بل كانت الرهبنة سلوكا استثنائيا يمارسه أفراد محدودون يأوون إلى الأماكن المنقطعة عن المجتمعات من أجل الإعراض عن الدنيا، ناهيك عن فرض أحكام على أهل الدنيا ومنها الحجاب الذي عرفته وألفته المجتمعات القديمة.

وتعزو النظرية الأخرى الحجاب إلى فقدان الأمن والعدالة في المجتمعات القديمة، فهي كانت معرضة إلى الغزو وأسر النساء باستمرار، وكان الخطف للنساء والأطفال في الحرب والسلم لغرض بيعهم في أسواق النخاسة ظاهرة بادية للعيان، فلجأ الرجال إلى حجب نسائهم في البيوت والعزل لهن، وكذلك كان الملوك والأمراء المستبدون قديما يصادرون حقوق الشعوب وأملاكهم، وكن النساء الجميلات معرضات باستمرار لهذه المصادرات، لذلك كان الحجب والعزل التام لهن عن المجتمع وسيلة من وسائل الأمن والصون للنساء عن هذا الضياع أو التضييع لهن.

 ورغم قوة هذه النظرية وإمكاناتها في تفسير الحجاب، إلا أن الحجاب كان سلوكا عاما في المجتمعات القديمة، ولم يكن ينحصر بذوات الجمال الفائق، إضافة الى الفترات الطويلة من الأمن والاستقرار التي كانت تعيشها مدن وعواصم الدول القديمة لم تكن فيها هذه المجتمعات بعيدة عن الحجاب، بل ظل الحجاب سلوكا وتقليدا أخلاقيا واجتماعيا حتى في فترات ظهور حاكم عادل كانت فيها الناس تؤمّن على أحوالها وأموالها ونساءها. وهنا نستشهد بتشريعات الآشوريين والفرس، فقد كانت تفرض أحكاما قاسية وشديدة على مخالفات الحجاب الذي كان مفروضا في هذه الدول بقوة القانون رغم الأمن الذي كان يعيشه مجتمعا هاتين الدولتين.

 أما النظرية الثالثة فإنها تحيل الحجاب إلى ذكرى ثاوية في اللاوعي البشري، وهي سلطة الأب، والحجاب في رؤيتها يمتد الى سلطة الأب هذه. وتفسر هذه النظرية الحجاب بالمسألة الاقتصادية، فالأب – الرجل يسعى الى تحصيل منافع اقتصادية من خلال نسائه فيعمد إلى حجبهن حتى تتوفر له منفعة مالية جيدة ومربحة، فيقوم بتقديم تلك المرأة إلى من يتقدم لها، ولازلنا نشهد مثل هذه الظاهرة في ربح المهر الذي يشدد عليه الأب أو ولي الأمر. ولعل هذا التصور يفسر ظاهرة غلاء المهور في بعض مجتمعاتنا.

 لكن هذه النظرية تتخلى عن قيم الأبوة لصالح التفسير الذي يتفق مع القيم المادية والرأسمالية الربحية، والتي تسعى الرأسمالية المتوحشة إلى تأصيل ذلك النزوع طبيعيا كعادتها في تأصيل كل قيمها التي محورها المصلحة وايدولوجيا النفعية–البراغماتية ومبدأ الحريات الاربعة الذي يتأسس عليها ضمن سياقات هذا النزوع ذي التوجه الأحادي الذي أفرز إنسان حضارة ذات بعد واحد كان لها أثرها الكبير في مواجهة الحجاب باعتباره لا يستجيب الى لغة وحسابات الربح الرأسمالي الذي وجد مجاله الربحي الواسع في موضات وصرعات الأزياء التي غطت دورها واستعراضاتها مجالات واسعة من النشاط الرأسمالي، لكن هذه النظرية تفسر بالنتيجة الحجاب بحالة من الطبيعية التي تثوي في كيان الرجل–الأب بانغراسها باللاوعي البشري.

 أما النظرية الرابعة فالحجاب فيها إحالة الى مسألة أخلاقية ونفسية تكمن في طبيعة الرجل الذي يتسم من وجهة نظرها بالحسد والأنانية، فالحسد على امتلاك رجل لزوجة جميلة قد يثير تجاهه المنافسة على هذه الزوجة، والأنانية في نفس هذا الرجل–الزوج في الحرص على امرأته ونسائه من السقوط بأيدي الآخرين هو الذي يدفع الرجل إلى إملاء فكرة الحجاب وسلطته على المرأة في العزل التام لهن، وهذه النظرية لا تخرج عن تلك الأطر المادية التي تتحول فيها المرأة الى حالة من التسليع المعنوي لها واختزالها بالملكية الشخصية للرجل.

 وبالقدر الذي لا تخرج فيه تلك النظرية عن التفسيرات الرأسمالية الربحية أو تشتغل تحت وطأتها وهي تختزل الأشياء كلها بمنطق الملكية والربح، فإنها تصطدم والتجربة الإنسانية التي تحيل العلاقة الزوجية بين المرأة والرجل الى الحب الإنساني والمودة الخالصة، وقد ظفرت تلك النظرية في الترويج لفكرتها واختزال العلاقة الزوجية في المجتمعات التقليدية بهذه الصورة من الأنانية والحسد، وجرى تصور الحجاب في الغرب بأنه تعبير عن الأنانية والقهر الذي تقع تحت وطأته المرأة في هذه المجتمعات، لاسيما الإسلامية منها، وهو جزء من التعميمات الإستشراقية التي عبرت عن الذاتية الأوربية التي تخلت عن الموضوعية في ظل الهيمنة التي مارستها وفرضت ذاتها المركزية عالميا، وفرضت تلك الذاتية أيضا في التعبير عن الأفكار الإنسانية واحتكار تلك الوظيفة التفكيرية الخاصة بها من وجهة نظرها.

وقد شكلت تلك النظريات أو غذت نظرة الغرب الى الحجاب، "الحجاب الهوية الناطقة بصمت" فالمدى الذي ينظر من خلاله الغرب الى الحجاب هو نطاق الحرية الشخصية التي تشكل فضاء الفكر والايدولوجيا الحديثة في محاولة تشكيل العالم الحديث، وهو يصطدم بتناقض بنيوي بإزاء مسألة الحجاب باعتبارها اختيارا حرا وواعيا للمرأة المسلمة لاسيما في الغرب وهي تعيش بعيدا عن ضغوط مجتمعاتها المسلمة، وتطرح الكاتبة الأوربية التي تحولت الى الإسلام كاثرين بولك في كتابها "نظرة الغرب الى الحجاب –دراسة ميدانية" رؤية الالتزام الديني بالنسبة للمرأة المسلمة تجاه الحجاب، وهنا تشدد الكاتبة على القناعة الشخصية والذاتية في ارتداء الحجاب عند المرأة الملتزمة دينيا.

 وغير بعيد أن يكون سبب ازدراء الحجاب لدى الغرب هو ذلك الهوس الغربي بالجمال الشرقي الذي كانت تغذيه صيغة الرومانس الذي تمحور حوله الاستشراق كثيرا وفق إدوارد سعيد، لاسيما حكايات الجواري في ألف ليلة وليلة. وبعد ولوج الشرق اصطدم الرحالة بالحجاب الكلي الذي يغلف جسد المرأة المسلمة الشرقية، لقد كتب برادلي بيرت عن النقاب الفارسي "كان أسوأ قطعة ملابس يمكن أن يصممها أشد الأزواج غيرة على زوجته وأشدها فظاظة فلا يمكن أن ينظر غريب إلى امرأة فارسية ويرى الجمال الذي تجعلنا القصائد والحكايات الخيالية نصدق بوجوده خلف هذه الحجب المستورة" -نظرة الغرب الى الحجاب كاثرين بولك- انه يتحدث عن غيرة الرجل باعتبارها أنانية نفسية تعكس قناعة الرجل الشرقي بامتلاكه وحده المرأة فلا ينافسه احد فيها، وكذلك يتحدث عن خيال أخاذ بجمال المرأة الشرقية يقارب أو يتماها وصيغة الرومانس الذي كان يبهر عواطف الغرب تجاه المرأة الشرقية.

 لقد كان الحجاب لحظة صادمة بالنسبة للغرب في لحظته الحالمة بالنسبة للمرأة الشرقية، ولذلك يكتب بيرت عن فظاعة النقاب الفارسي من وجهة نظره، وعن رسوخ تلك النظرة الحالمة بالمرأة الشرقية في ذهنية الغرب في لقائه الأول بالشرق الإسلامي. ويقول محامي أوربي زار الجزائر "ان شعبا لديه هذا الكثير من الدرر والكنز -ويقصد به جمال النساء الجزائريات- الذي يحتفظ به لنفسه ينبغي له ان يكشفها ويعرضها وان لم يكن من سبيل لذلك فليرغموا على فعله" م ن - وقد أظهرت تلك اللوحات التي رسمها رحالة ومستشرقون غربيون جالوا في بلاد العرب والشرق الإسلامي في ايام ازدهار فن الرسم في عصر النهضة الأوربية حجم الهوس الذي كان يعيشه الغرب في ثقافته حول جسد المرأة الشرقية.

 وتكتب لوسي بول مارجريت "أما هؤلاء النسوة المتسربلات من رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن وعيونهن التي لا يمكن أن ترى أبدا لكنها ترى دائما" –م ن- انها تتحدث عن ديمومة الهوس الجنسي واللذائذي بجسد المرأة الشرقية الذي ومع مرور الزمن استحال إلى ثقافة تدين الحجاب وتفسره بصيغ الاكراه والقسر والأنانية وهيمنة الذكورية في مجتمعات المسلمين، فكل الخطاب وفق ألتوسير غير بريء ولا يكشف مباشرة عن آليات عمله ومضامين العوامل الدافعة اليه، فالفكر دائما يحتفظ بأجزائه الغارقة في ذاتياته الخالصة والدقيقة في مساربها النفسية والثقافية، ولعل ما يشكله الحجاب من رمزية متحولة دوما لدى الملتزمين به والمعارضين له دخل في صراع تأويلي، وتلك واحدة من إكراهات الثقافة للرموز من أجل توظيفها بما يدعم موقف الصراع.

 فقد نظر اليه من جانب الملتزمين به أنه إلزام ديني وواجب مفروض، وأنه في تصور أخر مرتبط بقيم الشرق والعادات الأخلاقية الموروثة، وهنا مجرد صراع لا يتجاوز نطاق التأويل في ظل الصراع الذي كان يعيشه العالم بين القطبين الأميركي-الرأسمالي والسوفيتي– الشيوعي، وبعد إنتهاء الحرب الباردة وانفراد القطب الواحد بتحديد مسار العالم ومن ثم مصيره بدأ الصراع الرأسمالي–الإسلامي، وهو يأخذ صبغة سياسية مست المعالم الأيديولوجية لكلا النظامين، تحولت رمزية الحجاب الى الهوية والانتماء الإسلامي في عصر صدام الهويات الذي ميز عالمنا المعاصر، وهو ما يفسر ظاهرة الحجاب–البور كيني، وبالقدر الذي يخلف البور كيني توصيفات الحجاب لدى الفقهاء، إلا انه صار ظاهرة إسلامية نمت في أوربا وتوثقت حركتها الاجتماعية والحقوقية وبدت تعبيرا عن الشخصية الإسلامية في واحدة من مواجهاتها بإزاء الازدراء الممارس أوربيا تجاه الذات الإسلامية على اثر وصم الإسلام بالإرهاب، وقد عاد الغرب ليفسر الحجاب من جديد بالترهيب المستدام ضد المرأة الشرقية وتركيز الغرب على الحجاب في مجادلته للإسلام والمسلمين باعتباره رمزا متجليا وثابتا للإسلام وهويته الناطقة بصمت في مجتمعات الغرب.

 واذا كانت هذه النظريات تفسر الحجاب وتبحث في أو عن جذوره خارج منظومة الحجاب الدينية والتشريعية، فان هناك نظريات تبنت تفسير الحجاب وتبريره من داخل منظومته ذاتها وهي نظريات إسلامية اتفقت على صيغة الحجاب التشريعية واختلفت في صيغ التفسير له، وما يترتب على ذلك من صيغ الحجاب وأشكاله في مظاهره المتعددة وأبرزها نظرية الفتنة ونظرية الاحترام التي تشرع وتبرر الحجاب وفق رؤى مختلفة وتفسيرات خاصة بكل واحدة منهما.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

  

نظريات الحجاب في رؤيتها الخارجية

حكمت البخاتي/مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

جاءت أكثر النظريات التي تفسر الحجاب من خارج منظومته الداخلية بإحالته الى وقائع في التاريخ القديم، مما يؤكد ذلك الجذر التاريخي للحجاب كمفهوم وعقيدة دينية وتشريعية، ومنها النظرية التي ترى في الحجاب بانه اتجاه رهباني وممارسة في الرياضة الروحية باعتبار المرأة من وجهة نظر قديمة هي موضوع للّذة ورمز للدنيا، وموضعتها بهذا المعنى في تأويلات الرؤيا والمنامات لاتزال تشكل امتدادا لتلك التصورات القديمة حول المرأة، وبهذه الرمزية قد تعيق المرأة رحلة الراهب نحو الله، فلجأت تلك المجتمعات القديمة إلى إلزام المرأة بالحجاب حتى لا تفتن الراهب ومن ثم المجتمع وتشغله عن سلوكه الزهدي.

 لكن الرهبنة لم تكن سلوكا عاما في تلك المجتمعات يفضي إلى فرض الحجاب، بل كانت الرهبنة سلوكا استثنائيا يمارسه أفراد محدودون يأوون إلى الأماكن المنقطعة عن المجتمعات من أجل الإعراض عن الدنيا، ناهيك عن فرض أحكام على أهل الدنيا ومنها الحجاب الذي عرفته وألفته المجتمعات القديمة.

وتعزو النظرية الأخرى الحجاب إلى فقدان الأمن والعدالة في المجتمعات القديمة، فهي كانت معرضة إلى الغزو وأسر النساء باستمرار، وكان الخطف للنساء والأطفال في الحرب والسلم لغرض بيعهم في أسواق النخاسة ظاهرة بادية للعيان، فلجأ الرجال إلى حجب نسائهم في البيوت والعزل لهن، وكذلك كان الملوك والأمراء المستبدون قديما يصادرون حقوق الشعوب وأملاكهم، وكن النساء الجميلات معرضات باستمرار لهذه المصادرات، لذلك كان الحجب والعزل التام لهن عن المجتمع وسيلة من وسائل الأمن والصون للنساء عن هذا الضياع أو التضييع لهن.

 ورغم قوة هذه النظرية وإمكاناتها في تفسير الحجاب، إلا أن الحجاب كان سلوكا عاما في المجتمعات القديمة، ولم يكن ينحصر بذوات الجمال الفائق، إضافة الى الفترات الطويلة من الأمن والاستقرار التي كانت تعيشها مدن وعواصم الدول القديمة لم تكن فيها هذه المجتمعات بعيدة عن الحجاب، بل ظل الحجاب سلوكا وتقليدا أخلاقيا واجتماعيا حتى في فترات ظهور حاكم عادل كانت فيها الناس تؤمّن على أحوالها وأموالها ونساءها. وهنا نستشهد بتشريعات الآشوريين والفرس، فقد كانت تفرض أحكاما قاسية وشديدة على مخالفات الحجاب الذي كان مفروضا في هذه الدول بقوة القانون رغم الأمن الذي كان يعيشه مجتمعا هاتين الدولتين.

 أما النظرية الثالثة فإنها تحيل الحجاب إلى ذكرى ثاوية في اللاوعي البشري، وهي سلطة الأب، والحجاب في رؤيتها يمتد الى سلطة الأب هذه. وتفسر هذه النظرية الحجاب بالمسألة الاقتصادية، فالأب – الرجل يسعى الى تحصيل منافع اقتصادية من خلال نسائه فيعمد إلى حجبهن حتى تتوفر له منفعة مالية جيدة ومربحة، فيقوم بتقديم تلك المرأة إلى من يتقدم لها، ولازلنا نشهد مثل هذه الظاهرة في ربح المهر الذي يشدد عليه الأب أو ولي الأمر. ولعل هذا التصور يفسر ظاهرة غلاء المهور في بعض مجتمعاتنا.

 لكن هذه النظرية تتخلى عن قيم الأبوة لصالح التفسير الذي يتفق مع القيم المادية والرأسمالية الربحية، والتي تسعى الرأسمالية المتوحشة إلى تأصيل ذلك النزوع طبيعيا كعادتها في تأصيل كل قيمها التي محورها المصلحة وايدولوجيا النفعية–البراغماتية ومبدأ الحريات الاربعة الذي يتأسس عليها ضمن سياقات هذا النزوع ذي التوجه الأحادي الذي أفرز إنسان حضارة ذات بعد واحد كان لها أثرها الكبير في مواجهة الحجاب باعتباره لا يستجيب الى لغة وحسابات الربح الرأسمالي الذي وجد مجاله الربحي الواسع في موضات وصرعات الأزياء التي غطت دورها واستعراضاتها مجالات واسعة من النشاط الرأسمالي، لكن هذه النظرية تفسر بالنتيجة الحجاب بحالة من الطبيعية التي تثوي في كيان الرجل–الأب بانغراسها باللاوعي البشري.

 أما النظرية الرابعة فالحجاب فيها إحالة الى مسألة أخلاقية ونفسية تكمن في طبيعة الرجل الذي يتسم من وجهة نظرها بالحسد والأنانية، فالحسد على امتلاك رجل لزوجة جميلة قد يثير تجاهه المنافسة على هذه الزوجة، والأنانية في نفس هذا الرجل–الزوج في الحرص على امرأته ونسائه من السقوط بأيدي الآخرين هو الذي يدفع الرجل إلى إملاء فكرة الحجاب وسلطته على المرأة في العزل التام لهن، وهذه النظرية لا تخرج عن تلك الأطر المادية التي تتحول فيها المرأة الى حالة من التسليع المعنوي لها واختزالها بالملكية الشخصية للرجل.

 وبالقدر الذي لا تخرج فيه تلك النظرية عن التفسيرات الرأسمالية الربحية أو تشتغل تحت وطأتها وهي تختزل الأشياء كلها بمنطق الملكية والربح، فإنها تصطدم والتجربة الإنسانية التي تحيل العلاقة الزوجية بين المرأة والرجل الى الحب الإنساني والمودة الخالصة، وقد ظفرت تلك النظرية في الترويج لفكرتها واختزال العلاقة الزوجية في المجتمعات التقليدية بهذه الصورة من الأنانية والحسد، وجرى تصور الحجاب في الغرب بأنه تعبير عن الأنانية والقهر الذي تقع تحت وطأته المرأة في هذه المجتمعات، لاسيما الإسلامية منها، وهو جزء من التعميمات الإستشراقية التي عبرت عن الذاتية الأوربية التي تخلت عن الموضوعية في ظل الهيمنة التي مارستها وفرضت ذاتها المركزية عالميا، وفرضت تلك الذاتية أيضا في التعبير عن الأفكار الإنسانية واحتكار تلك الوظيفة التفكيرية الخاصة بها من وجهة نظرها.

وقد شكلت تلك النظريات أو غذت نظرة الغرب الى الحجاب، "الحجاب الهوية الناطقة بصمت" فالمدى الذي ينظر من خلاله الغرب الى الحجاب هو نطاق الحرية الشخصية التي تشكل فضاء الفكر والايدولوجيا الحديثة في محاولة تشكيل العالم الحديث، وهو يصطدم بتناقض بنيوي بإزاء مسألة الحجاب باعتبارها اختيارا حرا وواعيا للمرأة المسلمة لاسيما في الغرب وهي تعيش بعيدا عن ضغوط مجتمعاتها المسلمة، وتطرح الكاتبة الأوربية التي تحولت الى الإسلام كاثرين بولك في كتابها "نظرة الغرب الى الحجاب –دراسة ميدانية" رؤية الالتزام الديني بالنسبة للمرأة المسلمة تجاه الحجاب، وهنا تشدد الكاتبة على القناعة الشخصية والذاتية في ارتداء الحجاب عند المرأة الملتزمة دينيا.

 وغير بعيد أن يكون سبب ازدراء الحجاب لدى الغرب هو ذلك الهوس الغربي بالجمال الشرقي الذي كانت تغذيه صيغة الرومانس الذي تمحور حوله الاستشراق كثيرا وفق إدوارد سعيد، لاسيما حكايات الجواري في ألف ليلة وليلة. وبعد ولوج الشرق اصطدم الرحالة بالحجاب الكلي الذي يغلف جسد المرأة المسلمة الشرقية، لقد كتب برادلي بيرت عن النقاب الفارسي "كان أسوأ قطعة ملابس يمكن أن يصممها أشد الأزواج غيرة على زوجته وأشدها فظاظة فلا يمكن أن ينظر غريب إلى امرأة فارسية ويرى الجمال الذي تجعلنا القصائد والحكايات الخيالية نصدق بوجوده خلف هذه الحجب المستورة" -نظرة الغرب الى الحجاب كاثرين بولك- انه يتحدث عن غيرة الرجل باعتبارها أنانية نفسية تعكس قناعة الرجل الشرقي بامتلاكه وحده المرأة فلا ينافسه احد فيها، وكذلك يتحدث عن خيال أخاذ بجمال المرأة الشرقية يقارب أو يتماها وصيغة الرومانس الذي كان يبهر عواطف الغرب تجاه المرأة الشرقية.

 لقد كان الحجاب لحظة صادمة بالنسبة للغرب في لحظته الحالمة بالنسبة للمرأة الشرقية، ولذلك يكتب بيرت عن فظاعة النقاب الفارسي من وجهة نظره، وعن رسوخ تلك النظرة الحالمة بالمرأة الشرقية في ذهنية الغرب في لقائه الأول بالشرق الإسلامي. ويقول محامي أوربي زار الجزائر "ان شعبا لديه هذا الكثير من الدرر والكنز -ويقصد به جمال النساء الجزائريات- الذي يحتفظ به لنفسه ينبغي له ان يكشفها ويعرضها وان لم يكن من سبيل لذلك فليرغموا على فعله" م ن - وقد أظهرت تلك اللوحات التي رسمها رحالة ومستشرقون غربيون جالوا في بلاد العرب والشرق الإسلامي في ايام ازدهار فن الرسم في عصر النهضة الأوربية حجم الهوس الذي كان يعيشه الغرب في ثقافته حول جسد المرأة الشرقية.

 وتكتب لوسي بول مارجريت "أما هؤلاء النسوة المتسربلات من رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن وعيونهن التي لا يمكن أن ترى أبدا لكنها ترى دائما" –م ن- انها تتحدث عن ديمومة الهوس الجنسي واللذائذي بجسد المرأة الشرقية الذي ومع مرور الزمن استحال إلى ثقافة تدين الحجاب وتفسره بصيغ الاكراه والقسر والأنانية وهيمنة الذكورية في مجتمعات المسلمين، فكل الخطاب وفق ألتوسير غير بريء ولا يكشف مباشرة عن آليات عمله ومضامين العوامل الدافعة اليه، فالفكر دائما يحتفظ بأجزائه الغارقة في ذاتياته الخالصة والدقيقة في مساربها النفسية والثقافية، ولعل ما يشكله الحجاب من رمزية متحولة دوما لدى الملتزمين به والمعارضين له دخل في صراع تأويلي، وتلك واحدة من إكراهات الثقافة للرموز من أجل توظيفها بما يدعم موقف الصراع.

 فقد نظر اليه من جانب الملتزمين به أنه إلزام ديني وواجب مفروض، وأنه في تصور أخر مرتبط بقيم الشرق والعادات الأخلاقية الموروثة، وهنا مجرد صراع لا يتجاوز نطاق التأويل في ظل الصراع الذي كان يعيشه العالم بين القطبين الأميركي-الرأسمالي والسوفيتي– الشيوعي، وبعد إنتهاء الحرب الباردة وانفراد القطب الواحد بتحديد مسار العالم ومن ثم مصيره بدأ الصراع الرأسمالي–الإسلامي، وهو يأخذ صبغة سياسية مست المعالم الأيديولوجية لكلا النظامين، تحولت رمزية الحجاب الى الهوية والانتماء الإسلامي في عصر صدام الهويات الذي ميز عالمنا المعاصر، وهو ما يفسر ظاهرة الحجاب–البور كيني، وبالقدر الذي يخلف البور كيني توصيفات الحجاب لدى الفقهاء، إلا انه صار ظاهرة إسلامية نمت في أوربا وتوثقت حركتها الاجتماعية والحقوقية وبدت تعبيرا عن الشخصية الإسلامية في واحدة من مواجهاتها بإزاء الازدراء الممارس أوربيا تجاه الذات الإسلامية على اثر وصم الإسلام بالإرهاب، وقد عاد الغرب ليفسر الحجاب من جديد بالترهيب المستدام ضد المرأة الشرقية وتركيز الغرب على الحجاب في مجادلته للإسلام والمسلمين باعتباره رمزا متجليا وثابتا للإسلام وهويته الناطقة بصمت في مجتمعات الغرب.

 واذا كانت هذه النظريات تفسر الحجاب وتبحث في أو عن جذوره خارج منظومة الحجاب الدينية والتشريعية، فان هناك نظريات تبنت تفسير الحجاب وتبريره من داخل منظومته ذاتها وهي نظريات إسلامية اتفقت على صيغة الحجاب التشريعية واختلفت في صيغ التفسير له، وما يترتب على ذلك من صيغ الحجاب وأشكاله في مظاهره المتعددة وأبرزها نظرية الفتنة ونظرية الاحترام التي تشرع وتبرر الحجاب وفق رؤى مختلفة وتفسيرات خاصة بكل واحدة منهما.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

وسوم: العدد 693