رذاذ من حب وحرف ودم ودمع

ثلاثة حروف تختصر المسافة وهي تعبر من الحلق إلى الشفتين مرورا بطرف اللسان( من الضاحك إلى الضاحك ) ، وتختصر المسافة بين الماضي البعيد و الحاضر البائس القريب ، مرورا بعظمة أمجاد وأجداد ، وتاريخ بشر وحجر ، ثلاثة حروف تفيض عطرا وتعلن كل لحظة سرا ، يضيء هذا الكون دهرا .

عند أول نبشة للذاكرة ......تتدافع الذكريات مرة واحدة .....تحاول الخروج في مظاهرة احتجاجية ....ترافقها مسيرة للدموع حاشدة.

ويحضّر التاريخ أوراقه وسجلاته.... ويتقدم مستعدا للإدلاء  بشهادته أمام المتظاهرين ..

لماذا أكتب الآن وكل الأقلام صبت حبرها ؟؟ ولماذا أبكي  الآن و كل المحزونين بكوا ؟؟ 

لأن الكتابة عندي حالة من التصوف أعيشها ....حالة تعتلي ذروة الألم.... تنسفني كلي وتعيد صياغتي من جديد ...........

كلنا جراح ......على امتداد هذا الوطن الكبير !!!!وجراحنا عمرها القريب خمسون عاما أو يزيد وعمرها البعيد .....يصعب عدها السنين...ولكن الوجع الأخير هو االذي يحضر فينا بقوة ....وهو الذي يحدث الزلزال ....ويشعل الحرائق .....يحرض البركان .....

رذاذ رماد ....ولون سواد ....ودمع تعفن....في ذي المآق....ودم يراق ..... تيممت برماد احتراقي ....وامتطيت مر شوقي واشتياقي 

ويممت وجهي نحوها .....وسجدت على جرحي و جرحها .....ونثرت على وجهها المسجى دمعتي وكلمتي .....وآهتي وحرقتي ...

أنت لنا أم وأب

أنت جدنا الأول

وحرفنا الأول 

وجرحنا الأخير 

و الوجع الكبير

وأنت لون عيوننا 

وأنت لون دمائنا 

وأنت حمرة خدنا

وأنت نبض  القلب

أيا طيبة الأنفاس 

ويا شذية النسائم 

ويا عظيمة المزايا 

ها أنا أعلن  

أنني أحبك 

وأحب من يحبك 

وأحب ما يشبهك 

أو ما كان منك دانيا 

أحبك يا شهباء يا صهباء 

يا شقراء يا سمراء

أحبك  كالقهوة مرة محروقة

أحب حرفك ....أحب لحنك 

وسوقك القديم 

وحلقات التصوف

والقدود الحلبية

أشعلت يا مدينة الخيال المدود على شطآن الذاكرة .....يا حلب

لقد زرتها مرة وأنا صغيرة في صوت أمي الرخيم ( يارايحين ع حلب حبي معاكم راح ...يا محملين العنب تحت العنب تفاح )

و زرتها ثانية في شعر المتنبي في المرحلة الثانوية ومنذ ذلك التاريخ وأنا أحبها .....وأسلم على سيف الدولة والمتنبي في كل حلم جميل يمر نوما أو يقظة....كيف احتللت  مناطق الأحلام ياحلب ؟ أتراه كان قدرا على صدري انكتب ...أتراه كان قدرا ومن عيني انسكب؟..وزرتها ثالثة في الجامعة في محاضرات الدكتور بكري شيخ أمين ....ما زلت أذكر كيف تدحرجت دموعه  و كأنها قطع من قلبه وهو يحكي لنا قصة  إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام .... كنت أرى فيه حضارة حلب....كان يمثلها عطاء ونخوة وكبرياء. 

وزرتها في عيني ناهد شبارق زميلتي في الجامعة ....كانت هي حلب ..... خريطة حلب ....جمالا وبهاء ورونقا وأناقة ونبلا و أبهة 

قررت على إثرها أن أزور حلب المدينة التي سحرتني قبل أن أراها .... وزرتها ورأيتها واقعا وحقيقة .....حل الحب في هذه البقعة فكانت حلب!!!! .....تستقبلك بكامل أناقتها ، وعطرها ،وكبريائها ، وسحرها، وبياض وجهها ،وخضرة عينيها ،.....تماما كما رأيتها في ناهد ..... يا لشعرها الذي ينساب على كتفيها خصلا من ضوء الشمس !!! التف حول رقبتي حبل عشقها ...حللت فيها ؟؟ أم حلت فيّ ؟؟؟وقعت عقد عشقها!!!

حلت في حبل الوريد..... شاركتني ألمي إبان الحرب الأهلية في لبنان....فهل يا ترى كانت تعرف أنني سأرد في يوم من الأيام ألما بألم ؟؟؟

ما أصعب تشييع المدن يا حبيبتي !!!! كم مرة سرت على درب الجلجلة  وقمت؟ ... ستقومين ( وسلام عليك يوم ولدت ويوم أحرقت ويوم تبعثين حية ) .....وستنفضين عنك الموت ....أراه مشفقا عليك أيتها الجميلة !!! 

يا ما أحيلاك حلب 

يا ما أحيلاها حروفا ركبت 

من سبيكات الذهب

سفكوا دماء الحب فيك أيا حلب ؟؟؟

فأي حب بعدك يسطر؟؟؟؟

و أي شَعر بعدك يلحن 

وأي نثر يكتب

وأي شَعر يضفر

و أي حرف يجرؤ 

على أن يختال بعدك 

ويخطر ؟؟؟

يا صاحبة الجلالة 

يا صاحبة الفخامة 

يا صاحبة السمو

يا صاحبة القداسة 

وماذا يقول الشعر ؟؟

هنا كانت حلب

هنا ماتت حلب 

وهنا توقف نبض القلب

وأعلن التاريخ الحداد

والعالم الجديد !!!

والنظام العالمي العتيد !!!

ماذا يقول ؟؟

في مدن تباد 

تبا لهذا العالم ....و ألف تب

ينام عن موت شعب

يثور لموت كلب

فمن لثأرك يا حلب؟؟؟

( حلب لا تعني اليوم نفسها....حلب كل مدينة عربية تتعرض للاغتصاب ....وتعرضت ....وأي مدينة هي مشروع اغتصاب)

لكنني ورغم كل هذا الموت ....ورغم كل هذا الدمار .....وكل هذه الحرائق المشتعلة .....و القبور المشرعة .....وكل الأمراض المستعصية التي تصيب بلداننا من سرطانات فكرية .....و طواعين تاريخية.... والتهابات حادة في المشاعر ....وبالرغم من هذه الهجمة الدولية الشرسة والمتعددة الاتجاهات والشعارات .....أعلن عن فتح الباب لتسجيل الآمال و الطموحات من أجل مستقبل هذه الأمة الذي أراه مضيئا و قريبا ....

هذا الميزان يجب أن يبقى ميزان الحب !!!

حنان محمد شبيب تلملم شظاياها المبعثرة ....من المحيط إلى الخليج ....وتحاول أن تبث فيها الروح.

وسوم: العدد 700