ابن حجر وإخوته الثلاثة

د. عبد السلام البسيوني

هم – رغم اختلاف أذواقهم – أربعة علماء أجلاء عظماء، يحمل كل منهم لقب (ابن حجر):

أقدمهم: هو الحافظ أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي القاهري الشافعي المتوفى سنة 807 هــــــ وهو صاحب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، وموارد الظمآن من زوائد ابن حبان.

وثانيهم وأشهرهم: خاتمة الحفاظ وإمام زمانه الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هــــ، وهو صاحب فتح الباري، والإصابة في تمييز الصحابة وكتب أخرى كثيرة.

وثالثهم: الإمام أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري الشافعي المتوفى سنة 973 هــــ، وهو صاحب الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة..

ورابعهم وآخرهم وأحدثهم: هو الشيخ الجليل، العالم الفقيه القاضي أحمد ابن حجر البنعلي، قاضي قطر وعالمها، عليه رحمة الله ورضوانه، صاحب الكتب الكثيرة والمهمة، والشاعر الذي لم يحب أن يشتهر عنه أنه شاعر، فقد نظم الشعر في المسائل العلمية وخاصة العقيدة، بالإضافة إلى عدد من القصائد الاجتماعية..

ومن نظمه العلمي قصيدته: اللآلئ السنية، والعقائد السلفية، والتي شرحها في كتابه العقائد السلفية.

وهو الوحيد من أبناء حجر الأربعة، الذي تشرفت بلقياه في بيته مرا ت كثيرة، وهو محل كلامي اليوم.

لكن قبل أن أتحدث عنه، وعن جانب الظرف فيه، أسوق لطيفة حصلت بين الإمام الأشهر ابن حجر العسقلاني، والحافظ العيني صديقه؛ إذ إنهما تهاجيا على طريقة تذامّ الأقران، بين واحد من أبناء حجر، وزميل له من العلماء!

فيحكي المؤرخون أن المئذنة التي بنيت على البرج الشمالي بباب زويلة للجامع المؤيدي بمصر المحروسة، قد مالت، وكان الحافظ العيني يدرس بالجامع المؤيدي آنذاك، فرسم محضر بهدمها، فقال ابن حجر معرضاً بالعيني:

لجامع مولانا المؤيد رونقٌ                       منارته بالحسن تزهو.. وبالزيْن

قالوا: أصيبت بعينٍ، قلت ذا غلط               فليس على جسمي أضر من العيني

فذكر بعض الجلساء للحافظ العيني أن ابن حجر عرّض به في شعره، فرد قائلاً:

منارة كعروس الحسن إذ جُلِيت                  وهدمُها بقضاء الله والقدرِ

قالوا: أصيبت بعينٍ قلت: ذا غلط               ما أوجب الهدمَ إلا خسة الحجرِ

ويذكرنا هذا بمداعبة حافظ لشوقي حين قال له:

يقولون إن الشوق نار ولوعة                    فما بال شوقي أصبح اليوم بارداً

فرد شوقي عليه:

وأودعت إنساناً وكلباً وديعة                     فضيعها الإنسانُ والكلبُ حافظ

أعود إلى رابع العلماء من أبناء حجر، وهو فضيلة الشيخ المبارك: أحمد بن حجر البنعلي البوطامي الشافعي السلفي، الذي توفى عن عمر ناهز الثامنة والثمانين عاماً،  قضاها في العلم والتعليم، والقضاء والفتاء، رئيس القضاة بالمحاكم الشرعية بقطر..

وكان قاضياً مشهوداً له بالحزم والاستقامة، عالماً محققاً، كريماً سخياً، لا ينسى ضيوفه ولا يهملهم، في تواضع وأدب، وتقدير للعلم والعلماء، وكان له اعتزاز عجيب بالكتب، يحرص على جمعها، ويحافظ عليها، وكان حلو المعشر، حاضر البديهة، لا يخلو مجلسه من القفشات والمداعبات المؤنسة لا المتحرشة، وهي التي تهمني في هذا السياق.

وأنا - مبدئياً - أنتظر من محبيه وعارفيه أن يرسلوا بعضاً من لطائفه لأضِّمنها هذه السلسلة، لكنني لن أعدم بعضاً مما أذكر، ومما زودني به الأخ الصديق الشيخ علاء رجب، الذي كان إماماً لمسجد بيت الشيخ ابن حجر أول مجيئه للدوحة، وخالطه، ولا تزال ذاكرته تستوعب بعض الطرائف التي تعكس ظرف الشيخ رحمه الله..

* فمن ذلك أن شخصاً جاءه وقال: تصور يا فضيلة الشيخ: فلان يزعم أن معه مفاتيح الجنة (يضمنها لأتباعه ومريديه) فرد الشيخ على الفور:

وأنا معايا مفاتيح النار، تاخذها!؟

* وذات يوم دعا الشيخ أخانا المهندس أحمد المصري للغداء، فلما وصل، فاجأه الشيخ بسؤال: إيش جايبك الحين؟

فقال: جاي أتغدى، مش فضيلتك عزمتني؟!

فرد الشيخ: انت بتصدق أي كلمة كدا بسهولة؟ قلت لك اتغدى تيجي تتغدى!؟

ليش؟!

فرد المهندس: بسيطة، هاروح لأي مطعم، وآكل اللي ف خاطري كله، ومش هادفع الحساب، الشرطة هاتيجي تمسكني، وتجيبني عند فضيلتك، ولما تسألني هاقول إنك انت اللي ورطتني، فادفع فضيلتك الحساب!

فقال الشيخ: كدا؟ طيب، يبقى خليك اتغدى معانا!

* وجاءه شخص من كتاب المحكمة ذات مرة زائراً، فقال: كنت ماشي مع ناس، فاعتذرت لهم، وجيت لفضيلتك، فقال الشيخ بسرعة:

ليه؟ انت غلطان، المرة الجاية اعتذر لي، وروح لهم.

* كان الإمام يصلي الظهر، فشك أنه صلى خمس ركعات، فسأل الذين وراءه، وكانوا من الخدم الأميين غير العرب: هل صليتُ خمس ركعات؟

فقال الشيخ: ما تسألهمش، دول بلاوي؛ لو صليت بهم عشرين ركعة، تلاقيهم وراك على طول، ما يقولوش لأ!

* وذات صلاة ظهر، كان الإمام يصلي بسرعة، ونسي وجلس في الثالثة، فقيل له: سبحان الله، فقام، ثم سجد للسهو، فقال:

ليش سجدت للسهو؟ مش دي كانت جلسة الاستراحة؟!

* وكان عند الشيخ رحمه الله خادم بطيء الحركة اسمه محيي الدين، فكان يناديه إذا أبطأ عليه: يا مميت الدين!

* ومع تقدم الشيخ رحمه الله في السن، كان يطلب من الإمام التخفيف في التراويح، حتى لا ينقطع عنها بسبب الجهاد، فصلى هو أول يوم بالإمام ليريه طول الصلاة المطلوب، فسأله الإمام: أقرأ بسورة مريم مثلاً؟

فرد الشيخ رحمه الله: تقرأ بمريم تقرأ بفاطمة، المهم تمشي على هذا النظام!

رحم الله الشيخ، وأحسن مثوبته، وقبله عنده في المهديين المرضيين.. اللهم آمين

وسوم: العدد 702