محلاها عيشة الفلاح...

نشر مقتطف منها سابقا تحت عنوان "الفن مين يعرفه"... هنا نص المقالة كاملا!

كان غيرُ قليل من الكتّاب اليساريين بمصر ينسّبون أنفسهم إلى "حزب الوفد" الذي يرأسه مصطفى النحاس باشا في عام 1950 وما حوله، وكانت الصفحة الأخيرة من جريدة "المصري" لسان حال الحزب ملاذًا أو مرتعا لأقلامهم، يُغرّدون فيها، من عبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن الخميسي ويوسف إدريس إلى محمود أمين العالم..... كل يوم مقالات صغيرة معبّرة عن آرائهم المتمردة، وبدا أنّ ذلك كان يطيب لحزب الوفد بدليل استدامة هذه الحالة. وأذكر أني - وأنا في تلك الآونة طالب في "جامعة فؤاد الأول" (جامعة القاهرة) - كنت أقطع تلك الصفحات جاعلا إياها مصدرًا من مصادري الثقافية وهي في مرحلة التأسيس.

ولن أنسى انتقادهم الهادئ لرائد القصة المصرية محمود تيمور (الذي ظللتُ معجبا بأدبه "الأنيق")، ومردّ انتقادهم إلى أنه يكتب من "برجه العاجي" عمّن هم "في القاع"، وفاتهم أنّ ذلك - إن صحّ - حسنة له وليست سيّئة! وتشهيرهم بالقامة العالية عباس محمود العقاد... وكان بعض ذلك ممّا تشاركَ في كتابته محمود أمين العالم ومحمد عبد العظيم أنيس، وأصدراه في وقت لاحق ببيروت في كتاب لطيف سمّياه "في الثقافة المصرية".

ولست - في عجالتي هذه - إلا لأنوّه بأنّ هذين الرجلين (العالم وأنيس) أو أحدهما، قد تطرّق في مناحي نقده للفنان محمد عبد الوهاب، وعلى وجه الخصوص في تلحينه لأغنيته:

محلاها   عيشة   الفلاح

مطمّن   قلبه   ومرتاح

يتمرّغ على أرض مراح

والخيمة الزرقا ساتراه

وأتخيّل الكاتب الناقد كان يوشك أن يقطّع شعر رأسه وهو يستمع إلى هذا المقطع من الإغنية:

الشكوى  عمره  ما قالهاش

إنْ  لاقى   والا  ما   لقاش

والدنيا  بقرش  ما تسواش

طول ما هو اللي بحدّه حداه

فقد وجد الماركسي الناقد رقّة زائدة، في الكلمات وفي صناعة اللحن والأداء الطربي، وهو من كان يريد للكلمات أن تكون ثورية وأن يكون اللحن مثيرا، استنهاضًا لهمم الفلاحين في الانتفاض على الإقطاعية. وههنا وثبت إلى خاطري تلك "النكتة" التي تقول إنّ "لينين" كان قبل الثورة يقف يوما وصديق على قارعة طريق، يتحادثان، فمرّ بهما متسوّل، مدّ الصديق يده مستجيبًا، فانتهره لينين بقوله: «لا تؤخر الثورة!». 

وبدا أنّ ذلك لم يكن لا في بال كاتب الكلمات، ولا في بال الفنان الكبير محمد عبد الوهاب، عند الاشتغال بهذه الأغنية في عقد الثلاثينيات المنقضية، والنقد - أظنّه - كان في شتاء 1952-53، وعبد الناصر رافعا راية الاشتراكية.

هذا وقد أدّت هذه الأغنية "أسمهان" ذات الصوت السحري، وبعد سنين أخرى "نجاة الصغيرة".

وأشهد هنا أن قلب عبد الوهاب، وكذلك قلب أم كلثوم، كانا في تلك الآونة يملؤهما الخوف من أن تقصيهما "الثورة" الطالعة، وهما اللذان كانا قد غرّدا بالأغاني امتداحًا للملك فاروق، وأخصّ أغنية عبد الوهاب الباذخة "أنشودة الفن"، نظَم كلماتها الشاعر (الرسمي) "صالح جودت"، ومطلعها:

الدنيا  ليل   والنجوم   طالعة   تنوّرها

نجوم تُغري النجوم  من حسن منظرها

ياللي بدعتو الفنون وفي ايدكو أسرارها

دنيا الفنون  دي خميله  وانتو  ازهارها

والفن   لحن   القلوب   يلعب  بأوتارها

والفن   دنيا   جميلة    وانتو   أنوارها

إلى أن يقول:

الفنّ مين يوصفه إلا اللي عاش في حِماه

والفن مين  يعرفه  الا اللي هام في سماه

والفنّ مين شرّفه غير "الفاروق" ورعاه

والأغنية في بعض كلماتها هي ممّا تتقرّب به جماعات النخبة من السلطان في كلّ زمان ومكان، حبًّا أو تملُّقًا، وقد حُجبت هذه الأغنية - وإني لأراها من أبدع ما حقق مطرب الأجيال محمد عبد الوهاب -  وبقيت قامته شامخة.

وما أزال أذكر مدى "الحنيّة" في صوته وهو يؤدّي الكلمات التي تخصّ "الفاروق"، هذا الملك الذي لم نكن نظنّه يومئذ "إبليسا" كما صوّرته لنا السياسة بعد خلعه من العرش، مع معرفتنا بخلاعته، ولنعلم أنه كان ممّن أسهموا في تأسيس "جامعة الدول العربية" بالقاهرة يوم تسجيل الأغنية عام 1945، المؤسسة العربية التي تراكم ما لها وعليها عبر عقود الزمان التالية.

وأذكر أني استمعت قبل بضعة عشر عاما إلى هذه الأغنية بعد طويل احتجاب، من إذاعة مونت كارلو، تقدّمها مذيعتنا المحبوبة "هيام" في برنامج لها، وقد مسّني لسماعها طربٌ عظيم، ما أدري: أَلروعة الأغنية، أم لانتعاش الذاكرة!

أقول: وقد أصبح محمد عبد الوهاب فيما بعد صديقا لنظام الحكم الجديد، وهو من مُنح استثناءً رتبة "لواء/ جنرال"، وأصبحت "أمّ كلثوم" كذلك صديقة تُحيي الحفلات بعد نكسة يونيو/ حزيران جمعًا للتبرعات.

رحم الله كلّ من ذكرت، وحسرة على ذلك الزمن الذي كان جميلا.

وسوم: العدد 693