جهاد العمارين سفينة المضطهدين في بحر الحيتان

د. رائد حسين حسنين

clip_image002_af7e2.jpg

تمر علينا الذكرى السنوية لاستشهاد القائد جهاد العمارين ونجل أخته الشهيد وائل النمرة ، ونحن في حالة خرقاء ننحدر فيها من قمم الأفراح الجميلة بغتةً إلى الوديان المظلمة ، وتفاجأت بأن الزمن قذف بي إلى يوم 4/7/2002م يوم استشهادهما، كم كان رحيلهما عصيباً علينا، فمنذ تلك اللحظة جرت مياه كثيرة في نهر الحياة، حيث أخذتني التساؤلات إلى فضاءات كثيرةً كنت أهرب منها، قولوا لي لماذا الثوريون يُقتلون بينما يبقى اللصوص والقتلة؟ لماذا التضحية بالحياة ما دام الانسان لا يحصد غير الموت والألم في النهاية؟، آه...آه يا جهاد  آه.. آه.. لقد اقتسموا لحم الوطن وشحمه وجماله وأفراحه، ورموا للفقراء وأبناء الشهداء النفايات والعظام والمرارة.

خمسة عشر عاماً على رحيل رجل رقيق، عذب الحديث، وأنت تراه لأول وهلة ترى قائداً انساناً، عندما يضحك كأن الورد جالس على وجنتيه، هذا القائد العاشق لشعبه ووطنه، عاش التجربة الهزيلة للخط السلمي التي أدت بالثورة إلى الكارثة، وقدم دمه كوثيقة نظرية تؤكد على استبدال المسار السياسي بالكفاح المسلح والانطلاق صوب فلسطين، ودعا القيادة السياسية لأن تكون طليعة هذا الكفاح، واعتمد على الرجال المخلصين دون إهمال أحد، مشيراً بذلك إلى ضرورة الوحدة للفصائل الكفاحية وإشراكها في العمل المسلح والانتباه إلى الثورة وليس السلطة، لقد ظهر في تلك الحقبة الفاصلة من عقال الزمن، قادها تحليله العبقري المطعَّم والمشمول بالانخراط في تثوير الداخل، يحمل في داخله قلب طفل وصرخة نمرٍ متقدمٍ في حقل ألغام، على كتفه بندقيته، وفوق جسده كفن أبيض، كان مزيجاً بين الإنسان الثوري والإنسان العاطفي، كان نادراً وعظيماً، كان حميماً وقريباً من كل إنسان يعرفه، كان واضحاً بأنه يُعد نفسه للقيام بأعمال عظيمة، ليس كفرد إنما كإنسان جماهيري يحب شعبه حتى الاستشهاد، يُعيد الأشياء إلى أصلها، ثم يبدأ بالامتداد كالجذور في أعماق الأرض، انتقل من المماحكة إلى الفعل النوعي، شكل بؤراً ثوريةً قتاليةً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في تلك اللحظة الحرجة من الزمن على امتداد الوطن في غزة والضفة والداخل المحتل عام 1948م، معلناً بأنها اللحظة الحاسمة، هي معركةٌ قبل كل شيء، موتٌ أو حياة، كان الزمن آنذاك زمنيين، والبشر داهمتهم صاعقةٌ، فانقسموا، ثم تاهوا كالقطعان المفاجَأة بالذئاب، إلا أن جهاد الممتلئةٌ خلاياه بأشعة الحلم، وأساطير جده القديم عن العنقاء، تقدم الصفوف شاهراً سيف العدالة والمساواة والحب بعد انتشار الجور والفساد، مزلزلاً قناعات السنوات الراسخة في الدم بأن الأوان قد حان، لتنقية الدم من الجراثيم، وأنه لا تعايش مع الاحتلال، وقد شكل النواة الأولى كصخرةٍ صلبةٍ تمتد فيما بعد لتشكل جزراً في أعماق هذا الزمن، ثوارٌ أينما هبطوا يوقدون النار ليردوا الظلمة الهابطة من حنايا الزمن.

أيها القائد العظيم جهاد بالرغم من كل الترهات التي حلت بالثورة، وتسلل الرماد إلى أعماقنا، إلا أنني مدرك تماماً بأن هذا الرماد وهّم، وتحت هذا الرماد جمر، أحسّه ينبض، فإني أشتم رائحتها كرائحة العشب في يومٍ مشمس، ورائحة دماء الشهداء الممزوجة بالمسك والعنبر و ورق الغار، وأرددها بأعلى الصوت: بأننا على ذات الدرب ما دام الجوهر أصيلاً، فالصدأ سيزول بالصقل، ونعاهدك ونعاهد كل الشهداء بأن نبني بيتاً يتحدى الإعصار، فالشجرة قبل أن تموت ترمى بذارها في الأرض. 

وسوم: العدد 728