العصيان المدني، الحق المسكوت عنه

مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات

 جٌبل الإنسان منذ نعومة أظافره على طاعة من يلي أمره ويمتلك مفاتيح السطوة والتأثير في مصيره، حتى غدت هذه الطاعة ثقافة أزلية طافية على وجه جميع المجتمعات الإنسانية بدرجات تتفاوت بحسب درجة تحضر هذه المجتمعات واقتراب قوانينها وسلطاتها من ضفاف الحرية والكرامة الإنسانية، وبالمثل فهي (أي الطاعة) صمام أمان لضمان استقرار المجتمع وحكم القانون والسلطات القائمة على أمره بما يضمن –بالنتيجة النهائية وبدرجات متباينة- حقوق الأفراد وحرياتهم؛ فبحسب نظرية الدولة السائدة في الوقت الحاضر في مجتمعاتنا، تُعَد طاعةُ المواطنين لقانون الأكثرية أحد أركان الديموقراطية"(1).

 وبمقدار ما يؤدي القانونُ وظيفتَه في خدمة العدالة، يستحق احترامَ المواطنين وطاعتَهم، ومن الطبيعي أن تأخذ السلطات العليا بشرعية القانون لضمان طاعة الأفراد له ولها، هذه الشرعية التي يمكن الإتيان ببطلانها متى ما تجاوزت هذه السلطات ذلك القانون أو صيرته أداة للقمع وتحقيق المصالح الذاتية على حساب المصلحة العامة الساندة لشرعية النظام برمته؛ ليكون العصيان وفقا لهذا المسار وسيلة لتقويم خط العدالة.

 وبين خطي الطاعة والعصيان يبحث الأفراد يبحث الأفراد عن حقوقهم ومصالحهم –بقطع النظر عن شرعيتها- حتى إذا انقطع حبل الأمل بالعدالة وتطاولت السلطات على القانون أو حقوق الأفراد، جنحوا إلى خط المقاومة والعصيان - بدرجات تتفاوت بحسب نمط القيم السائدة في المجتمع واستجابة النظام لمطالبهم، معلنين عن ظلاماتهم وإدانتهم للنظام القائم ولانتهاكاته المستمرة لحقوقهم بأساليب مختلفة -بقطع النظر عن شرعيتها– حتى يصلوا إلى مرحلة رفع لواء (العصيان المدني) سبيلا لإدراك تلك الحقوق أو الاحتجاج على تجاوزات السلطة القائمة على حدود القانون.

 وبكل الأحوال فان اللجوء إلى هذا الأسلوب السلمي المدني من العصيان يكون بعد أن يستنفذ الأفراد جل وسائلهم المشروعة عند المطالبة بحقوقهم، لاسيما إذا حظيت بتأييد الرأي العام لها، في مقابل تعنّت السلطات وعدم استجابتها لهم؛ فهو إذن اسلوب وخيار يؤخر بين حزمة راجحة من خيارات ووسائل المقاومة الشعبية لطغيان السلطة وتعسفها، ويغلب على هذا الخيار (أي العصيان المدني) الطابع السياسي بالنظر إلى الجهة التي يناشدها والغاية التي يرنو إليها، مثلما يستدعي تأييدا من الرأي العام وقطاعات واسعة من الشعب بوصفه مبادرة جماعية منظمة تقوم على تحرك المجتمع في قطاعاته كافة وبمبادرة الأحزاب المعارضة والمنظمات الأهلية لتعبر عن مطالبها الاجتماعية والسياسية بعد فشل النظام السياسي في الاستجابة لها أو التعامل معها.

 تأريخياً نجد الأصول الأولى لممارسة العصيان المدني بالمعنى المعاصر للمفهوم في الموقف الذي اتخذه الشعب المصري من سلطات الاحتلال البريطاني عام 1919 طلبا للحرية والاستقلال التام، حتى أثمر ذلك الموقف البطولي عن منح بريطانيا لمصر صك الاستقلال غير القابل للصرف في فبراير عام 1922"(2)، وكذا يمكن توصيف الموقف الذي اتخذه الشعب العراقي من الانتخابات التي دعى إليها الاحتلال البريطاني إبان تأسيس الدولة وصياغة الدستور الأول للبلاد كشكل من أشكال العصيان المدني الذي وجد تجسيده الرائع في الموقف الذي اتخذه المهاتما غاندي في الهند من البريطانيين ووجدت صداها لدى جموع الشعب الهندي حتى تحقق الاستقلال لهذا البلد عام 1947.

 وعلى غرار ذلك خاض الشعب الجنوب أفريقي نضاله السلمي ضد الحكم العنصري في بريتوريا بقيادة رمز النضال والتحرر نيلسون مانديلا الذي خاض أروع ملامح العصيان المدني في التاريخ المعاصر حتى تكلل هذا النضال بالنصر على الحكومة العنصرية.

 وإذا كان العصيان من حيث المبتدأ يعد من منظور الشرع والقانون ومنظومته السلطوية (الخطيئة) أو ( الجرم ) الموجب للعقوبة والقصاص بحساب دوافع الجرم ودرجة جنوحه عن مدار المشروعية والضرر الناجم عنه. فان العصيان بوجهه المدني والمعبر عنه بـ"عصيان الفرد للقانون وطاعته له في آن واحد"، يعد من أرقى صور الاحتجاج والمقاومة والتمرد إذا التزم بسلميته وطابعه الحضاري وحقق المنشود منه بعد تأييد الجماهير لشرعية مطالبه.

 وفي نطاق مفهوم العصيان المدني ومن مكنونه، نستخلص العناصر الآتية:

1) نشاط إنساني محركه ومحوره الشعب أو فئات واسعة منه.

2) التعبير السلمي والسلبي عن الرفض هو الاسلوب والأداة له.

3) التغيير والاستجابة للمطالب هو الهدف.

وبالتحري عن مدى شرعية العصيان المدني في نظر الشرع والقانون، لوجدنا قبولاً نسبيا ومشروطا لهذا النوع من العصيان في مجال الشرع بوصفه وسيلة متحضرة لمواجهة الظلم والاستبداد تؤدي وظيفة مهمة في مجال تقليل الاستبداد ومنعه، يجوز استخدامها، ما لم يحرمها نص، طالما إن الأصل في الأشياء الإباحة من وجهة نظر الشرع، والدليل على الجواز ينهض من قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان)، فدليل إنكار القلب مقاطعة الحاكم الظالم وحكومته ونظامه وعدم الاعتراف به وبالتالي سحب الثقة عنه.

 وعند الرجوع إلى محراب القانون ببعديه الدولي والوطني للتحري عن مدى شرعية العصيان المدني، فلا نجد سندا راجحا لتأييد شرعيته، سواء في المواثيق الدولية أو التشريعات الوطنية، رغم إقرارها بشرعية التظاهر والإضراب بوجه عام؛ فهي لم تعترف بان اللجوء إلى العصيان المدني –بشكل مطلق- يعد سياسة مشروعه كحجة لانتهاك التشريعات والقوانين التي سنتها حكومة شرعية منتخبة،. والاستثناء بالإباحة الذي ورد في المواثيق الدولية والوطنية على هذا الأصل العام، فمجاله جواز العصيان المدني إذا وقع في سياق مقاومة المحتل وطلبا للاستقلال.

 غير إن ما يخفف من غلواء هذا التشديد القانوني على عدم شرعية فعل العصيان المدني ويقدم العزاء لطالبي الشرعية فيه من فقهاء القانون مرده الشرعية الواقعية التي يضفيها جموع القائمين بالعصيان بوصفهم أصحاب السلطة التأسيسية ومصدر كل السلطات عبر مطالبتهم بمبادئ عليا، قد تنتمي في موضوعها إلى الفكرة القانونية التي قام عليها البناء الدستوري فتستمد شرعيتها منه متفوقةً بذلك على الفعل المخالف للقانون (أي العصيان المدني)، فتكون ضمانة غير رسمية لتطبيق قواعد الدستور وتدعيم شريعة النظام القائم.

 ولكي لا يتحول العصيان المدني إلى منطقة محظورة من الفوضى الهدامة أو ينتهج سبيل العنف المسلح أو حتى يجنح إلى الإرهاب الدموي المنسلخ عن كل اعتبارات شرعية أو إنسانية تفضي بمآلها إلى التفريط بجوهر المطالب التي قام عليها، يستلزم أن يتقيد هذا النشاط الجمعي بجملة من الضوابط والشروط هي الآتي:

1- تحقق عنصر الضرر المجحف من جانب صاحب السلطة على صاحب المبادرة بالعصيان.

2- استنفاذ الطرف المبادر بالعصيان كل وسائل التعبير عن الرفض للتجاوزات الحاصلة من جانب السلطة على حقوقه وعدم استجابتها لمطالبه.

3- توافر درجة رفيعة من النضج الحضاري للشعب والتأييد الجماهيري ومساندة الرأي العام لهذا النشاط الجمعي ومطالبه.

4- توافر غطاء قانوني أو شرعي لهذا المسلك من العصيان وللمطالب التي يتبناها.

5- اعتماد الاسلوب الحضاري والسلمي عند التعبير عن المواقف والمطالب باستخدام اسلوب العصيان والابتعاد عن التصادم المسلح مع الطرف المعارض للعصيان.

6- احترام حق الطرف الآخر (السلطة ومواليها ) في التعبير عن رفضه لأسباب العصيان.

7- الابتعاد عن كل ما يسئ للنظام العام والهوية الوطنية والأخلاق والتقاليد المرعية أو ما يسبب بالضرر المادي والمعنوي للآخرين.

 وعند الوقوف على بيان صور العصيان المدني، يتجلى لنا من أمره وجهان بحساب النطاق والغاية، إذ قد يكون العصيان المدني شاملاً في نطاقه إذا ما توافق على المشاركة فيه الشعب أو شريحة واسعة منه، ومن ذلك على سبيل المثال خروج المعارضين بشكل جمعي، وفي أوقات محددة، لإجبار السلطات الحاكمة على الانصياع لمطالبهم. أو برفض الموظفين والعمال والطلبة الذهاب إلى دوائرهم وسائر مؤسسات الدولة؛ مع إغلاق كل الأسواق والمحلات التجارية والأفران أو جلوس المعتصمين على أرصفة الشوارع بهدوء مع حمل لافتات تعبر عن مطالبهم، أو شاملا بمقاصده إذا رام التغيير الشامل في بنية النظام القائم أو متبنياته.

 على الوجه الآخر يكون العصيان المدني محدد بنطاق المشاركين فيه أو بالغايات التي ينشدها والتي لا تخرج بكل الأحوال عن المطالبة بأمر ما أو إلغاء أمر كان قائماً؛ كأن يقوم مستخدمو الخط الحديدي بتعطيل القطارات بتنظيمهم اعتصاما على سكة الحديد، لا لتعديل القانون الذي يُحرم عرقلةَ السير على الطريق العام، بل لتغيير في سياسة السكك الحديدية التي يعترضون عليها. فإذا تمت ملاحقتهم قضائيًّا على جنحتهم – وهو ما يتمنونه على الأرجح فإنهم سيجعلون عندئذٍ من المحكمة منبرًا يُشهِدون منه الرأيَ العام على صواب قضيتهم"(3).

صفوة القول وملاذه، أن العصيان المدني ما هو إلا حلقة متطورة من حلقات النضج الحضاري الذي بلغته الأمم في سياق لغة الحوار والتفاعل بين أصحاب السلطة والمتضررين من شرورها، ووسيلة متطورة التحقت حديثاً بركب النضال الإنساني ضد الطغيان بعد أن تستغلق سبل الحوار ويستعصى الحل وتنعدم الاستجابة وتعجز الحناجر عن إدراك المطالب حتى تترسخ القناعة بجدوى اللجوء إلى هذا الخيار من المقاومة السلمية بقطع النظر عن مدى شرعيته، كونه يعد وسيلة للضغط السياسي أكثر من كونها مكنة قانونية كفلها الدستور لضمان الحقوق وتأمين المصالح.