الثورة السورية وإشكالية الأقلية والأكثرية

د. محمد أحمد الزعبي

د. محمد أحمد الزعبي

في حوار مع بعض الإخوة السوريين ، في أحد مقاهي مدينة لايبزغ الألمانية ، حول مستقبل الثورة في سوريا ، لاحظت أن أحدهم كان يكثر في تحليلاته السياسية من استخدام الضمير المنفصل ( نحن ) ، وكان يقصد به ( نحن الأكثرية السنية ) ، ثم يتبع

( بضم الياء )هذه النحن بعدد من الصفات الإيجابية التي تشير إلى تسامح هذه الأكثرية السنية تاريخياً، وعدم تعصبها ضد أية أقلية، وبمن فيهم الأقلية العلوية الحاكمة في سورية منذ نصف قرن . إن هذا الأخ السوري قد حدد عملياً طرفي المعادلة السياسية في الجمهورية العربية السورية  بـ (نحن / الأكثرية) ،  و( هم / الأقليا ت ) ، وهي معادلة  ـ حسب رؤيتنا ـ غير دقيقة ، بل وتفتقر إلى الصحة والموضوعية .

لقد سمحت لي ثمانينات عمري ، وتجربتي السياسية والحزبية السابقة ، أن ألفت نظر هذا الأخ السوري ، إلى أن استخدامه لضمير ال " نحن " مقابل ضمير ال " هم " في توصيفه للحالة السورية الراهنة ، إنما ينطوي بحد ذاته على جرثومة عدم التسامح ، بل والتعصب الطائفي أيضاً ، وهو الفخ الذي طالما حاول نظام عائلة الأسد الحاكمة جر الثورة السورية إليه ، ليس فقط بعد 15/ 18آذار 2011 ، وإنما ـ واقعياً ـ منذ 1970 .

إنني مع إدانتي لتلك الطروحات المتسرعة التي باتت تقسم مجتمعنا السوري ، بل ومجتمعاتنا العربية كلها إلى ( نحن و هم / أكثرية وأقلية ) ، فلا بد من الإعتراف بأن مسؤولية زرع هذه الجرثومة ، في المجتمع السوري  ، إنما تقع على عاتق كل من الأحزاب العلمانية والدينية التي تشكلت سواء خلال المرحلةالاستعمارية ، أو المرحلة الاستقلالية ، على حد سواء ، وذلك من حيث أن التركيب الديموغرافي والاجتماعي لهذه الأحزاب بنوعيها ، لم يكن يعكس التركيب الاجتماعي للمجتمع السوري ، لاعلى أساس ريفي حضري ، ولا على أساس المكونات الثقافية والاجتماعية الأخرى ، بل إن كلاً من الأبعاد الطائفي و الديني والقومي والاشتراكي  قد تداخلت وتشابكت في بنية وبالتالي في مسيرة هذه الأحزاب. 

إن هذا يعني عملياً ، أن كلاًّ من ال " نحن " وال "هم " التي نسمعها ونشاهدها اليوم ، إنما هما معاً من صنع بعضهما بعضاً  ، أي أن طائفية الأكثرية هي عملياً من صنع طائفية الأقلية ، أمّا طائفية الأقلية فهي ، من جهة الابن الشرعي للنسب المئوية التي ينقسم إليها ـ موضوعياً وإحصائياً ـ المجتمع السوري ، ومن جهة أخرى هي من صنع   " الأكثرية " التي انتقلت من حالة الحزب الدعوي ، إلى حالة الحزب السياسي !، متجاوزة مبدأ " المواطنة " الذي صهر ويصهر الجميع في بوتقة الجغرافيا والتاريخ .

يرتأي البعض أن مبدأ " المواطنة " هي الحل للأزمة السورية ، وخاصة عندما يتم تلقيح هذه المواطنة بالعلمانية  ، وبالذهاب بهما معاً إلى صندوق الاقتراع . نعم إن  مبدأ المواطنة وفق المواصفات السابقة ( مثلث المواطنة ، العلمانية ، صندوق الإقتراع )، يمكن أن يكون هوالحل للأزمة السورية ، ولكن فقط عندما تضمرإلى حدها الأدنى ، إن لم نقل تتلاشى ، مادعاه عبد الرحمن بن خلدون ب " العصبية " ، و مادعاه فرانسيس بيكون ب " الأوثان الإجتماعية " ولاسيما أوثان القبلية والتعصب القومي والتعصب الديني والطائفية والجهوية ، ويصبح بالإمكان الوصول إلى انتخابات  واستفتاءات نزيهة وشفافة ، بعيدة عن التزوير المباشر وغير المباشر ، عبر " ديموقراطية " غير مشروطة  قادرة على تصحيح نفسها بنفسها، في إطار الحد الأدنى من الحرية الفردية والاجتماعية

، وعلى مختلف المستويات ، إنها الحرية التي جسدتها في الماضي صيحة عمر الفاروق في وجه عمرو بن العاص :  (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً ) ، والتي تجسدها اليوم دماء ربع مليون شهيد سوري ، استشهدوا وهم يهتفون بأعلى أصواتهم " الشعب يريد إسقاط النظام " . 

إن النظام الذي تريد ثورة آذار إسقاطه ( والكلام موجه هنا إلى كل من الأقلية والأكثرية على حد سواء ) ، ليس هو نظام هذه الأقلية أو تلك ، إنما هو النظام الديكتاتوري  ـ العسكري ـ الأسدي ـ الفاشي ، الذي تدك براميله وصواريخه وطائراته حرية وكرامة المواطنين السوريين بمختلف طوائفهم وإثنياتهم ومناطقهم ، والذين(باستثناء شبيحة النظام الأسدي ومرتزقته ) ،إنما يدخلون جميعاً تحت الضمير المنفصل " نحن " ، أي نحن الشعب السوري العظيم .

لقد استمعنا يوم أمس ( 28.04.2014 ) إلى أن بشار الأسد قد صمَّ آذانه عن سماع هتاف هؤلاء الشهداء ، ورشح نفسه إلى ولاية ثالثة في سورية ، إنها الحماقة بشحمها ولحمها ، بل إنها قلة الشرف وغياب الخجل .

إن الأيام القادمة هي التي ستريك أيها المتلطّي تحت عباءة " الطائفية "، وتحت عباءة السكوت على احتلال الجولان منذ 1967 ، كيف ستهزم دماء شهدائنا ، صواريخك وبراميلك ، وصواريخ وبراميل من يحميك ومن قاتل و يقاتل معك ، واعلم أنه إذا كان للباطل جولة ، فإن للحق جولات  ، وإن النصر كان دائماً وأبداً حليف الشعوب ، وليس القتلة والمجرمين والسفاحين.