عالمنا الإسلامي اليوم: متن رؤية بانورامية

محمد أمير ناشر النعم

من منّا يُنكر على عالمنا الإسلامي اليوم تطوّره الرهيب ؟ ومن منّا يُماري في ذلك ويجادل ؟

ألم يَثبُت أمام الدنيا بأسرها أنه تدرّج وتطوّر من حال الصياح والصراخ إلى مقام الشهيق والزعيق، وأن عواصفه تجمّعت وتكاثرت فضربت كل الأصقاع والبقاع، وأطفأت مرة واحدة كل النور في فكره، واجتثت كل الرحمة من قلبه، ورفعت كل البركة عن سعيه وحركته...

فإن لاحت أمامه فرصة نافعة اغتنمها وحوَّلها إلى مهزلة، وإن تبدَّت لديه فكرة خاطئة تبنّاها حاكمة ومهيمنة.

المُفرطون في التشنج من (متطرِّفيه) رقصوا وقصفوا في ساحات كرنفال الفوضى الفكرية، وخرجوا على الدنيا بمواهب ضئيلة وبكراهية هائلة أسموها قسراً (جهاداً)، وما هي بجهاد، ولكن خلطةٌ من الكبرياء والنَّزق ومتعة الاعتداء والإيذاء.

أما المفرطون في الاحتشام من (معتدليه) فغرقوا في مقاعدهم متفرجين ومندهشين، وقد سيطر عليهم خَدَرٌ وخَفَر، ثم اعتدلوا فتنزهوا عن الدماء، واكتفوا بالتنابذ بالألقاب.

على أن الحدود الفاصلة ما بين (متطرِّفيه) و(معتدليه) مُحِقت تماماً حين جمعت بينهم آصرة (الطائفة) التي تشكل عالمهم الحقيقي وانتماءهم النهائي، فإذا بعقولهم تصبح عقلاً واحداً، يَصحُّ أن نطلق عليه من فَرْطِ صغره أنه الجزء الذي لا يتجزأ، فلا تَراهم إلا متفقين متوازرين على إساءة فهم كل الأقوال والأفكار والأفعال للطوائف الأخرى، بل ومجتمعين مُتَّحِدين في إصاخة السمع لكل الإشاعات القريبة والبعيدة والقادمة من كل فجّ عميق إذا كانت تمس الطوائف الأخرى، بل ومتعاضدين متكاتفين في المنازعة مع الطوائف الأخرى كرمى الألفاظ، وكرمى ما شئت من شيء بعد، بل ومتربصين مترصدين كصيادٍ صبور بالطوائف الأخرى، يعاقبونهم على الخطأ والهفوة أشد من عقوبتهم أنفسهم على التوخّي والإصرار.

طوائف وطوائف... ولا حوار بين (متطرفيها)، بل صمت مُضجِرٌ ثقيل، وإذا ما قُطع الصمت بفضل (معتدليها) فبحديثٍ أضجر منه وأثقل، فكل طائفة تُداجي على النَّغَل والبغضاء الطائفةَ الأخرى، وتدَّرع الحقد والشحناء في مواجهة الطائفة الأخرى، وتبني تصوراتها ومواقفها على ردّات فعل نابعة من شكوك وتخرّصات، من دون أن تبادر أو تفكر في أن تبادر لتستأصل أجمة شكوكها بيدها لا بيد غرمائها.

إذن: من منّا يُنكر أنّ عالمنا هذا بحاجة إلى يد تتداركه بالعون وبالنجدة وبالإنعاش؟ يد تكون من أولى مهامها:

أولاً: أن تخطّ وصفاً صادقاً لما آل إليه حال هذا العالم، الذي لم يَسقط بغتة، ولكنه ينزلق نحو الأسفل شيئاً فشيئاً، فيقذف بأطرافه في كل ناحية كالمخنوق، وتتساوى في ذلك دوله الغنية التي أبطرها دوام الكفاية، ودوله الفقيرة التي أضغنها البؤس ونهكها الحرمان.

ثانياً: أن تساعده على التوقيع والإقرار بحصيلة هذا الوصف الصادق، علّها تنتشله من ساح الغرور والتبجح والمكابرة والمعاندة والمناكدة واللَّجاجة، إلى ساح التواضع والاعتراف والإنصاف والأريحية، لأن الكبرياء التي تتلبس عالمنا الإسلامي تجعل عينه حولاء فيتجاهل ما لا يريد رؤيته بكل يسر وارتياح، بل ولا يعترف به ولا يُقِرّه، وهو وإن تلقى العبر والإشارات فهو لا يفهمها، ولا يُتعِب نفسه في تحصيل معناها، وإن فعل نسيها في اللحظة ذاتها، وما حروب الخليج الأولى فالثانية فالثالثة عنّا ببعيدة، وما كانت عبَرها ورسائلها وإشاراتها بمُستَغلِقة أوعصية، ولكنه لم يتحملها ولم يقرأها.... (واليوم نحن على أعتاب حرب رابعة).

قبل نصف قرن دعانا طه حسين إلى التلمذة على أوروبا فاشمأزّت قلوبنا، واكفهرَّت وجوهنا، وأبينا وجمحنا واستكبرنا، وها نحن اليوم مدعوون إلى التلمذة الصادقة على كل العوالم الأخرى، وإلا فسنحمل أوزاراً فوق أوزارنا، وسنقع صرعى تحت كَلْكَل حقوق ومطاليب جديدة تَبْهَظُنا، وأحوال ووضعيات غير معهودة تفدحنا.

ثالثاً: أن تعيد هذه اليد رسم مصطلحات تسومنا سوء العذاب، وتجثم عبئاً ثقيلاً على وجودنا، مصطلحات دخلت في دوامة الاختلاط، فتقطعت فيما بينها علائقها، وتلطخت صورها ومضامينها، فتكسر بعضها فوق بعض، ولُعِن بعضها من قِبَل بعض، من (جهاد) و(إرهاب) و(اعتدال) و(مقاومة) و(سلام) و(تطرف) ووو... ونحن مُطالَبون بهذا الرسم والتعريف لأن صلاح أمرنا موصول بصلاح فهمنا لهذه المصطلحات، ومرهون بمدى ضبطها وتقييدها بضوابط العدل وموازين النَّصَفة، ومربوط بتحديد مساراتها، لكيلا تختلط ببعضها، تحديداً لا يقبل المساومة، ولا يخضع للانفعال، فـ (الجهاد) لا يُبرر المضي فُرُطاً في الاعتداء، و(المقاومة) لا تُسوِّغ أن نَستكِنَّ في عباءة المضرَّة، و(الاعتدال) لا يعني بأي حال من الأحوال تمييعاً أو تفريطاً، غير أننا اليوم باسم (السلام) خنعنا واستسلمنا، وباسم (الجهاد) تجاوزنا واعتدينا، وباسم (الاعتدال) عن العدل عدلنا، وباسم (المقاومة) تفردنا واستأثرنا، ثم تجاوزنا وأجرمنا.

نعم.... لقد بات حال عالمنا الإسلامي اليوم مكشوفاً أمام سائر العالم، ولكنه مُعمَّىً علينا بإرادتنا واختيارنا. حال يلخصه قول شاعرنا:

رُبَّ قوم قد أناخوا عيسهم ...... في ذرى مجدهم حين بسق

سكتَ الدهر زمانـاً عنهم ...... ثـم  أبكاهم  دمـاً  حين  نطق

وسوم: العدد 724