أزمة مصطلحات .. وأزمة أمة

د. حامد بن أحمد الرفاعي

كتبتُ قبلَ خمسة عشر عامًا مقالاً بجريد الشرق الأوسط الدوليّة بعنوان:( أزمةُ نُخبةٍ .. لا أزمةُ رَغبةٍ (جاء فيه أن الأمة راغبةٌ كل الرغبة في التعامل مع قيم دينها وتراثها الثقافي..إلا أن اضطراب خطاب النخبة المعنية بقيادة جموع الأمة..يشكل أزمة كأداء في وجه تحقيق رغبتها في استئناف حركة انبعاثها الحضاري المعاصر..وأساس مسألة اضطراب خطاب المفكرين والمثقفين..هو بتقديري اضطراب مفاهيمهم وتصوراتهم حول المنهجية الموضوعية لحركة الاستئناف الحضاري المنشود..وجذر ذلك كلها اضطراب فهومهم حول مصطلحات قيم ومبادئ رسالة الإسلام الإنسانية العالميّة.وحالة اضطراب الفهم الجاري اليوم حول معنى الوسطية,ودلالاتها,ومقاصدها,والآليات الميدانية لتفعيل نهجها الربّاني العظيم..تشكل أحد مرتكزات التأزم الذهني عند غالب أجيال الأمة..الأمر الذي يُولّد بكل أسف حالة تأزم في الأداء والممارسات على مختلف المستويات الدينية والسياسية والاجتماعية.

فما هي الوَسَطيِّةُ..؟وما مصدر اشتقاق مصطلحها ..؟

الوَسَطيِّةُ اليوم في العرف الدارج على ألسن وكتابات المفكرين هي الاعتدال..ويغلب استخدامها مترادفة مع الوسطية فَيُقالُ:"الوسطيَّةُ والاعتدالُ"ثم يُقدِّمُون دليلاً على ذلك قول الله تعالى:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس (وهكذا يجعلون هذا النص القرآني الجليل مصدراً لاشتقاق مصطلح (الوَسَطيِّة)والمتأمل في الآية يجد بسهولة ووضوح..أن علة وصف الأمة المسلمة بصفة(وَسَطاً)هو تشريفها بمهمة الشهود على الناس لقوله تعالى:"لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس"والشهود يلزمه الحضور فلا شهادة لغائب..فالحضور بين الناس والتفاعل مع حركة الحياة..ومتابعة الأحداث والمستجدات والمشاركة فيها..كل ذلك من شروط الشهادة الصحيحة التي تحقق مهمة الشهود على الناس..والتي من ثمًّ تؤهل الأمة المسلمة لتنال شرف شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم لقوله تعالى:"ويكونُ الرسولُ عَليكم شهيدًا"وهذا يوحي إليَّ بأن عبارة (وسطا) تعني:أن الأمة الإسلامية هي أمة الحضور والتواصل والتعايش مع الناس والمجتمعات..وليست بحال من الأحوال..أمة اعتزال الناس والانقطاع عن شؤون حركة الحياة ومستجداتها..فالحضور بين الأمم من استحقاقات الشهادة على الناس..ومن استحقاقات تعريفهم بخيريّة الأمة المسلمة التي أخرجها الله إليهم لقوله تعالى:"كنتم خير أمة أخرجت للناس".والوسط في اللغة:المكان الواقع بين غيره من الأمكنة..أو الشيء المحاط بأشياء أخرى..فبهذه الإحاطة يكتسب المكان والشيء الحصانة والمنعة والعزة..وواسطةُ العقد موضعٌ لأكبر وأنفس وأجمل لؤلؤة أو جوهرة فيه..ومن هنا تأتي معاني النفاسة والعزة والمكانة والخيرية لأمة الوسط..وعلى أساس من ذلك أحسب أن عبارة "وسطًا"التي اشتق بعض المسلمين منها مصطلح "الاعتدال"لا تحتمل هذا الاشتقاق..أجل الأمة المسلمة بكلِّ تأكيد هي أمة الاعتدال..ولكن مصطلح الاعتدال يُستدل عليه بنصوص أخرى وهي كثيرة مثل قول الله تعالى :"والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً"أما عبارة (وسطا)  فهي عبارة ذات دلالات موسوعية لم يرد في أقوال المفسرين أن (الاعتدال) واحد من دلالاتها..المفسرون ذكروا(العدالة) من معاني عبارة وسطا ولكن العدالة كما هو معلوم غير الاعتدال..لذا لا أجد من الموضوعية الاستدلال على الاعتدال بعبارة (وسطا) وأعرضُ فيما يلي ملخصاً لأقوال المفسرين واللغويين بشأن عبارة (وسطا) ومنها:

1.الحضور والتواصل والتعايش مع الناس.

2.المنافسة والمشاركة الفاعلة بأحداث حركة الحياة البشرية.

3.العزة والمكانة والقوة والمهابة بين الأمم.

4.الكفاءة والمهارة والإنتاج والإبداع في ميادين الحياة.

5.الخيرية والريادة بين الناس.

6.العدالة (بمعنى العدل) في الأداء مع الناس دون تمييز.

7.سداد الرأي ورجاحة العقل والحكمة في التعامل مع الآخر.

8.الرشد في التدّين والتعبّد.

فبهذه الخصائص وغيرها..تكون الأمة المسلمة أمة وسطًا لا تنحاز لأمة على حساب أمة أخرى..يقربها منهم العدل ويبعدها عنهم الظلم..تنتصر لقدسية حياة الإنسان,وكرامته,وحريته,وحرمة ممتلكاته دون تمييز..منهجها عادلٌ منصفٌ بشريًا..لا ينتصر لأحدٍ على أحدٍ إلا بالحق..ومنهجٌ منصفٌ جغرافيًا..فهو للشمال والجنوب وللشرق والغرب على السواء..إنه منهجُ عمارة الأرض بكل أطرافها وجهاتها..وهو منهجٌ منصفٌ اقتصاديًا..لا ينتصر للأغنياء ضد الفقراء..ولا يتعاطف مع الفقراء على حساب الأغنياء..ولا يُشجّعُ الصنّاع ويخذل الزرّاع..ولا يُباركُ جَهد الزرّاع ويبخسُ جَهد وكدح الصنّاع ..ولا يحابي التجار على حساب مصلحة المستهلك..ولا ينحاز للمستهلك ضد مصالح التجار..فهو للجميع إنصافًا وعدلاً..وهو منهجٌ منصفٌ سياسيًا..يؤاخي بين الحاكم والمحكوم يأمرهم بالتناصح والتشاور والتعاون لتحقيق العدل والمصالح والأمن والاستقرار..وهو منهجٌ منصفٌ دوليًا..لا يمنح حق (الفيتو) للكبار في وجه مصالح الصغار..ولا يدلل الصغار على حساب حقوق الكبار..بل هو للكبار والصغار وللضعفاء والأقوياء على السواء بالحق والعدل..وهو منهجٌ منصفٌ جنسيًا..لا يتزلّف الرجال حلى حساب النساء..ولا يتعاطف ويرق للنساء على حساب الرجال..فهو للذكورة والأنوثة سواء بسواء..وهو منهجٌ منصفٌ          بيئيًا..للإنسان حقوقه وواجباته,وللحيوان حقوقه وواجباته وللنبات حقوقه وواجباته,وللمادة حقوقها وواجباتها..فهم جميعًا خلائق مسخرة بعضها لبعض..والجميع مسخر لعمارة الأرض,وإقامة الحياة على أساس من التكامل والتلازم بين الحقوق والواجبات..طاعة لله وعبودية خالصة لمراده سبحانه.وبعد:فما فائدة الاعتدال لأمة معزولة عن الناس ومحتبسة عن ميادين العطاء والإنتاج والإبداع..؟ومن جهة أخرى فإن حضورية الأمة مع الرعونة والحماقة والعدوانية ورفض الآخر وكراهية الآخر..هو تدمير وهلاك لمسيرة البناء والعطاء الحضاري الراشد الآمن..أجل إنَّ حالة التأزم في الأداء والممارسات التي تعاني منها أمتنا اليوم على كافة المستويات الأمنية,والسياسية,والاجتماعية,والاقتصادية وغيرها..هي انعكاس لحالة التأزم الذهني والفكري التي تعتري البناء الثقافي لغالب أجيالنا..وبتقديري فإن أزمة اضطراب الفهم الديني..تبقى الجذر والأساس لكل هذه الأزمات المدمرة..ومن مصادر أزمة الفهم الديني..هو اختلال فهم المصطلحات والتعامل مع دلالاتها..حيث يختزل البعض موسوعية مصطلحات النص الديني القرآني والنبوي - بالمزاج أو بسوء الفهم - لصالح أحد دلالاته ومعانيه..أو لصالح معاني يستحدثها البعض ما أنزل الله بها من سلطان. 

-------------------

ملاحظة:

ما جاء في هذه المقالة هو اختصار لبحث واسع مفصل..بشأن هذه المسألة الجوهرية في فهم مقاصد رسالة الإسلام الربانيّة الإنسانية الساميّة الراشدة.    

وسوم: العدد 705