الصراع الخفي مابين نزلاء البيت الأبيض وإسرائيل، وماذا ينتظر من إدارة ترامب؟

لاشك أن الخط العام للسياسة الأمريكية اتجاه إسرائيل هو حمايتها لتقوم الأخيرة بدورها بحماية المصالح الأمريكية في المنطقة، ولكن، وكون الرؤساء في النهاية بشر ولهم أمزجتهم الخاصة بهم والتي تحب وتكره كباقي الناس، فماذا عن العلاقة الشخصية بين الرؤساء الذين تناوبوا على البيت الأبيض وبين حكام إسرائيل وكيف ستكون العلاقة مع (دونالد ترامب)؟

من المعروف أن إسرائيل قد وجدت بجهود أوربية صرفة (بريطانية-فرنسية) بهدف التخلص أو التقليص من الوجود اليهودي في أوربة من جهة، وزرع حليف لها في المنطقة العربية لضمان مصالحها فيها بعد انسحابها منها من جهة ثانية. ومن المعروف أيضاً أن إسرائيل، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبروز أمريكا كالقوة الأكثر تأثيراً على الساحة العالمية، نقلت تحالفها من القارة العجوز إلى القارة الفتية. وقد كان للانذار الشهير الذي أطلقه الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور (1953-1961) لشركاء العدوان الثلاثي على مصر (انكلترا وفرنسا وإسرائيل) عام 1956 بالانسحاب الفوري من قناة السويس وإنهاء العدون، كان له الأثر الأكبر على إسرائيل باتخاذ قرارها هذا بتغيير تحالفاتها. ولكنه كان أيضاً السبب المباشر لتشكيل اللوبي الصهيوني في أمريكا لمنظمة (أيباك) أو (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الاسرائيلية) والتي تهدف إلى التأثير على البيت الأبيض والكونغرس والسينيت للرضوخ لمطالب إسرائيل مهما كانت مجحفة أو غير عادلة بحق الدول أو الأصوات المناهضة لها. وقد اتخذت هذه اللجنة مبدأً أساسيا لسياستها وهو إطلاق تهمة (معاداة السامية) على كل من يعارض المطالب الاسرائيلية كائناً من كان. ومن هنا خلقت مشكلة أن من يحكم في البيت الأبيض، شاء أم أبى، عليه أن يعلم مسبقاً أن بامكانه التأثير على كافة دول العالم ماعدا تلك الدولة (المجهرية) المسماة إسرائيل، وأنه ليس فقط غير قادر على إبداء استيائه من ذلك، بل وعليه أيضاً التظاهر بأنه مسرور به.

الديمقراطي ليندن جونسون (1963-1969): ظهر تأثير تلك اللجنة على السياسة الأمريكية لأول مرة في عهد جونسون حين قامت طائرات إسرائيلية يوم 8 حزيران 1967 بقصف سفينة التجسس الأمريكية (ليبيرتي) الراسية قبالة ميناء العريش المصري فقتلت 37 أمريكياً وجرحت العشرات على متنها، وذلك للتغطية على قيام الجيش الاسرائيلي باعدام جنود وضباط مصريين استسلموا خلال حرب حزيران من جهة وإخفاء حقيقة أن إسرائيل هي من بدأت الحرب وليس العرب من جهة ثانية. قرر (جونسون) حينها عدم المضي بالتحقيق في خلفية الهجوم وفضل عدم إحراج حليفته واكتفى بقبول اعتذارها واعتبار الأمر أنه كان مجرد خطأ حسب التبرير الرسمي الاسرائيلي.

الجمهوري ريتشارد نيكسون (1969-1974): لم يكن (نيكسون) من قماشة (جونسون)، حيث عرف بالعناد والصلابة، وقد صدم بالصلافة والغرور يطغيان على السياسة والتصريحات الاسرائيلية بعد انتصارها في حرب حزيران لدرجة أنها باتت تستهين بالمطالب الأمريكية وتتبجح بعدم حاجتها لأي دعم خارجي. وتشير دراسات أكدتها رئيسة وزراء إسرائيل حينها (غولدا مائير) في كتابها (التقصير) أن (نيكسون) أراد تلقين إسرائيل درساً في الولاء لها فقام بالتنسيق مع (أنور السادات) لشن حرب تشرين 1973 لتذكيرها بأنها لاتساوي شيئاً من دون أمريكا، وقد نجح في ذلك. وقد وصفته (مائير) في كتابها هذا بخائن إسرائيل، ثم رأينا كيف بدأت (فضيحة وترغيت) بعد ذلك بقليل بالظهور إلى العلن عن طريق الاعلام المسيطر عليه يهودياً وانتهت بطرد (نيكسون) من البيت الأبيض بشكل مهين.

الديمقراطي جيمي كارتر (1977-1981): كان أول رئيس أمريكي يحرج إسرائيل بالطرق الديبلوماسية ويدفعها للانسحاب من أراض عربية احتلتها (سيناء) عن طريق الحرب. اختلف المحللون حول ما إذا كانت إسرائيل قد خسرت أم ربحت بالتخلي عن سيناء، ولكن الأكيد أن الكثير من صقور إسرائيل نادمون على ذلك ويكرهون (كارتر) لهذا السبب، وأيضاً لكونه الرئيس الأمريكي الأكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، حتى أنه وصف السياسة الاسرائيلية بالعنصرية، فردوا عليه بوصفه بالمجنون والمخرف الذي لايعي مايقول، طبعاً بالاضافة لوصفة (معاداة السامية) الجاهزة على الطلب.

الجمهوري رونالد ريغان (1981-1989): لم يكن لدى (ريغان) أي نية بمواجهة إسرائيل، خاصة وأنه رأى ماحدث لنيكسون، حتى أنه لم يمانع من تلبية طلبها بتزويد عدوته (إيران) بقطع الغيار إبان حرب الأخيرة مع حليفه (العراق) لمجرد أن إسرائيل طلبت منه ذلك.

الجمهوري جورج بوش الأب (1989-1992): كان نائباً لريغان لثماني سنوات كما واستلم لفترة وجيزة إدارة وكالة المخابرات المركزية في عهد الرئيس (فورد). دعم اللوبي الصهيوني منافسه الديمقراطي (مايكل دوكاكيس) في الانتخابات ولكن وبالرغم من ذلك فقد فاز (بوش) المعروف عنه عدم نسيان الاساءة. طلبت إسرائيل من أمريكا ضمانات للحصول على قرض دولي، فاشترط (بوش) موافقته على ذلك بوقف إسرائيل لبناء المستوطنات في الضفة الغربية والدخول في مفاوضات جدية مع جيرانها العرب. رفض رئيس الوزراء الاسرائيلي حينها (إسحق شامير) ذلك وصرح بصلافة أن على إسرائيل الطلب وعلى أمريكا الموافقة بدون شروط. كان (بوش) حينها قد خرج من (حرب الكويت) منتصراً وشعر أنه غير قابل للهزيمة السياسية من أي جهة، ورأى أن الوقت بات مناسباً لمواجهة العنجهية الاسرائيلية، فرد على تصريح (شامير) بدوره أن من يحتاج أمريكا عليه أن ينفذ رغباتها، وليس العكس، فقام الاسرائيليون بوصفه ووصف إدارته، وخاصة وزير خارجيته (جيمس بيكر) بمعاداة السامية حيث اتهم الأخير بوصف إسرائيل بألفاظ بذيئة خلال جلسات خاصة. وبالاضافة لذلك، فقد طلب الاسرائيليون من (بوش) إبان تلك الحرب أن لايكتفي بتحرير الكويت، بل بالزحف إلى بغداد، ولكنه رفض ذلك لأسباب سياسية، مما زاد من كراهيتهم له. رتب (بوش) لعقد مؤتمر للسلام في (مدريد) ودعا إليه الفرقاء في الشرق الأوسط تحت طائلة العقوبات لمن لايحضر، مما دعا (شامير) بعد مدة للاستقالة احتجاجاً على إجباره الحضور إلى المؤتمر وفرض الرغبة الأمريكية على حكومته. ويبدو أن (بوش) قد قلل من تأثير اللوبي الصهيوني في بلده، حيث قام الإعلام ذاته الذي أسقط (نيكسون) بالتحالف ضده وأطلق عليه لقب (الرئيس الكذاب) حول عدم وفائه بوعده عدم زيادة الضرائب، مما أثر في الرأي العام وجعله يخسر إعادة الانتخاب، وقد أدلى حينها (شامير) بتصريحه الشهير غداة إعلان النتائج أن (بوش) قد دفع ثمن تحديه لاسرائيل.

الديمقراطي بل كلينتون (1992-2000): كان انتخاب (كلينتون) مفاجئاً لكل المراقبين الذين عزوه لوقوف الإعلام صفاً واحداً ضد (بوش) وليس لشعبية الرئيس المنتخب. طلبت إسرائيل من (كلينتون) طلبين: إحتلال العراق والافراج عن الجاسوس الاسرائيلي (جوناثان بولارد) الذي قبض عليه في عهد (ريغان) الجمهوري وهو يبيع وثائق سرية لاسرائيل وحكم بالسجن لمدة ثلاثين عاماً. رفض (كلينتون) الطلبين، مما عرضه لغضب إسرائيل، حيث لم تمض فترة طويلة حتى طفت إلى العلن قصة علاقته الفضائحية مع الموظفة اليهودية في البيت الابيض (مونيكا لوينسكي) وهي الفضيحة التي استغلها الجمهوريون وكادت تطيح برئاسته وتؤدي لطرده كما حصل مع (نيكسون). وبالرغم من أنه نجح باكمال فترتين رئاسيتين، إلا أن تلك الفضيحة بقيت تؤرقه حتى آخر إيامه في الحكم، كما وعادت مؤخراً لتؤثر سلبياً على حملة زوجته (هيلاري) الرئاسية.

الجمهوري جورج بوش الابن (2000-2008): كان الوحيد من بين سابقيه الذي لم يعارض إسرائيل ولا في أي مجال، فاحتل العراق وغض الطرف عن بناء المستوطنات ولم يغزو سورية بعد العراق كما كان مخططاً في البنتاغون (حسب ماورد في مذكرات الجنرال المتقاعد ويسلي كلارك)، ولهذا رأيناه كيف أمضى فترتين رئاسيتين من دون أي فضائح على الرغم من الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها في السياسة الداخلية والخارجية والتي أدت إلى انهيار إقتصادي غير مسبوق.

الديمقراطي باراك أوباما (2008-2016): كرهت إسرائيل (أوباما) منذ اليوم الأول، ربما لجذوره الاسلامية وأيضاً الافريقية، وكان واضحاً عدم وجود أي غرام مفقود مابينه وبين رئيس الوزراء الاسرائيلي (ناتيانياهو) حيث قام الأخير في عدة مناسبات بتحدي (أوباما) سياسياً وتذكيره بالنفوذ اليهودي في أمريكا كاسلوب لتحذيره من ارتكاب أي حماقة ضد إسرائيل. وقد قام الرئيس بدوره بالرد على ذلك أيضاً بحركات سياسية تدل على الضعف ومفادها بأنه قد فهم الرسالة.

الجمهوري دونالد ترامب (2016-2020): من الواضح لكل من تابع الحملة الانتخابية الحالية أن اللوبي الصهيوني متمثلاً بالآلة الاعلامية وقفت ضد (ترامب) بشكل واضح ولايقبل التشكيك. وقد يعترض البعض على ذلك ويستشهد بخطابه المؤيد المطلق لاسرائيل أمام (الايباك)، والرد على ذلك أن كافة المرشحين أبدوا نفس الدعم بما فيهم (هيلاري) نفسها، ولكن مالم يلاحظه هؤلاء أيضاً هو أنه صرح في عد مناسبات انه سيكون (وسيطاً غير منحازاً) في عملية التفاوض بين الاسرائيليين والفلسطينيين، وهذا ماانتقده عليه منافسوه وسارعوا إلى إعلان دعمهم المطلق والمنحاز لاسرائيل ماعدا الديمقراطي (بارني ساندرز) والجمهوري (جون كيزيك) اللذان خسرا في المرحلة الأولية. إن سبب تخوف إسرائيل من (ترامب) أنه غير سياسي ومعروف عنه ارتكاب حماقات غير مسبوقة وبالتالي لاتعرف ماذا سيفعل ولا متى قد يتخذ إجراءات غير محسوبة قد تضر بمصالحها، خاصة وأنه فاز ويعلم أنها وقفت ضد حملته. الجدير بالذكر هنا أن العديد من الجهات التي دعمته وأوصلته إلى البيت الأبيض معروف عنها معاداتها العلنية للسامية والتي بدأ مؤيدوها برسم شعارات النازية على المقابر والمحلات اليهودية في أمريكا بمجرد إعلان فوزه.

في النهاية لابد من أن الفترة القادمة ستكون مختلفة تماماً عما سبقها في أمريكا، وأن الصراع الخفي مابين البيت الأبيض وإسرائيل سيتخذ أبعاداً جديدة. وأنا أوافق العديد من المراقبين الذين يرجحون إخراج (ترامب) من البيت الأبيض بعملية سياسية قبل إنهاء فترة حكمه فيما إذا نفذ الحماقات التي وعد بها إبان حملته، وأضيف إليها خاصة فيما إذا طالت بعض حماقاته مصالح الدولة العبرية. فالفضائح التي لم تنجح بهزيمته أثناء الانتخابات، لابد وأن هناك أو سيكون هناك الأطنان منها ومما هو أثقل منها لاخراجه من البيت الأبيض على طريقة (نيكسون).

وسوم: العدد 695