خمس سنوات على رحيل الشاعر والمفكر سالم جبران

* ترك بصماته القوية على ثقافتنا وفكرنا*

clip_image002_3a9ec.jpg

في 19/ 12/2016 تكون قد مضت خمس سنوات على رحيل الشاعر الكاتب والمفكر سالم جبران ، ابن قرية البقيعة الجليلية. رحل في (19/12/2011)

لفت سالم جبران الانتباه والاهتمام بشعره قبل ان ينتقل للعمل الاعلامي والسياسي مناضلا ومثقفا ثوريا، متميزا باسلوبه وقدرته على الخوض في المضامين الجوهرية للمواضيع التي تناولها في كتاباته. وقد شكلت مساهمات سالم جبران الفكرية والسياسية قفزة اعلامية للإعلام العربي في اسرائيل خاصة ، وللإعلام العربي على وجه العموم .

سالم ليس مجرد كاتب آخر ، انما سياسي ومفكر وانسان مجرب تمرس في النضال اليومي والنشاط الحزبي السياسي والاعلامي والتنظيمي، ترأس رئاسة تحرير مجلة الشباب "الغد" ، ليبرز بقدراته على معرفة ما يهم الشباب العربي ولا نبالغ بالقول ان الأجيال التي تثقفت على مقالات سالم ومحاضراته، هي حتى اليوم الوجه الناصع لشعبنا، والأكثر تحملا للمسئولية والتضحية.

في فترة رئاسته لتحرير جريدة "الاتحاد" شهدت الصحيفة قفزة اعلامية كبيرة . وكذلك حرر مجلة الجديد "الثقافية" ويمكن القول بلا تردد انها فترة "الجديد" الذهبية من حيث المضمون والانتشار الواسع.

استقال سالم من عضوية الحزب الشيوعي، واستقال من رئاسة تحرير صحيفة الحزب "الاتحاد" في حدود العام 1993 لأسباب سأذكرها بسياق المقال. لكنه ظل سالم صاحب المواقف السياسية الواضحة ، والمفكر القادر على التأثير الاعلامي والفكري على المجتمع العربي وعلى اوساط واسعة جدا من المجتمع اليهودي.

سالم عرف بشعره الانساني، وهو من مؤسسي القصيدة الوطنية في شعرنا، كان الحب معياره للثورة وليس بالكلمات الكبيرة الفارغة من المضمون، وللدلالة قصيدته القصيرة الرائعة "حب":

كما تحب الأم

طفلها المشوها

أحبها

حبيبتي بلادي

على أثر نكسة حزيران 1967 كتب :

هزّي من الأعماق، يا عاصفة الهزيمة

عالمنا الشّائخ

فليدمر الإعصار كلّ التّحف القديمة ناسا وأفكارا

ليحرق لهب الثّورة كلّ أراضينا

كي لا تحاك، من جديد، فوقها مهزلة

كي لا تعاد، من جديد، فوقها جريمة

عملاق هذا العصر، هبّ اطلع النّصر

فكلّ السّابقين أطلعوا الهزيمة

لم ينشر سالم جبران من مقالاته وقصائده على الانترنت ، الا بعضها القليل، لأنه من جيل لم تتح له الفرصة والوقت للتعامل مع هذه الشبكة .  من المؤسف ان الكثير من اعماله الفكرية ومقالاته لم تجمع بعد وتحتاج الى جهد كبير جدا لجمع بعضها .  

خطاب سالم جبران السياسي كان خطابا مميزا ليس من السهل مواجهته ، وقد برز بمحاضراته في الوسط اليهودي ومقالاته التي نشرها في الصحف العبرية. حيث استحوذ على اهتمام يهودي واسع جدا رغم مواقفه النقدية غير المهادنة للسياسات التي تمارسها المؤسسة الحاكمة والأحزاب اليمينية ضد الجماهير العربية.

اعتمد في طرحه السياسي الحقائق والنهج العقلاني غير المهادن، الأمر الذي أكسبه انتباه اوساط واسعة جدا في المجتمع اليهودي. ويمكن القول انه مفكر كان يخاطب العقل وليس المشاعر.

تقييم مسيرة سالم جبران ، الفكرية والاعلامية والثقافية تحتاج الى مداخلات عديدة نشرت بعضها ضمن سلسلة اكتبها بعنوان يوميات نصراوي.

ارتباطي الفكري، السياسي والثقافي والإعلامي الواسع مع سالم جبران بدأ منذ عام 1962 حين كنت طالبا في ثانوية أورط – عمال الثانوية الصناعية في الناصرة، حضر يومها سالم وكان محررا لمجلة الغد، ليغطي اضرابا طلابيا اعلناه بسبب نقص في وسائل التعليم.

من هنا بدأت معرفتي وصداقة العمر والزمالة الاعلامية والثقافية والفكرية مع سالم جبران.

كنت وقتها كاتبا قصصيا ناشئا، نشرت عام (1962)وانا في الصف التاسع ، اول نص قصصي لي في مجلة "الجديد" الثقافية الشيوعية (التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت المرحوم صليبا خميس، وهو من الشخصيات السياسية والإعلامية البارزة، لم يعط أيضا الدور الذي يستحقه وفصل من الحزب، ثم رأس تحريرها كما اذكر محمود درويش بعده سميح القاسم ثم سالم جبران).

ضمني سالم لهيئة تحرير مجلة "الغد" وأنا في الصف التاسع، لأبدأ التدرب على العمل الصحفي في مدرسة إعلامية لا اعتقد ان الجامعات توفر فرصا أفضل منها لدراسة الصحافة او الإعلام نظريا وتطبيقيا.

عام (1993) كان سالم مرشحا لرئاسة قائمة الحزب الشيوعي (الجبهة الديمقراطية) للكنيست، وحدثت مخالفات تنظيمية فظّة، أسقطت سالم بطريقة لا تليق بالأخلاق الشيوعية التي أشبعونا تغزلا بشعاراتها، لكنها لا تخص المتنفذين بالقرار. استأت من الانقلاب على سالم ورأيت فيه بداية مرحلة جديدة لحزب لا استطيع ان أكون عضوا فيه... مرحلة تحول الحزب الى حزب شخص واحد ورأس واحد يتصرف ويقرر بما يراه مناسبا له. فقدمت استقالتي من الحزب والجبهة منتقدا ما جرى بحِدَّة.  

انتقدني سالم جبران بشدة على استقالتي من الحزب الشيوعي والجبهة (1993)، اثر إقصائه بانقلاب يليق بالانقلابات العسكرية العربية، كان ظنه انه يمكن النضال من الداخل اذ كان محررا لصحيفة الحزب اليومية "الاتحاد" وهو عمليا المفكر البارز الوحيد في صفوف الحزب.. والناطق السياسي الوحيد والمعتمد في وسائل الإعلام العبرية والعربية، والوحيد الذي يشارك بالندوات في الوسط اليهودي، إلمامه موسوعي في مختلف المواضيع، ولغته العبرية سليمة لدرجة ان محررة لغوية لإحدى الصحف العبرية التي كان ينشر فيها مقالات بالعبرية قالت لي أثناء اشتراكها بإحدى ندوات سالم انه "الكاتب الوحيد الذي لا أجد في مقالاته العبرية ما يستلزم التصحيح". بعد فترة قصيرة جدا لم تتجاوز اسبوعين دعاني سالم للحضور في إحدى الأمسيات الى بيت أخيه الدكتور سليم جبران في الناصرة، ليتلوا علينا قرارا هاما اتخذه قبل توزيعه على الصحافة، أيقنت ان سالم لم يعد مستعدا لتحمل مسؤولية تفكُّك التنظيم وتحوُّله إلى تنظيم الشخص الواحد وان البيان هو بيان استقالته، وقد تأكد ظني!!

بالتلخيص أرى نهاية حقبة تاريخية مشرفة على المستوى الفكري والنضالي، لشخص تبوأ بنفس الوقت العديد من المناصب المركزية في حياة الحزب الشيوعي وجبهته وإعلامه، يحتاج كل منصب إلى أكثر من بولدوزر بشري. كانت آلام سالم أكثر من قدرة إنسان عادي على الاحتمال. حافظ على آلامه داخل صدره.

كتب سالم قصيدة هامة يعبر فيها عن غضبه من الانقلاب عليه، لم ينشرها في الصحافة، لكنها ظلت في جواريره وأضيفت بعد وفاته لكتاب يشمل كل أعماله الشعرية وهذا نصها:

عاشق النهر

شعر: سالم جبران

عندما تدافعوا إلى المنصّة

مثل قبيلة مندفعة إلى الثأر،

فيهم العربيد والمهرّج

فيهم اللاعق والسارق

فيهم السكران والنصّاب

فيهم الحثالات التي تطرب لصوت تصفيقها

فيهم الهتّافون المحترفون

فيهم مشلولو التفكير العاجزون عن الحلم –

قرّرتُ أن أنزل عن المنصّة

لا مهزوما ولا هاربا

بل رافضا أن أشارك في المهزلة

رافضا المشاركة في المسؤوليّة عن الفضيحة

هم صعدوا إلى رقصة الانتحار

وأنا لم أنزل، بل صعدت

صعدتُ إلى ذاتي الحرّة، صعدت إلى جبل الحريّة

بقيتُ مع الناس، واحدا من الناس

الشمس في قلبي

لم أستبدل حلمي بحلم آخر

بل نفضتُ عن حلمي الغبار

ليس عندي وقت حتى لاحتقار

القبيلة التي اندفعتْ للثأر

بعد انعتاقي فقط،

أعرف تماما الفرق بين المستنقع والنهر

أنا حليفُ النهر

أنا عاشق النهر!

في دراسة هامة للناقد المرحوم د. حبيب بولس حملت عنوان "سالم جبران شاعر الأرض والمقاومة" أكد الناقد حبيب بولس ان سالم جبران هو أحد الشعراء الذين أسّسوا للقصيدة الوطنيّة الملتزمة المقاومة ، وأحد الذين تسلّحوا بالنظرية الماركسية العلمية التي منها انطلقوا في بلورة افكارهم ومواقفهم ومسيرتهم وكتاباتهم. هو معلّم وقائد فكري صقل بكتاباته واشعاره وآرائه شخصيّتنا ،تعلّمنا منه الكثير بحيث صارت له بصمات تسم جيلا كاملا.

ويضيف: كرّس سالم جبران معظم شعره لمقاومة الاحتلال ورفضه وتعرية أساليبه وممارساته، لذلك فالحديث عن شعر سالم يعني الحديث عن المقاومة فالمقاومة تغطّي مساحة كبيرة في دواوينه الثّلاثة المنشورة بين الأعوام 1975- 1967   والدواوين هي:  كلمات من القلب، قصائد ليست محدّدة الإقامة  ورفاق الشّمس.

عاش سالم  مأساة النكبة والتهجير وهذا ما نجده في قصيدة "بقاء":

الأرض خناجر

تحت الأقدام الوحشيّة

والأرض مقابر

  للأحلام الهمجيّة

   سأظلّ هنا  

في بيت يبنى من أحجار

في كوخ مصنوع

من أغصان الأشجار

أو في إحدى مغر بلادي

يا جزّار

سأظلّ هنا

أمسك جرحي بيد 

وألوح بالأخرى لربيع،

يحمل لبلادي

دفء الشّمس وباقات الأزهار.

وفي قصيدة "أغنية" ، يمجّد سالم جبران الشّعب الّذي يلملم جراحة رغم نكبته:

كالسّنديان هنا سنبقى

كالصّخور

كعرائس الزّيتون فوق ربى بلادي

كالنّهور

كحمائم البريّة الخضراء 

أنا سوف نخفق فوق أرضك

يا بلادي  

كالنّسور .

ويواصل اصراره ،فينشد:

سأظلّ فوق ترابك المذبوح يا وطني

مع المزمار، أنشد الرّبيع

وأقول للباكين والمتشائمين

إنّ الشّتاء يموت فابتسموا

ولا تتخاذلوا تحت الدّموع

هاتوا اياديكم، فمعركة البقاء

تريدكم سندا ومعركة الرّجوع

 ما قدمته هي نماذج قليلة جدا من شعر نضالي لعب في وقته دورا سياسيا وتثقيفيا كنا بحاجة له مثل حاجة الظامئ للماء في الصحراء.

شكل الشعر في نهج سالم جبران هاجسا يوميا عبر فيه عن تجربته الحياتية بدءا من النكبة التي عاشها طفلا في بداية وعيه مرورا بكل الأحداث العاصفة التي عمقت الام شعبنا خاصة بعد احتلال كامل التراب الوطني الفلسطيني.  ورغم ذلك تميز سالم برؤية إنسانية تقدمية. لكنه غرق أكثر بالعمل الاعلامي والتثقيفي وتوقف تقريبا عن كتابة الشعر.

لا يسعني في هذه العجالة الا ان أذكر عن علاقة الصداقة المميزة طويلة السنين بين سالم جبران ومحمود  درويش. علاقة امتدت من فترة الدراسة الثانوية كطالبين في نفس الصف، وانتقالهما للنشاط السياسي والثقافي باطار الصحافة الشيوعية. يصف المحامي الأستاذ جواد بولس زيارة محمود الأخيرة للبلاد وخاصة زيارته لصديق عمرة سالم جبران ، وذلك قبل توجهه لاجراء عملية القلب في الولايات المتحدة والتي توفي على اثرها.. وأقتبس ما سجله جواد بولس عن اللقاء:

" وصلنا بيت أبي السعيد (سالم جبران) وبدأنا بهبوط درجاته. محمود، وبدعابة مألوفة بين أصدقاء "عتاقى"، أخذ ينادي: سالم يا سالم، أبو السعيد ...ثوان كنا في صالون أبي السعيد. كان سالم يحاول أن يجيب على النداء بالنداء، لكن الصدر خانه والصوت كان عاجزًا خنيقًا. تقابلا، نسمة على كتف نسمة، فكان العطر فواحًا. لا دمع في المآقي، لكنّه، هكذا شعرت، تصبب بين الحنايا وعلى أطراف الضلوع. تحدثا، صديقان لم يقوَ الزمن على قطع ما عقداه من حبل للمودة، وعهد لم يفسده طول بعاد، ودرب أقوى من الشتات، وهمٍّ أعند من الشقاء.

كان اللقاء خاصا وحميميًا. لم يتحدثا عن قضايا العصر الكبيرة. سالم، بهدوء زائد عن هدوئه العادي وباختصار، شرح عن تردي حالته الصحية وسأل باهتمام واضح وقلق بادٍ عن حالة محمود، ومحمود أجاب بقصاصات حقائق ليعود إلى سالم ليطمئنَّ وليُطَمئِن.

لعبة الألغام أسميتُها فمحمود يعيش ولغم في صدره لا يعرف أحد ميعاد انفجاره، وسالم بعد عملية كاسحة ومزيلة للألغام من صدره. كلاهما يسعى لإبطال وتسخيف لغمه ليضمن سلامة شريكه/رفيقه".(انتهى الاقتباس)

وفاة محمود درويش وقعت كالصاعقة على سالم جبران. وقد آلمه أكثر ما لا اريد ان اكتبه انما اترك قصيدة سالم برثاء محمود تقوله، وقد احتفظت بنسخة من القصيدة التي رفض سالم ان ينشرها الا بعد ضغط كبير مني والحاح لم يتوقف بل وتهديدي ان انشرها بدون اذنه فتنازل بأن سمح لي بنشرها لكن  باسم "سعيد الحيفاوي".

قصيدة لم يكتبها محمود درويش

شعر : سعيد حيفاوي ( سالم جبران)

" القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير "

هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا

" هنالك ورد أقلُّ ُ"

" أنا يوسف يا أبي "

أمامي طقوس ٌ كثار ٌ وليلٌ طويلٌ طويلْ

" أنا يوسف يا أبي "

ويسعدني ان بحرا من الناسِ حولي

من الطيبين ،

من البسطاء ،

من الصادقين

ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين

فكل الذبابِ يحاول ان يتقدم

وكل الذئابِ تحاول أخذ مكان

بجانب نعشي ، وتتلو صلاة الغياب

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو بازاحة أمي واخوتي الطيبين

وحولي من الزعماء اناسٌ

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي

ليبقى لهم

وبه يعلنون ارتباطي بهم

عندما يقرب الانتخاب

ولو قدروا مزقوا لحم روحي

انا يوسف يا أبي

انا طيب ، غير اني

قليل السذاجة ، يا أبتي

مثلما كنتُ دوما قليل العتاب

انا يوسف يا أبي

كل الناس بلادي وكل بلاد

رفاقي وأهلي

ولكنني لا أزال وسوف أظل الى أبد الآبدين

عدو الذباب !

وسوم: العدد 700