الحرية بين الازدواجية والواقع

تمر مفاهيم الحرية في مجتمعاتنا بمراحل كارثية، سواء ضمن المؤسسات السلطوية او ضمن المنظومة الاجتماعية العامة، لكونها لاتتعدى الفهم السحطي المؤدي دائما الى الخروج عن المنطق العقلاني لرسم ملامح الحرية، وتحديد مساراته التي منها يمكن لاي مجتمع ان يعاين حالته ومدى توافق بنيته مع الحرية، او الشذوذ عن تبعياته وموجوداته وكل ما يتعلق به.. فالحرية كما يقول المفكر علي حرب "هي صناعة الامكان، وانه لا حرية من غير خلق وابداع"، فاننا بلاشك وفق هذه المنظومة نعيش وهم الحرية من جهة، ووهم صناعة الحريات من جهة اخرى.

وهم الحرية يأتي من خلال انعدام الخلق والابداع لدينا بصورة عامة، فكل ما تجيده مجتمعاتنا هي اثارة الفتن والعيش تحت وطأة العدمية التي تنتجها الفتن انفسها، وفي الوقت نفسه تعمل على تدوير مفاهيم الفتنة وتحويرها بيانياً لتتعدد المسالك والرؤى الناجمة عنها، فتصبح الفتنة مقننة باسم التشريع" الدين المذهبي" والدستور، وبالتالي تطمس كل المعالم الانسانية داخل المجتمع تحت اسم الحرية، مما يخلق بالتالي وهماً ايديولوجياً واخراً سياسياً حركياً، في حين ياتي وهم صناعة الحريات من خلال انعدام الاشتغال على المعطيات المؤدية الى تحرير  الموؤسسات داخل المنظومة السلطوية من القيود المفروضة عليها جراء الانتماءات " الاحادية"  التي تتغير معها بنية الواقع وتراكيب الفهم ومنظومات التواصل وكل ما يتعلق بالخطاب السياسي والتوجيهي والارشادي والتربوي والوعظي" الديني" والفكري التحرري التقدمي.. وذلك باعتبار ان الشكليات التي تفرضها هكذا منظومات هي في صورتها الخارجية منحازة الى ما يمكن عدها حريات، ولكنها في جوهرها وفعاليتها الواقعية لاتتعدى سوى انفلاتات لسانية" خطابية" تفرضها هذه الايقونات السلطوية لتحتمي بها امام المنظومات الاكبر " الدولية " ، وبالتالي فانها لاتخلق الازدواجية فحسب، بل انها تمهد لاسقاط كل المقدسات الفكرية التي يمكن ان تمنح اي مجتمع هويته العصرية.

وحين ننظر الى مجتمعاتنا سنجد بأن الشعاراتية التي هي احدى اهم مقوماتها الظاهرية قد تحولت الى مفاهيم مقننة داخل العقول، ومن ثم اصبحت المعيار والمقياس الذي تستند عليها تلك العقول في اطلاق احكامها، مع تيقنها التام بأنها لاتعدوا سوى شعارات ممغنطة صادرة عن جهات سلطوية تحاول طمس معالم الداخل المنغمس في الآفات والامراض التي لايمكن معالجتها.. و كي  تقوم بصرف النظر عن مآسي الداخل السلطوي والعجز السياسي والاقتصادي معاً، نراها تفتح المسارات امام الاجتماع للرفض العلني لاحكام السلطة وذلك بالخروج علناً الى الشارع والمطالبة بحقوقهم المفروضة على السلطة، وتعطي المجال لحرية التعبير "الجزئي" وذلك عبر التحركات السياسية للاحزاب وقواعدها الرافضة لاشكال السلطوية القائمة، كما تسمح للقنوات الاعلامية الساعية لاثبات وجودها بقناع " حر " بالولوج في الممرات القريبة من مكامن التحريض والفوضى، وكل ذلك ضمن منظومة يمكن خارجياً ان نطلق عليها اسم الحرية باعتبار ان كل المعطيات الظاهرية تؤكد ذلك، في حين نجدها في الجانب الاخر، لاتصغي للمنطق التحرري هذا، بل تتجاهل كل المطالبات وكل التحركات السياسية، وكل المنظومات الساعية الى خلق الفوضى الاعلامية، وفي الوقت نفسه، لاتعطي لاي حراك داخلي تحت اي مسمى كان اية اهمية يمكن ان نمنطق مفهوم الحرية وفق معطياتها ووفق تداولاتها ووفق قراراتها وتشريعاتها، وبذلك تؤكد على ان وهم صناعة الحريات واقع لايمكن تعديه بالظاهريات، ولايمكن مجاراته بالمقولات الشعاراتية، ولا حتى بالمصوغات العجزية الاقتصادية المقننة والمؤثرة سلباً علبى كل التوجهات وكل الاهداف وكل الحراكات الساعية لخلق مناخ آمن ومستقر يمكن العمل على اسسه لبناء مستقبل مغاير عما هو سائد سواء أكان ذلك المستقبل متعلقاً بالاهداف القومية الطامحة بالاستقلال، او متعلقة بالمسارات الحياتية الاقتصادية العامة والتي اصبحت تشكل ثقلاً على كاهل الشعوب.

واذا ما كانت الحرية وصناعة الحريات امران متعلقان في الاساس بالكينونة البشرية التي تحاول ان تجد لنفسها المسار والنسق المناسب كي تنطلق من خلالها الى الافاق التي تستوجب توقفها احياناً، وتدفعها للمضي قُدماً بصورة اعمق في احيانا اخرى، فانها في مجتمعاتنا امر اشبه بالمستحيل، لكونها تصطدم في الغالب بجملة معوقات وقيود وسلاسل لاحصر لها " لامعنى لها ايضا" في الكثير من الاحيان، فالانسان عندنا يشرب الحرية مفهوماً، ويرسم لوحات فيها صناعة الحريات بارزة، ولكنه في داخله محكوم بسلسلة قوانين تقيد حراكه وتقيد كل المساعي التي يبغي من خلالها الخلق والابداع، وهذا فقط لانه محكوم عليه اتباع السلطوية التي تنادي بالحرية وتغلق ابوابها بمقننات لاتخدم الا ذاتها.

وهذا ما يجعلنا نتأمل مفاهيم الحرية بين الازدواجية والواقع بالاخص في مجتمعاتنا، التي تلبس راداءات متقلبة كالمواسم، احيانا تطول احدى تلك المواسم جراء متغيرات خارجية، لكنها لاتلبث ان تعود الى مسارها المحدود ومنطقها المخصوص، لتعيش ظاهرياً الحرية، وباطنياً تبقى مقيدة بتلك السلاسل التي وجدت قبل مجيئها، وقبل حلولها، فكأنها لاترضى الا الصعود الا بحملها العتيق الذي لايبطئ الخطوات فحسب، بل احياناً تجعلها معدومة.. فالانسان في مجتمعاتنا اذا ما كان هو الموجود الوحيد الذي يشعر" متوهماً"  بانه حر،فانه كان ولم يزل الموجود الوحيد الذي لايكاد يكف عن تكذيب شهادة شعوره..لانه يدرك اكثر من اي موجود اخر مدى اتساع الهوة بين ذاته وكل ما هو خارج عن ذاته"..فهو في صراع دائم مع السلطوية المقننة بلباس سماوي ديني مذهبي ايديولوجي تحرري تقدمي في اغلب الاحيان، ومع  الطبيعة .. والمجتمع.. والماضي.. لذا لن يكون الحاضر الى صورة مزدوجة من مقننات لانهاية لها، ورغبات لاحصر لها، وتصادم ليس حتمي بقدر ما هو ارادي ، فبنظرة سريعة الى تاريخ الحرية لوجدنا ان الخصم الحقيقي للحرية ليس هو مذهب الحتمية،بل هو في ظن الكثيرين المذهب القائل بالارادة المطلقة والحرية اللامتناهية..لان الحرية كانت ولم تزل تصطدم بعوائق كثيرة حتى انها تحولت الى قيمة.. وهذه الاخيرة لاتمنح بقدر ما تكسب. 

وسوم: العدد 698