خريطة تركيا التي كشفها الاستفتاء

ثمة دلالات عديدة ومهمة في ثنايا نتيجة الاستفتاء على التعديل الدستوري في تركيا، الذي نجح بنسبة 51.4 في المائة وفق النتائج الأولية غير الرسمية، أبعد من مجرد التقييم الظاهري لمن فاز ومن خسر.

الاستفتاء لم يكن انتخابات برلمانية، وبالتالي لا يعكس الخريطة الحزبية في تركيا بشكل مباشر ودقيق، إلا أن تحليل نتائج التصويت في مختلف المحافظات ومقارنتها بالانتخابات البرلمانية الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بل والرئاسية في آب/أغسطس 2014، يكشف عن عدد لا محدود من الخرائط الاجتماعية والسياسية والحزبية والأيديولوجية في تركيا، بعضها قديم وبعضها الآخر مستجد.

الخريطة الأولى، والقديمة في تركيا، والتي ترسخت مع حضور "العدالة والتنمية" القوي منذ 2002 هي الخاصة بالمحافظات التركية في عمومها في أي مناسبة انتخابية. حين تطالع هذه الخريطة وفق نتائج الاستفتاء الأولية بلونَيْ الموافقة والرفض ستلاحظ استقراراً في حدود التمايز (كي لا نقول الانقسام) بين مناطق وسط الأناضول والبحر الأسود المؤيدة للاستفتاء ولـ"العدالة والتنمية" بشكل عام، وبين ساحل بحر إيجه في الغرب المؤيد بشكل عام لحزب "الشعب الجمهوري" ومناطق جنوب وجنوب شرقي البلاد ذات الأغلبية الكردية والتي يتمتع فيها حزب "الشعوب الديموقراطي" بحضور واسع.

ولأن حدود التماس أو التمايز هذه واضحة جداً في كل مناسبة انتخابية (شكلت إسطنبول استثناءً في الاستفتاء) وتكاد تتعامد على أسس مناطقية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية وسياسية، وأحياناً عرقية، فإن لها دلالة استراتيجية لا تُخطئها عين الباحث فضلاً عن دراية السياسي. ولأن مناطق الأغلبية الكردية مشبعة بالإضافة لما سبق، بخلفية تاريخية، ومرتبطة بتطورات إقليمية، فإنها تشكل هاجساً لصانع القرار في أنقرة، ولذلك أيضاً فهي -بشكل منطقي- أولوية استثنائية في السياسة الداخلية والخارجية لتركيا.

الخريطة الثانية هي الثقة بالرئيس رجب طيب اردوغان، والتي تبدو "فوق حزبية"، وتتخطى حتى "العدالة والتنمية" الذي أسسه اردوغان وقاده لسنوات طويلة وسيعود لرئاسته قريباً. لدى التدقيق في نتائج التصويت على التعديل الدستوري في مختلف المحافظات نرى أن حضور الرجل كان العامل الأبرز والأقوى في إقرار النظام الرئاسي، والأنشط في الحملات الانتخابية (وتؤيد ذلك بعض استطلاعات الرأي)، فضلاً عن أنه من وقف خلف المشروع منذ البداية بل وغامر كثيراً في إعادة طرحه بعد تجربة انتخابات حزيران/يونيو 2015 التي فقد فيها الحزب الحاكم أغلبيته البرلمانية حين قدَّم التحول للنظام الرئاسي شعاراً لحملته الانتخابية.

ولا نقول ذلك لمجرد التقارب الشديد بين نسبة التصويت لاردوغان في انتخابات الرئاسة والنتيجة الأولية للاستفتاء، 52 في المئة مقابل 51.4 في المئة، وإنما باستقراء نتائج التصويت في كل محافظة على حدة، ومقارنة ذلك بنسب التصويت لأحزاب "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية" و"الشعوب الديموقراطي".

ويبدو حزب "الحركة القومية" وكأنه سار في طريق غير تلك التي أرادها له رئيسه دولت بهجلي، محرك الملف مجدداً وشريك المشروع في البرلمان. صوّت أغلب أنصار الحزب ضد التعديل الدستوري، وهو ما يشير إلى محدودية التحالف/التعاون بينه وبين "العدالة والتنمية" على المدى البعيد، رغم استمرار حاجة الأخير له في البرلمان. وليس مستبعداً حدوث انشطارات داخل بنية "الحركة القومية" بعد هذه النتيجة التي تؤكد أن زعيمه عجز عن إقناع قاعدته بقراره.

خريطة الأكراد واتجاهات الرأي لديهم هي أكثر ما يلفت النظر في هذا الاستفتاء، وليست مبالغة القول إن الأصوات الكردية هي التي حسمت النتيجة وضمنت إقرار النظام الرئاسي. في مناطق الأغلبية الكردية، "العدالة والتنمية" هو المنافس الوحيد للأحزاب الكردية اليسارية التي تسير في فلك "العمال الكردستاني" وآخرها حزب "الشعوب الديموقراطي"، مع فارق كبير لصالح الأخير. في هذا التصويت، وبالمقارنة مع نتائج البرلمان 2015، ثمة تراجع واضح لتأثير "الشعوب الديموقراطي" على الطيف الكردي وازدياد ملحوظ في معدل الثقة باردوغان، وليس بالضرورة "العدالة والتنمية".

هذه الدلالة ليست من النوع الهامشي أو التفصيلي، بل تقع في صلب القضية الكردية في تركيا، إذ أن تراجع حضور "الشعوب الديموقراطي"، و"العمال الكردستاني" ضمناً، وازدياد الثقة باردوغان كقائد "قادر" على الحل، سيكون لهما انعكاساتهما المستقبلية بكل تأكيد، ولذلك كان لافتاً أنها المنطقة الجغرافية الوحيدة التي حظيت بإشادة اردوغان بعد صدور النتائج.

الخريطة الخامسة تتعلق بالمدن الكبرى التي مال معظمها لرفض الاستفتاء بنسب متفاوتة، لاسيما في إسطنبول التي تعتبر "تركيا المصغرة" والمؤشر على نتيجة أي عملية اقتراع. رفض النظام الرئاسي في إسطنبول والعاصمة أنقرة، إضافة لمدن المنافسة فيها محسومة تاريخياً مثل إزمير حصن "الشعب الجمهوري" وديار بكر "قلعة الأكراد"، ومدن أخرى مثل أضنة وأنطاليا وإسكي شهير، يقدم لنا خريطة جديدة قد تتشكل بين الريف والمدينة أو بين بعض المدن تتطلب تقييماً هادئاً لئلا تتحول إلى مشهد دائم مع تطبيق النظام الرئاسي بعد 2019.

الخريطة الأخيرة، وربما الأهم، تتعلق بحزب "العدالة والتنمية" نفسه ومدى التزامه بقرار قيادته وخيار اردوغان بتأييد التعديل الدستوري، وهو الحزب المعروف بانضباطه التنظيمي ووحدة قراراته ومواقفه. إن مقارنة نتائج المحافظات المختلفة من منظور نسبتي التصويت للحزب في 2015 والاستفتاء الأخير تظهر تقارباً شديداً في ما عدا مناطق الأغلبية الكردية. وبحساب جزء يسير من أصوات "الحركة القومية" وأحزاب أخرى إضافة للعدد الكبير المضاف من الأكراد، يتضح أن "العدالة والتنمية" لم يكن على قلب رجل واحد في هذا الاقتراع، ويؤكد أن الأمر غير متعلق فقط بعدد من القيادات بل تخطاهم إلى نسبة لا يمكن تحديدها -ولن تكون كبيرة جداً- من كوادره.

مخالفة هذه الكوادر لتصويت الحزب وقرار اردوغان تبدو متعلقة بالتحفظ على بعض مواد التعديل الدستوري أكثر من رفض فكرة التغيير أو النظام الرئاسي بحد ذاته، ولئن اعتبرت مؤشراً على حيوية وتنوع داخل أطر الحزب وعدم التسليم تماماً بخيارات قيادته واردوغان رغم ما يحظى به الأخير من ثقة واحترام وكاريزما وإنجازات، إلا أنها ستؤدي بطبيعة الحال إلى مراجعات جدية داخل الحزب وربما تغييرات في بعض المواقع القيادية.

ورأس مال "العدالة والتنمية" حتى الآن هو تماسكه ووحدته، وبالتالي فهو لا يملك في ظل التحديات القائمة رفاهية السماح بأي خلافات أو اختلافات عميقة فضلاً عن ترسيخها، ولذلك قد يكون من الحكمة التوجه لكوادر وأنصار الحزب بمزيد من التوضيح والشرح والتطمينات في ما يتعلق بالنظام الرئاسي ومستقبل البلاد، ولعل ذلك ما أشار له اردوغان حين قال "يبدو أننا لم نوفق في إقناع بعض الناخبين".

يبدو إذاً، هذا الاستفتاء كاشفاً لعدد من الخرائط المهمة في فهم تعقيدات وتداخلات المشهد التركي الداخلي، والتي سيكون لها انعكاسات مهمة على البلاد وتركيبتها السياسية وهي تخطو هذه الخطوة الجذرية والحاسمة في تاريخها المعاصر. الأمر الذي يغري بمزيد من التعمق في دراسة هذه النتائج ودلالاتها لمحاولة استشراف سيناريوهات المستقبل.

وسوم: العدد 716