ابن الأثير ينعي الأُمَّة !!

(1)

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى عشرة وألفين من الميلاد, وقد بدأت احتجاجاتٌ سوريَّة ضد القمع والفساد وكبت الحريات؛ متأثرين بانتفاضة الشعوب التي اندلعت في الوطن العربي, وبخاصة الثورة التونسية , وثورة 25 يناير المصرية , في العام نفسه.

قاد هذه المطالب شباب طامحون في حياة كريمة, مثلهم مثل شعوب الأرض المتحضِّر, فطالبوا– في سلمية- بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية, ورفعوا مجموعة من شعارات الحرية والكرامة ، لكن سرعان ما كان الرد من النظام الغاشم, فواجههم بالرصاص الحي؛ فتحول الشعار إلى "إسقاط النظام, وعمت المظاهرات مدن وبلدان محافظة درعا ومعظم المدن السورية وفي مقدمتها اللاذقية ودوما وداريا وحمص وحلب.

وقد انبرى العالم  الظالم المتجبِّر للدفاع عن هذا النظام المتسلط على شعبه ؛ فبات هذا الشعب المسكين بين المطرقة والسندان: ظلم القريب وخيانته, وعداوة البعيد وإجرامه,

 وظل الحال هكذا , حتى اعتلى رأس السلطة في مصر رئيس مدني منتخب من الشعب,  فنادى لسوريا ,واحتضن المؤتمرات, وأعلنها صريحة مُدويَّة: "لبيك يا سوريا","لا مكان لحزب الله في  سوريا", وكان ما كان من الانقلاب عليه, فخُطف من عمله, وبات أنصارُه بين قتيلٍ وسجينٍ ومطارد , وأُعلن صراحةً التدخل الخارجي في سوريا (الروسي والإيراني), وأُمطرت المدن السورية بالقنابل العنقودية وغاز الكلور, وقُتل ما يربو على المائة ألف نفس, وشُرِّد ما يزيد على الملايين الخمسة .

أما حلب وما إدراك ما حلب:

ففي نهاية سنة ستة عشر بعد الألفين فقد قامت فيها القيامة , وهو ما لا أستطيع البوح بتفاصيله , فقد اجتمع عليها كل الأشرار والفجار من الرافضة المجوس والروس والأمريكان والغرب , فضلًا عن بني الجلدة من الأقارب والجوار, فباتت مدينة أشباح؛ بعد أن تم قصفها من البحر والبر والجو, وكأنِّي أقولُ ما قلتُه في مُصاب التتار, وكأن التاريخ يعيد نفسه, وما أشبه الليلة بالبارحة!  وأنا أكرر –للأسف- نَعي المسلمين, أما الإسلام فمحفوظٌ بحفظ الله له, ولن يموت ؛ فهو دين الحي الذي لا يموت. 

فلقد بَقِيتُ عدَّةَ أيامٍ مُعرضًا عن ذكر هذه الحادثة؛ اسْتعظامًا لها، كارها لذكرهَا، فَأَنَا أُقَدم إِليه رجلا وأؤَخر أُخرى، فمن الذي يسهُل عليه أَنْ يَكْتُب, ومن الَّذي يَهُون عليه

ذِكْرُ ذَلِكَ؟

    وَمِنْ أَعظم ما يذكرون من الحوادث مَا فَعَلَهُ مأفون الكنانة ونيرونها, قبل ما يزيد على ثلاث سنوات من الآن ، من إحراق الأجساد الطاهرة وهي حيَّة يُسمع لشحمها أزيز, ويصعد من لحمها دخَّان يعرج إلى السماء يشكو إلى الله ظلم العباد, ولعل الخلق لا يَروْن مثل هذه الحادِثة إِلى أَنْ يَنْقرضَ العالم، وَتَفْنَى الدنيا، إِلَّا يأجُوجَ وَمَأْجُوجَ.

     وَأَمَّا الدجالُ فإنه يُبقي عَلَى من اتَّبَعَهُ، وَيُهْلِك مَنْ خالَفه، وَهَؤُلاء لَمْ يُبْقُوا على أَحد، بل قَتَلُوا النساءَ والرِّجال والأطفال، وشقُّوا بطون الحوامل، وَقَتَلُوا الأجِنَّةَ، واغتصبوا العفيفات الغافلات المؤمنات, ومثَّلوا بالجثث المُكرَّمة, وطفقوا يأمرون الأسرى بإِفراد ضالِّهم الأكبر بالوحدانية ,.......... , فيا ليتَ أُمِّي لَمْ تلدْني، ويا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ حدوث ذلك وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. 

    وها أنا ذا  أسرد بعضًا من هذه الخَطايا التي لن تتطهَّر منها البشرية إلّا بعد أن يذوق كلَّ معتدٍ أثيم, أو محرِّض لئيم, أو غافلٍ زنيم , أو سلبيٍّ مستكينٍ جُرم فِعله, وجزاء ذنبه؛ وهذه سنةٌ ثابتة , وقانون سائرٌ غير جائر , ولن تجد لسنة الله  تبديلًا ولا تحويلا.

      فهل سمعت أن  جيش الممانعة السوري يقول أن: ”أي اتفاق يجب أن يحظى بموافقة روسيا و إيران". فيا لحسرته ويا لدناءته وخيانته , وعلى الجهة الأخرى اعتبر آية الله (الشيخ محمد أمامي كاشاني) في خطبة صلاة الجمعة بالعاصمة طهران (16- 12- 2016م) :"أن حلب لم تسقط, وإنما تحررت وانتصر المسلمون فيها على الكفار والدجال" !!!!!

 فعن أيِّ إسلامٍ يتحدث؟! , وعن أي مسلمين يُخبر؟!

     وهذه الجثث الهامدة في الشوارع  لا تجد قبرًا يواريها , ومن نجا من  الموت فارًّا ؛ فيصطاده القناص اصطيادا......, ومن نجا بعد كرَّتين: فيُخطف ويُحتجز بعد هدْنةٍ هزيلة خادعة , فقد احتجزوا في تلك الهدنة ما يزيد على الألف نفسٍ, والله أعلم بما هو صائرٌ لهم, فضلًا عن التصفيات الميدانية بالجملة واستحلال المحرمات , وما أدراك ما استحلال المحرمات ما يعجز قلمي عن ذِكْره .

أما الاثنين مليار مسلم , فهم في سُباتٍ عميق , فمنهم من يدعم , ومنهم من يؤيد , ومنهم من يشاهد , ومنهم من لا يعلم من الأساس , شغلته لقمة العيش والسعي على العيال , والدوران في حلقة الحياة الفارغة المفرغة , هذا حال غالب فقرائهم , أمَّا معظم أغنيائهم,  فعينهم لا تراوح مؤشرات البورصة , وقلوبهم غير متعلقة إلا بأرصدة البنوك, والاشتراك في البرامج الرياضية والترفيهية , واستيراد أطعمة فاخرة لكلاب الزينة , أو لأشياء أخرى!! وها أنا ذا لا يسعني إلا ترديد قول أبي الطيب:

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ   ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ.

فهل أتاك نبأ التهاني والتبريكات  التي قدمها إخوة في الدين والعقيدة على كل ما ذكرنا , وما لم نذكر , وما عليك إلَّا أن تراجع مانشتات الصحف القومية الكبرى ! أو هل سمعت أن الدمية القميئة الحقير بن الحقير, أو ما يطلق عليه ( الجزار) قال– خاب قوله- إن ما فعله وطغمته القاتلة يشبه ميلاد الفتوحات والهجرة النبوية !!

 وما لم يذكره هذا السفاح الأفَّاك: أن حلب بها ما لا يقل عن عشرين ألف إيراني يعيثون في شوارعها فسادا, ويرتكبون كل الموبقات......., في حين أن الرُّوس- مع حقدهم الكبير على الإسلام- لا يقدر بواحد بالمائة من إجرام الشيعة !وما أصدق قولَ الحيص بيص:

مَلكنا فَكانَ العَفو مِنّا سَجيَّةً    فَلَمّا مَلَكتُمْ سالَ بالدَّمِ أبطُحُ

وحَلَلتُمْ قَتلَ الأسارى وطالما  غَدَونا عَن الأسرى نَعفُ ونَصفَحُ

فَحسبُكُم هذا التفاوتُ بَينَنا    وكُلُّ إِناءٍ بالذي فِيهِ يَنضَحُ

ولا تزال دماء المسلمين السنة تروي الثَّرَى في اليمن السعيد, وفي عراق الرشيد , وفي فلسطين الخليل, وفي بنت الأزهر والنيل , أمَّا بورما:  فيتم حرق المسلمين هناك فرادى وجماعات, قيامًا وقعوداً, وعلى جنوبهم , أو ينشروا بالمناشير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

كل ذلك وما يشغل بعض المسلمين من دعاة الفتنة وألسنة الإعلام هو (إرهاب الإسلام), في تصريح مباشر منهم بأن هذه الدين هو المصدر لكل مشكلات العالم , وسبب كل تفجير , وأساس كل فاجعة تحل بهم او قريبًا من دارهم , ووراء كل مصيبة هم من تولوا كِبَرها في الليل والنهار؛ ليلصقوها بهذا الدين القويم الوسطي السَّمح ؛ في دعوة غير مباشرة لإحلال المشاريع  الدينية الأخرى في المنطقة ,حسب ما هو مخطط ومرسوم , ومن أمثلة ذلك إنكارهم -وكأننا في كابوسٍ قميء- سورة "الفاتحة"– أُمُّ الكتاب والسَّبعُ المثانِي- فترديدها- كما يزعمون- يجلب الإرهاب, فمَن إذن (المغضوب عليهم) ومن (الضالين )؟؟!! تزلُّفًا وتقرُّبًا لليهود والنصارى, وتتبع سنَنَهُم, والنسج على منوالهم؛ ليرضوهم ويوالوهم , ولن يرضوا !!

فما احوج من يقرأ هذه الأحداث التي تقطر أسىً وحسرة إلى استرجاع أسباب سقوط الأندلس- وكل أندلس- والخطوات المتدرجة, والمراحل المتعاقبة , والنتائج المترتبة وأن يُرجع البصر كرَّتين في قول "أبي البقاء الرَّندِي" (ت684ه) في رثاء الأندلس الخصيب:

يا من لذلِّة قومٍ بعد عزهم أحال حالهم كفرٌ وطغيانُ

فلو تراهم حيارَى لا دليل لهم  عليهم من ثياب الذلِّ ألوانُ

ولو رأيتَ بكاهم عند بيعهم  لهالَك الأمرُ واستهوتك أحزانُ

يا ربِّ أمٌ و طفلٌ حِيل بينهما    كما تفرَّق أرواحٌ وأبدانُ

  والله من وراء كل ذلك محيط .

 ( *) هذا ليس من كلام ابن الأثير-كما لا يخفى– بل محاكاةٌ ومجاراة, وتناصٌّ مع بعض أسلوبه وعباراته.

وسوم: العدد 699