خرائط النفوذ في العام السوري السابع

غداة “انتصار” الثورة الإيرانية على نظام الشاه محمد رضا بهلوي في 11 فبراير 1979. احتجز النظام الجديد موظفي السفارة الأميركية في طهران. ونحت مصطلح “الشيطان الأكبر” لوصف أميركا التي كانت تعتبر إيران الشاه “شرطي الخليج”.

وفي سوريا وبعد ست سنوات ثورة لا يزال النظام الأسدي منبع الإرهاب وشيطانه الأكبر، بل وسبب “الإرهاب المشتق”، فردود فعل الفصائل المعارضة على أصل الإرهاب تبقى تابعة مهما بلغت. وإن كانت تحتاج إلى دراسة تدخل في باب علم الاجتماع قبل السياسة أو الأنثروبولوجيا أو في هذه الأبواب جميعا، منفردة ومجتمعة.

ويمكن ربط إرهاب الدولة الأسدية بتعبير “الإرهاب الأكبر” على غرار “الشيطان الأكبر”-أميركا، المثبت الوجود في أكثر من مكان وزمان، وباختلاف التعبيرات أو الاشتقاقات اللغوية، والمبرَّر بتعبير المصلحة القومية الفضفاض.

وعلى خلاف البروباغندا الإيرانية أو الأسدية في ما يتعلق بأميركا، فقد أثبتت كل من إيران ونظام الأسد ضلوعهما في الإرهاب لكن دون أن تحظيا بالاهتمام العالمي الذي حظيت به المجموعات الإرهابية السُنية.

وعلى عكس ما يقوله الساسة هنا وهناك، مصالح إيران وأسدها، لا تنعقد إلا بإرادة أميركية مهما تباعدت رؤى الدولتين ظاهريا. والمثال الإيراني الأكثر دلالة رغم اعتراضات المعترضين هو ملفها النووي، فما لم تستطع أميركا الحصول عليه من إيران بالمقاطعة استطاعت الحصول عليه بالسياسة والمفاوضات، على الرغم من اعتبار إيران نتيجة المفاوضات “نصرا” على أميركا، واتفاق معارضي الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، على أن ذلك “هزيمة” لأميركا.

رغم ذلك تلعب إيران الملالي والديمقراطية الأميركية، أوراقهما من تحت الطاولة أو على المكشوف في سعي لتجنب الصدام الصريح الذي وصل عنق الزجاجة في أكثر من مرة خلال 38 سنة مضت.

في عام الثورة الإيرانية، كانت قد مضت تسع سنوات على استيلاء حافظ الأسد على الحكم في سوريا، لكن تمظهر التحالف بين دمشق وطهران لم يتضح قبل انتصاف الحرب العراقية الإيرانية. وشيئا فشيئا اتضحت الصيغة الطائفية غير الصريحة نتيجة الاعتقاد بوجود تناقض مذهبي بينهما، حيث تفوّق بعد النظر الإيراني على الخلاف المذهبي مستحيل الحل.

ومع توريث الحكم الأسدي في سوريا، انتقل هذا التحالف إلى صيغة التابع والمتبوع، خاصة بعد انتصاف عمر الثورة، عندما بدأ نشاط الميليشيات الشيعية الداعمة للنظام. وفي نهاية عام 2013 أنتج التحالف جنين داعش في الرقة، قبل الاستيلاء السلس على الموصل وسيطرة التنظيم على ثلث مساحة العراق.

لاحقا عبر داعش، العراقي الجوهر والتنظيم والخبرة والإمكانات المادية، إلى سوريا تحت نظر وسمع إيران المتحكّمة في العراق وسوريا، بما يُفسر أن التنظيم من ألفه إلى يائه رواية إيرانية أسدية أو أن نظام طهران ونظام دمشق مطمئنان إلى محدودية خطر التنظيم بالمقارنة مع خطر جوهر الثورة السورية الشعبية.

وفي الحالتين استفادت إيران من “تحالف وجهات النظر” مع أميركا وأوروبا والعالم في خصوص خطر التنظيم العابر للحدود في المنطقة العربية كلها بعد أن توسط سوريا في الجغرافيا الطبيعية والسكانية، مبررا لمتعجلي التحليل استخدام مصطلح “الحاضنة الشعبية”، مستبعدين نظرية “رجالها لمن غلب”.

ثبوت صحة هذه الفرضية يعني أن داعش أيضا إرهاب مشتق على الرغم من الجذر القاعدي للتنظيم، مع عدم نسيان مساهمة أصابع الفوضى الأميركية الخلاّقة في التهيئة لخلق التنظيم في عراق ما بعد 2003، وخصوصا ما بعد 2006، كتابع زلزالي لما بعد إعدام الرئيس العراقي صدام حسين في 30 ديسمبر 2006.

لنقارن بين سيرة العلاقة الإيرانية الأميركية السيئة إعلاميا وبين علاقة طهران مع داعش. وكما أن العلاقات الدبلوماسية بين طهران وواشنطن مقطوعة منذ انتصار ثورتها، فمن غير المحتمل افتتاح سفارة لداعش في طهران.

ومع ذلك نذكر جميعا زيارات الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي للجمعية العامة في الأمم المتحدة بنيويورك خلال ولايتيه الرئاسيتين، وتعدد زيارات الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد للمكان نفسه كي يشتم الولايات المتحدة في الأرض الأممية الأميركية.

كما لا ننسى مفاوضات “5+1” التي لعبت فيها الولايات المتحدة دور رأس حربة “شياطين الغرب” المتربصين بالحمل الإيراني. ولذلك قد يصل الشك إلى وجود علاقات بين طهران وداعش تجد مبررها في إرخاء الحبل لجنين داعش الذي شب عن الطوق وتمرد على الرعاة الأوائل في “غفلة من المجتمع الدولي”!.

وفي سوريا المستباحة للاحتمالات في الأعوام الستة الأولى من ثورتها وعلى أعتاب السنة السابعة، لعب شياطين السياسة الرسميين وداعش بخارطتها الإنسانية، حيث نجد العمائم واللحى بين الساسة والعسكر، من إسلامويين وعلمانيين وأكراد وتركمان، كلٌّ يضرب بسيف من يدعمه بهدف فرض احتمالات الخرائط المتقاطعة، إن لم يكن على غرار سايكس بيكو، فعلى مستوى تقاسم النفوذ في عصر ذاب فيه مفهوم الحدود الجغرافية. وهذا ما أثبته داعش حين اخترق الحدود السورية العراقية الرخوة بسلاسة رغم رصده بأقمار أميركا الصناعية، وبكل أصناف الاستخبارات في العالم.

على الرغم من ذلك لا يزال الكثير من السوريين أوفياء للمفاجأة الأولى في2011، فبعد مرور أول أسبوع ثم أول شهر، فأول سنة، لتتالى السنوات، ازدادت القناعة بأحقية الثورة التي تأخرت لأربعين عاما.

وبالمقارنة مع ثورتي تونس ومصر اللتين أنجزتا الخطوة الأولى بزمنين قياسيين (28 يوما، و18 يوما على التوالي)، لا تزال الثورة السورية تحاول الوصول إلى اليوم التالي لرحيل الدكتاتور على عكس ما جرى في تونس ومصر من استعادة قوى الثورة المضادة فيهما زمام المبادرة.

ففي سوريا وبكلفة أسطورية من الدماء والآلام لم يعد السوريون إلى مربع الدكتاتور الأول، رغم سوء ممثليهم السياسيين والعسكريين، ورغم تخاذل المجتمعين العربي والدولي، ورغم مؤشرات تطويق الثورة ومؤتمرات روسيا للسلام في أستانة وجنيف التي تحاول تعويم الدكتاتور.

ورغم الضبابية التي تحف بحياة السوريين في الداخل والمنافي، لا تزال الثورة كامنة في النفوس، فما ثاروا من أجله هو إزاحة الدكتاتور عن ظهورهم.

وفي السنة السابعة بدلالاتها الدينية، يحق للمتفائلين التطلع إلى بداية قيامة جديدة للشعبين السوري والعراقي من باب القضاء على داعش أو تحجيمه، فمقدمات نشوء داعش وظهوره تشبه سيرة نشوء الدكتاتور هنا وهناك.

وفي العراق لا يزال طيف صدام حسين يحكم الساسة العراقيين، بإرثه الذي أنتج محاصصة طائفية مكنت داعش من التسلل إلى المجتمع العراقي. وفي سوريا صنع الدكتاتور الظاهرة الإسلاموية متوسلا نظرية الفوضى التي نفذها هؤلاء بطريقة أفضل مما تمنى الدكتاتور وإيران أو خططا لها.

وسوم: العدد 712