عظماء... ولكن بعد الموت

عندما كنت طالبا في كلية العمارة بحلب ( في أوائل الثمانينات من القرن الماضي ) ، كنت والدكتور إحسان الشيط صديقين حميمين ، ورغم فارق السن بيني وبينه ( 25 عاما ) ، إلا أننا كنا صديقين حميمين ، يجمعنا حب حلب والفن والتصوير الفوتوغرافي ، واستمرت صداقتنا حتى وفاته منذ حوالي عشر سنوات ... رحمه الله .

 اتصل بي مرة صديقي المرحوم الدكتور احسان شيط واخبرني بانه مكتئب ، ويريد ان يتسكع معي في حارات حلب القديمة ، واتفقنا على اللقاء بعد ساعة امام جامع الشعيبية في باب انطاكية .

 ركضت وانا متلهف لمعرفة سبب كربة الدكتور احسان ، فهو بارع ومشهور في مهنة الطب ، ومقتدر ماديا ، ومسكنه في فيللا جميلة في الشهباء العتيقة ، وثقافته عالية ، ويمارس الرياضة ، وعلاقاته الاجتماعية اكثر من ممتازة ، فكيف شعر بالكابة .

 وصلت الى المكان ووصل الدكتور بعد دقائق وبدانا بحالة التسكع الترفيهية ( على عادتنا احيانا ) في حلب القديمة .

 ولم استطع الانتظار طويلا حتى سالته : كيف يمكن لشخص مثلك ان يشعر بالكابة ؟!..

 اجابني : لقد سمعت يا لؤي البارحة عن منح وسام الاستحقاق للعلامة المرحوم خير الدين الأسدي ، وما اريد ان اخبرك اياه انني كنت في زيارة للأسدي ليلة وفاته منذ أكثر من عشرة أعوام وكان في حالة يرثى لها ، قربه نافذة عليها زجاجة صغيرة فيها بقايا مربى المشمش ، والزبد يسيل من فمه ، وعلامات الموت قد بدت عليه .

 واكمل الدكتور احسان قائلا : الذي اثار اكتئابي انه لا يوجد في حلب كلها من يقدم لعالم حلبي قطعة من المربى قبل ان يموت ، ولا يوجد من يمسح عن فمه الزبد السائل ، ولا من يقدم له الماء ولا الدواء ، .. ولا. .. ولا. .. ولا.

 واكملنا جولتنا في صحبة خشوع الموت ، وفي النهاية فرحت قليلا لانني استطعت بمشوارنا هذا ان ازيل ولو جزء من كآبة صديقي العزيز وافترقنا وكان على وجهه ابتسامة لم اكن قد رايتها عند بداية اللقاء .

 وفي طريقي للعودة الى منزلي كنت اتساءل ، لماذا لا يوجد في حلب من يخدم هذا العالم الحلبي وهو حي ، ومن يقدم له الدعم المادي والمعنوي ، لماذا انتظر الحلبيون والسوريون طويلا حتى مات هذا العالم ، ليصرخوا بملء افواههم : مات العالم المفكر ، علامة حلب الكبير ، من الخاسر من هذا الاستهتار بالعلماء ؟!.. السنا نحن الخاسرون ، لقد قدم الاسدي موسوعة لحلب وهو فقير ... مهمل ... وحيد لا حول له ولا قوة سوى عقله الذي يفكر به وقلمه الذي يكتب به ، والسؤال : الم يكن الاسدي يقدم لنا عشرات الموسوعات فيما لو رصد له المعنيين بالامر جزء صغيرا من تمويل اصغر حفلة غنائية مثلا ؟!.. من الخاسر ؟!..

 ومع ذلك ، تتكرر الحكاية ..... كن عالما .... كن مبدعا ، كن .... كن ... فنحن لا نراك ..... الا انك عظيم ، ولكن بعد الموت ؟!..

حلب / 4 / 6 / 2015 م

حلب / مدينة العلامة خير الدين الأسدي

وسوم: العدد 701