نماذج من الممارسات الإدارية والحزبية المنحرفة التي انتقدها خطاب العرش (الحلقة الأولى الخاصة بالإدارة)

لا زال الرأي العام المغربي يتداول مضمون خطاب العرش خصوصا النقد الذي وجه لبعض المسؤولين في الإدارة العمومية وللأحزاب السياسية . وتلتقي نظرة العرش مع نظرة الشعب بخصوص  إدانة بعض تلك الممارسات الإدارية والحزبية والسياسية  المنحرفة التي  تصدر عن أشخاص وهيئات . وما كاد خطاب العرش يزيح النقاب عن بعض تلك الممارسات حتى انطلق الناس في أحاديث مستفيضة عنها انطلاقا من واقعهم المعيش ومن حالات عاينونها أو لا زالوا يعاينونها .

 ومن نماذج تلك الممارسات في المجال الإداري أن يتعامل المسؤول في الإدارة العمومية وكأنه  سيد أو رب  معمل أو ضيعة ومن يعمل معه  ومن يتعامل معه مجرد أقنان عليهم أن يظهروا له الطاعة العمياء في كل ما يصدر عنه ، ولا يصدر عنه في الغالب إلا الممارسات المنحرفة والخارجة عن إطار ما ينص عنه القانون، وإن حاول نسبتها تعسفا للقانون تتبرأ منها  هذا الأخير . وهذه العقلية تجعل المسؤول متكبرا مستعليا يرى من حوله مجرد حشرات ويحرص على إظهار الصرامة والغلظة في القول ، ولا يتورع عن استخدام أساليب الوعيد والتهديد ، ولا يجد غضاضة في استعمال أساليب الشتم والسباب ، وقد ينحدر إلى الأساليب الساقطة مع صغار موظفيه ومع المواطنين  أيضا ، وهو يعتبر كل ذلك من مقتضيات المسؤولية المنوطة به . وهو آخر من يلتحق بمقر عمله ويجد لذة في انتظار المواطنين له في طوابير طويلة الشيء الذي يوفر له فرصة إظهار جبروته فيصب جام غضبه على بوابه أوشاوشه ، وينهال عليه بالتقريع ثم يلتفت إلى طوابير المنتظرين منذ أول ساعة العمل ليصف انتظارهم بالفوضى ويصفهم بأقبح  وأقذع النعوت، فهم في نظره  بانتظارهم  جهال بالقانون  بل مجرد بهائم لا يعرفون أدب ارتياد الإدارات. ويدخل مكتبه الذي تكون المكيفات قد لطفت جوه  قبل أن يغادر فراشه ،ويوصد عليه الباب ثم يضغط على زر جرسه ليهرول الحارس أو الشاوش أو البواب إليه منحنيا، فيسمع للمسؤول زئير وزمجرة يخرج البواب على إثر ذلك أشد انحناء  مما دخل بدبره  ثم يلتفت إلى طوابير المنتظرين يلومهم لأنهم تسببوا له في توبيخ أو " تمرميدة " و لا داعي لشرح دلالة  هذه الكلمة  المعربة والمقتبسة من لغة المحتل الساقطة ، ثم يزف إليهم خبر عدم استعداد المسؤول لاستقبالهم لأنه غارق في الشغل  أو لأنه سيجتمع برؤساء أقسامه ومصالحه ومكاتبه وأنه لا وقت لديه ليضيعه مع المواطنين الذين يعود لأغلبهم أدراجه يجتر  مرارة خيبة الأمل في لقاء المسؤول  ، بينما يصر البعض الآخر على الرباط أمام إدارته، وقد طردوا من أمام مكتب سيادة المسؤول الغاضب والمزمجر . وقد يطلب لقاءه سيد محترم بهيئة تدل على اليسار والوجاهة، فلا يكاد البواب يبلغ المسؤول بحضوره حتى تتغير أسارير وجهه وتنبسط عكس ما كانت عليه حين خرج يخبر طوابير الحاضرين برفض المسؤول استقبالهم ، وقد يعرف من حركات البواب  وقسامة وجهه مكانة الزائر المحترم ذي الوجاهة لدى السيد المسؤول . وقد تحضر سيدة أو آنسة مفعمة بالجمال والرشاقة يفوح عطرها في أرجاء الإدارة ،ولا يكاد البواب يخبر بوقوفها بالباب حتى يخرج السيد المسؤول شخصيا ، ويبدو إنسانا آخر، تعلو وجهه البشاشة والابتسامة العريضة عكس ما واجه به طوابير المنتظرين من عبوس  وتجهم وتقطيب جبين، فتدخل الزائرة الفاتنة المرحب بها  قبل أن يتبعها  المسؤول ويغلّق الأبواب، فيرن جرسه للتو عدة مرات فيهرول البواب ليخرج وهو يردد  عبارة : حاضر سيدي ، ويعود بعض لحظات ومعه نادل يحمل صينية بقهوة وشاي وعصير وربما بقطع حلوى ومناديل وردية ومياه معدنية فيفتح الباب مرة أخرى ليغلق، ويتنهى بعد ذلك من داخل المكتب إلى أسماع المنتظرين حديث  الود والمجاملة ، ولا تخرج السيدة  أو الآنسة  الفاتنة الأنيقة إلا ضاحكة مستبشرة، وتلغي زيارتها الطويلة اللقاء  حتى مع المرؤوسين  ويتعطل الشغل . وقد تطول مكالمات السيد المسؤول ،وكلما سئل بوابه قال بصوت خافت  إن سيادته على الهاتف إنه في محادثة عمل مع المصالح المركزية . وقد يغادر إلى المصالح المركزية راكبا أو طائرا أو نائما على فراش القاطرة فإذا سأل سائل عنه قيل إنه في العاصمة في زيارة عمل أو إنه خارج الوطن ولن يعود إلا بعد مدة تزيد الزوار المنتظرين يأسا وخيبة أمل . وقد يبدو هذا المسؤول على شاشة التلفزة يتكلف الفصاحة إن تكلم بالعربية وهو لا يبالي بهفواته الصرفية والنحوية وذلك من كبريائه حين يتكلم لغة القرآن التي لا يرى عيبا في عدم إجادة التعبير بها بل يرى ذلك من علامات الرفعة ، وغالبا ما يتحدث بلغة المحتل ، وهو يحلكي أصحابها في لثغتهم  وحركات شفاههم ليبدو فصيحا ، ولأن الحديث بلغة محتل الأمس هو الذي يفصله عن أبناء الشعب ويميزه عنهم  ، ويضعه مع الطبقة الراقية في أعلى درجات  السلم الاجتماعي ، وحاله لا يختلف عن حال محتل الأمس كبرياء بل قد يفوقه كبرياء كما يشهد بذلك شهود حقبة الاحتلال . وتعتبر سيارة  سيادة المسؤول  التي تحمل حرف الميم باللون الحمر المركب الذلول للزوجة والأبناء المدللين تتردد بين مؤسسات تعليمهم الخصوصي ومقر عمل الزوجة أو بين حمامها المفضل وصالون حلاقتها حيث تصفف شعرها وتتزين  وقاعة رياضتها  حيث تتريض للمحافظة على رشاقة جسمها لتكون في مستوى مكانة زوجها السيد المسؤول المحترم . وتمر سيارة السيد المسؤول المحترم فتفسح لها  كل الطرق  والممرات شرطة المرور، فلا تكاد تمر حتى تنطلق صفارات الشرطة مدوية  تنذر المارة والركاب بمرورها وتتابعها عيون المارة لكثرة ما أحدثته تلك الصفارات من جلبة وضجيج .والويل والثبور وعواقب المور لمن  سولت له نفسه عرقل سير سيارة المسؤول المحترم راجلا كان أم راكبا  فقد  تسلب من المعرقل  أوراق سيارته وقد تحجز، ويعاقب على ذلك بغرامة  تنزل عليه كالصاعقة ولا ذنب له ولا مخالفة سوى أنه أزعج  السيد المسؤول المحترم وعرقل مسيره الذي لا يمكن أن يعرقل وهو في مهمة  علما بأنه دائما في مهمة سواء كان راكبا أو راجلا أو قائما أو قاعدا أو على جنبه أو مستيقظا أو  قائلا أو نائما أو حتى  مستحملا أو مستجما ... وقد يبدأ السيد المسؤول المحترم عمله بارتياد مقهى رفيعا ليتناول فطور الصباح، وهو عبارة عن أنواع شهية  من المشروبات والمأكولات مما لذ وطاب ثم يدخن سجارة أو سجارتين، وقد يتبادل حديث الود والمجاملة  مع بعض معارفه ، وقد يلقي نظرة على بعض الجرائد التي يجلبها له النادل عند جلوسه في انتظار تلبية طلبه ، وقد يقضي بعض الوقت في تحريك أنامله على بلورة هاتفه المحمول لتتبع ما يتوصل به من نكت جديدة يتندر بها أو قد يجيب على بعض المكالمات، وتكون إجابته بطريقتين لا ثالثة لهما  حيث يستقبل الواحدة منهما هاشا باشا  بينما يستقبل الأخرى عابسا مكشرا ومزمجرا . ولا يلتحق بمقر عمله إلا بعد انصرام الضحى ليصب جام غضبه  بعد ذلك على الطوابير التي تنتظره . ولتجلب له قهوة المكتب  مصحوبة بماء معدني زلال  وكأنه لم يعد للتو من مقهى . وقد يلتحق بمقر عمله قبل ارتياد المقهى في بعض الأحيان ليغادره إلى المقهى ، ومنه إلى بيته أو إلى مطعم فاخر لتناول ما لذ وطاب  في وجبة غذاء دسمة ، و قد يقيل بعد ذلك، وقد لا يعود إلى مقر عمله بعد مغادرته ويترك  خلفه تعليمات مفادها أنه في مهمة  مستدامة ، وبطبيعة الحال لا توجد مهمة أكبر وأهم من نقل الأولاد والزوجة للدراسة والعمل واللهو  أو أكبر من ارتياد المقاهي والمطاعم وأماكن الراحة و الاستجمام ؟  ويعلم الله وحده كم يستهلك  السيد المسؤول المحترم من وقود سيارة، تقله أو ومن طاقة كهربائية تشغل مكيفاته ، أومن صبيب  يحتاجه هاتفه المحمول أو هاتفه القار ؟ والله أعلم بتكاليف تنقله  إلى المصالح المركزية وخارج الوطن  إما جوا أو برا على متن أفخم سيارة أو على متن أفخم عربة نوم في  قطار. و وهو حريص  أشد الحرص على التعجيل بتعبئة مستحقات تنقلاته وهي كثيرة لا حصر لها . ويسكن السيد المسؤول المحترم  في مسكن فخم إما  في ملك الدولة أو تدفع الإدارة إيجاره الشهري، وقد لا يربط  هذا المسكن أصلا بعداد ماء وكهرباء، ولئن ربط لا يبالي المسؤول أبدا  بما يستهلكه من ماء وطاقة ، وهو أفظع استهلاك لأن كل ما في المسكن يحتاج إلى طاقة  وما . ولا يشعر السيد المسؤول بحر أو قر ولا يميز بين صيف وشتاء، وهو في مسكنه تعدّل مناخه المكيفات حرارة وبرودة . ولا يعرف حالة الجو وهو في بيته أوفي سيارته أوفي مكتبه لأنه جو دائم التكييف حسب ذوقه وما يشتهيه . والسيد المسؤول المحترم دائم الترقية وتستحيل في حقه القهقرة التي تحل بصغار موظفيه الذين يتخذ في حقهم أشد القرارات، وينزل بهم أقسى العقوبات . ولا ينجو من بطشه الشديد سوى من يقربهم منه وعلى رأسهم سكرتيرته التي يشترط فيها أن تكون أنيقة وعلى جانب من الحسن والبهاء ، والتي  يفوض لها  جميع القرارات، فيجعلها ذلك ذات صولة وويل لمن شهدت ضده ، وطوبى لمن شهدت له ،وهي ذات شفاعة ووساطة لا ترد ، ولا يجرؤ على مراجعة السيد المسؤول غيرها ولو كانوا رؤساء أقسام أو مصالح. وعندما تستعرض الانجازات في المحافل أو عبر وسائل الإعلام الرسمية يقدمها السيد المسؤول وينسبها لنفسه بضمير الجماعة الدال على العظمة والأبهة والمكانة، ويقرأ على مسامع الحاضرين تقارير يعدها بعض العاملين تحت سلطته و الذين يسهرون الليالي لتدبيجها ،وويل لهم إن لم تخرج في الحلة التي يشتهيها  .ويستأثر السيد المسؤول  بنسبة  كل ما تحقق لنفسه . أما إذا ما سقط القناع عن فضيحة أو سوء تدبير، فيتبرأ منهما براءة إبليس من معاص الخلق يوم الدين ، وويل لمن نسبتا إليه من صغار الموظفين .

هذا غيض من فيض الممارسات المنحرفة  التي تصدر عن بعض مسؤولي الإدارة العمومية  كما أشار إليها خطاب العرش، والتي أجمع العرش والشعب معا على إدانتها ،والتي لن تزول حتى تتغير العقليات والذهنيات ،ويصير المسؤول المحترم عندنا كأمثاله في دول العالم المتقدمة يراقب ويساءل ويحاسب ويمتطي المترو أو سيارته الشخصية أو حتى الدراجة الهوائية  للوصول إلى مقر عمله في تواضع  ، ولا يستعمل وقود الإدارة لتشغيل سيارته الخاصة ، ولا تصطف طوابير المنتظرين أمام مكتبه ، ولا يتخذ بوابا ولا يتناول قهوة أثناء عمله ، وهو أول من يحضر وآخر من ينصرف  ، ويتفقد ويراقب من  يرأسهم ، وتتابع مصالح الضرائب ممتلكاته قبل مزاولة مهامه وبعد تركها . فحين ننتقل من تلك العقلية المستبدة إلى عقلية مسؤولة حق المسؤولية سنخطو أولى الخطوات على نهج الدول المتقدمة التي نطمح أن نلحق بها في يوم من الأيام ،وهيهات أن يتحقق ذلك ما دامت العقليات المستبدة والمتحجرة تسود إداراتنا .ولربما كان خطاب العرش لهذه السنة بداية زحزحة تلك العقليات ، وذلك ما نتمناه .  

نماذج من الممارسات الإدارية والحزبية المنحرفة التي انتقدها خطاب العرش (الحلقة الثانية الخاصة بالإدارة )

ذكرت في مقالي السابق نماذج من ممارسات بعض المسؤولين الإداريين المنحرفة التي التقى العرش مع الشعب في انتقادها كما كشف النقاب عن ذلك خطاب العرش الأخير . وسأحاول في هذا المقال مواصلة الحديث عن الممارسات المنحرفة الخاصة بالموظفين في القطاع العمومي . وفي البداية لا بد من الإشارة إلى أن ممارسات المسؤولين المنحرفة في القطاع العمومي تعتبر عاملا رئيسيا في ممارسات الموظفين المنحرفة . وإذا كان حديث " كما تكونوا يول عليكم " قد ضعفه أهل الحديث ،فإنه  يصح حين يتعلق الأمر بالمسؤولين والموظفين في القطاع العمومي عندنا ، وذلك باعتبار ممارساتهم المنحرفة التي يترتب عنها استشراء الفساد في هذا القطاع، وتعطيل مصالح المواطنين ،الشيء الذي يخلق الاحتقان في الوطن .

 ومن نماذج الممارسات المنحرفة عند  بعض الموظفين في القطاع العمومي على اختلاف السلاليم  التي يرتبون فيها  غياب  ما يسمى بالضمير المهني الحي  حيث ينحصر انتماء الموظف إلى الإدارة في ترقب الحصول على الراتب نهاية كل شهر بغض الطرف عن قيمة هذا الراتب ذلك أن  قيمة بعض الرواتب في القطاع العمومي  هي السبب الرئيس وراء غياب الضمير المهني وسيادة ثقافة الغش والتهاون . وبالرغم من أن الأمر يتعلق بغياب الضمير المهني ، فإن الموظف يموّه على ذلك بالتماس الذرائع  الواهية لتبرير موقفه الذي لا مبرر له ، ويسوق مبرراته في شكل طروحات يتكلف بسطها والإفاضة فيها ، ويتظاهر بحب الوطن والغيرة عليه  بل يتباكى على سوء أحوال الإدارة التي يعمل بها . وتماما كما ينسب المسؤول الفاشل النجاح إليه ، والفشل إلى الموظفين العاملين معه ،ويتبرأ منهم براءة إبليس من ذنوب العباد يوم الدين ، ينسب الموظفون المتهاونون أيضا النجاح إلي أنفسهم، ويصفون أنفسهم بجنود الخفاء الذين يعملون بتفان و نكران ذات ، وفي المقابل يحمّلون المسؤول  عنهم الفشل ويردونه إلى سوء تدبيره. وحين يتعطل الضمير المهني لدى الموظف أول ممارسة تصدر عنه هو محاولة  اختزال وقت عمله في أقل حصة زمنية ممكنة . وقد يبرر ذلك بقيمة الراتب الذي يحصل عليه ، ويرفع شعار " سأعمل حسب قيمة الراتب الذي يصرف لي " ولا يجد حرجا في تقدير زمن عمله  المقابل لما يصرف له، يفعل ذلك دون أن  يشعر بخجل وكأنه يملك المقياس الدقيق الذي لا يأتيه نقصان من بين يديه ولا من خلفه  لقياس العمل والأجر المؤدى عنه . وقد يعمد إلى مقارنات لا تستقيم ،فيقارن ما  يقوم به من عمل في قطاعه بما يقوم به غيره في قطاع آخر وإن اختلف القطاعان واختلفت المهام اختلاف ليل مع نهار . ويدّعي  الموظف المنعدم الضمير المهني أنه وحده الذي يقوم بواجبه على الوجه الأكمل ، وأن غيره متهاون وغشاش ، ويدعي أنه يطعم أولاده اللقمة الحلال، وهو الذي لا تحل له  في الحقيقة سوى لقيمات في اليوم لما يهدره من وقت حين يكون في وظيفته، الشيء الذي  يترتب عنه التهاون  الصارخ في العمل وبذل أدنى وأقل مجهود ممكن . وقد يظل الملف الواحد  والذي يمكن أن يصفى خلال دقائق رهينة لدى الموظف المتهاون لأيام عدة  لا ينفض غبار يديه منه لأنه يجد فيه الذريعة لتضييع الوقت كما تفعل فرق كرة القدم حين تكون مصلحتها في ربح الوقت  ويتوقف لعبها إما  بسبب أعطاب وهمية يدعيها بعض اللاعبين أو بسبب تعمد بقاء الكرة خارج نطاق الملعب أطول مدة ممكنة ،وهو ما يتنبه إليه الحكام  فيلوحون في وجوههم بالبطاقات الصفراء وحتى الحمراء أحيانا . ولو وجد حكام يديرون  لعب الوظيفة العمومية  لأخرجوا من البطاقات ما لم يخرجه حكام لعبة كرة القدم منذ اختراع هذه اللعبة . ومن ممارسات الموظف المتهاون الالتحاق المتأخر بالعمل والانصراف المبكر منه ، وإذا سئل عنه قيل إنه في مهمة خارج الإدارة وسيعود قريبا مع أنه لا يكون  لعودته قرب أبدا في غالب الأحيان. ومن ممارسات الموظف المتهاون كثرة  غيابه برخص نادرا وبدونها غالبا، فهو دائم التمارض ، وإن لم يصرح بمرضه صرح بمرافقة مرضاه  إلى العيادات والمستشفيات. وقد يتعطل عن العمل لأنه لم ينم ليلته حسب ما يدلي به من مبررات  قد تصح نادرا، ولا تصح في معظم الأوقات . ويتوقف عمل الموظف المتهاون على الظروف المناخية، فهو يتغيب إذا أمطرت وإذا اشتد الحر . ويتوقف عمله أيضا على  وسائل النقل العمومية أو الخاصة، فإذا ما تعطلت تعطّل عمله بعطلها . ولا يقبل الموظف المتهاون أن يقدح أحد في مبرراته وذرائعه ، فهو دائما على صواب . ومن ممارسات الموظف المتهاون الاتكال على غيره من الموظفين ، وأشقى الموظفين صاحب الضمير الحي مع زميله من عديم الضمير حيث يلقي إليه بأثقل حمل ، ويحمله عبء مهامه الواجبة عليه ،وفي المقابل يتندر به ويسخر منه ويظن به البلادة والغباء بينما يظن  بنفسه  الشطارة والدهاء والذكاء . والموظف المتهاون يحب أن يحمد بما لم يفعل ،فهو يرفع دائما شعار : " قتلنا الثعبان " وهو لم ير قط ثعبانا . والموظف المتهاون يترقب على الدوام الترقية والتعويض مع أنه لا يوجد داع لترقيته ولا مبرر لتعويضه ، ومن كان مرتبه سحتا لتهاونه ،فتعويضاته تكون أكثر من سحت . والموظف المتهاون يرى دائما أنه لم ينصف وأنه أولى وأجدر بالمسؤولية من مسؤوليه . والموظف المتهاون شغله الشاغل هو الكيد الدائم للموظف الجاد  والبحث عن جرّه إلى عقيدة التهاون التي يتبناها حيث يبدو أحيانا ناصحا له يحذره من آثار العمل المتواصل على صحته وحياته  وعلاقته بأهله وبنيه ، فإن لم  يسمع نصحه عمل جادا على عرقلة عمله ، وحرص على الوشاية الكاذبة به لدى المسؤول خصوصا إذا كان هذا المسؤول من الصنف الذي تحدثت عنه في المقال السابق . ومن مواصفات الموظف المتهاون الحسد والحقد فويل لزميله المواظب  على عمله الجاد والمخلص والمتفاني فيه .  والموظف المتهاون يترقب الإحالة على المعاش في وقت مبكر وقبل أن  تبدو ملامح وقت إحالته عليه بزمن معتبر، وهو يهدد بتقديم استقالته كلما نبّه إلى تهاونه ، وحين يحين موعد معاشه لا يخجل من الفخر ببلائه الحسن في عمله وإخلاصه وتفانيه فيه ، وهو الذي لم يبل  بلاء ، ولم يخلص، ولم يتفان قط. ويحمل الموظف المتهاون فترة عمله مسؤولية ما يصيبه من علل  في آخر مشواره ، والواقع أن علله إنما هي عقاب من الله بسبب غشه وتهاونه . ويحب الموظف المتهاون حين يحال على المعاش أن تكرمه إدارته وزملاؤه في العمل ، وأن يمتدح ولو كان المديح محض كذب وافتراء  يكون على يقين تام منهما ، ويحرص على أن تلتقط له صور وتوثق لحظات تكريمه ، وقد يذرف دموع التماسيح وهو يغادر الوظيفة التي لم يخلص لها قط ، ولا يخجل من ادعاء فضله على الوطن والمواطنين وعلى زملاء العمل ، ويتكلف إسداء  النصح لمن خلّفهم  بعده خصوصا الجدد منهم ، ويقوم بالدعاية لثقافة التهاون التي يعتبرها جديرة بالاقتداء والمحاكاة .

هذا غيض من فيض من نماذج ممارسات الموظف المنعدم الضمير والتي تخرب الوظيفة العمومية ، و تدخل ضمن ما جاء في  نقد خطاب العرش لهذه السنة . ونأمل أن تغيب هذه الممارسات المنحرفة من القطاع العمومي . ولئن كان انضباط العاملين في القطاع الخاص لا يمكن أن يعد  كله إخلاصا في العمل بل  في الغالب  يكون نتيجة  الخوف من المحاسبة و اتقاء للمساس بالجيوب ،ومجرد طمع في الامتيازات، وهو ما لا ننصح بالاقتداء به  أبدا ،فإنه يجدر بالعاملين في القطاع العام أن يخلصوا في عملهم  خوفا من ربهم ،وحبا في وطنهم، وخدمة لمواطنيهم.

نماذج من الممارسات الإدارية والحزبية المنحرفة التي انتقدها خطاب العرش (الحلقة الثالثة الخاصة بالأحزاب ونقاباتها )

تناولت في مقالين سابقين نماذج من ممارسات إدارية منحرفة لدى المسؤولين والموظفين اتفق الشعب والعرش معا على رفضهما وإدانتهما ، وفي هذا المقال سأستعرض نماذج من الممارسات الحزبية والنقابية المنحرفة التي تساهم إلى جانب الممارسات الإدارية المنحرفة في  استفحال الفساد الذي يحول دون تحقيق ما يصبو إليه المغاربة من تطور ونمو ورقي وعيش كريم . وإذا كانت الممارسة الحزبية والنقابية عند الأمم ذات التجارب الديمقراطية المتطورة تلعب دورا في تأطير المواطنين وتوعيتهم سياسيا وخدمتهم وتمثيلهم في المؤسسات البرلمانية والنقابية والدفاع عن مصالحهم وتحقيق تطلعاتهم ، فإن الممارسة الحزبية والنقابية عندنا بعيدة كل البعد عن ذلك لأنها ممارسة منحرفة ، ذلك أن الأحزاب والنقابات عبارة عن تجمعات تستقطب الانتهازيين والوصوليين وتتبنى الانتهازية فلسفة وثقافة . ومما يؤكد ذلك عدد الأحزاب  عندنا التي يبلغ عددها 36 حزبا . فهذا العدد باعتبار ديمغرافية الوطن يعتبر دليلا على تهافت أصحاب الثقافة الانتهازية والوصولية على الممارسة الحزبية . وعندما نقارن عدد الأحزاب عندنا بعدد الأحزاب في بلدان الديمقراطيات المتقدمة لا يسعنا إلا الجزم بتخلفنا في مجال الممارسة الحزبية إذ تكتفي تلك البلدان بحزبين كبيرين يتنافسان  في الانتخابات مع وجود عدد محدود من الأحزاب الصغرى التي قد ترجح كفة أحد الحزبين بينما لا يمكن لحزب مغربي أن يدعي أنه يملك قاعدة شعبية عريضة ، ويكفي أن نستشهد بعدد أصوات الحزب الفائز بأغلبية الأصوات في آخر انتخابات لنحكم على  وضعية باقي الأحزاب التي تلته في الترتيب .. وإذا جمعنا عدد  جميع أصوات الأحزاب المشاركة  في الانتخابات نجد نسبة عدد أصوات العازفين عن الانخراط في الأحزاب تفوق نسبة المنخرطين  فيها  أو المصوتين عليها ، وهذا يكفي للحكم على تعثر الممارسة الحزبية عندنا . وإذا كانت نشأة الأحزاب في المجتمعات الديمقراطية عبارة عن إرادة شعبية ، فإن نشأة الأحزاب عندنا عبارة عن إرادة نظام ،لهذا توجد عندنا أحزاب توصف بأنها أحزاب النظام أو أحزاب المخزن على حد وصف البعض . ومعلوم أن هذه الأحزاب تخلق خلقا من أجل مواجهة أحزاب أخرى لمنعها من استقطاب المواطنين والهيمنة على الوضع السياسي في البلاد . ومعلوم أن بعض الأحزاب عندنا تستمد مشروعيتها مما تسميه إرثا تاريخيا ،ويتعلق الأمر بالأحزاب التي خاضت نضالا ضد المحتل . ولما تحول نضال تلك الأحزاب من مناهضة الاحتلال إلى معارضة النظام لجأ هذا الأخير إلى خلق أحزاب خاصة به لمواجهتها ولخلق وضع سياسي يحميه من سطوة تلك الأحزاب . وظلت أحزاب المخزن تفرخ تحت أسماء مختلفة ولكن لها هدف واحد هو مواجهة الأحزاب المعارضة للنظام . ويؤثر وجود أحزاب المخزن على العمليات الانتخابية التي كانت دائما موضوع طعن عند أحزاب المعارضة ،ذلك أن أحزاب المخزن لا تكاد تظهر حتى تكتسح الساحة السياسية وذلك لإعطاء انطباع بأن الشعب لم يعد يثق في أحزاب المعارضة ، وأنه يلتمس بدائل عنها . وتحرص أحزاب المخزن على إضفاء الشرعية  الشعبية على وجودها ، وذلك باعتماد الدعاية الإعلامية . وتطور الأمر بعد  إلى حد  استدراج النظام أحزاب المعارضة  للمشاركة في الحكم  فيما سمي تناوبا لتحل محلها في المعارضة الأحزاب التي أنشاها  لمواجهتها. وظل النظام يصنع الأحزاب وفق ما يطرأ على المجتمع من تغييرات ووفق ما تمليه الظروف الدولية أيضا ، وهكذا ظهر التوجه الحزبي الإسلامي كرد فعل على التوجهات الحزبية اليسارية ، وظهر بعد ذلك توجه حزبي صنع خصيصا لمواجهة التوجه الحزبي الإسلامي ، وكان هذا التوجه  المصنوع عبارة عن خليط من أتباع أحزاب المعارضة وأتباع  أحزاب المخزن . وهنا لا بد من الإشارة إلى ظاهرة انتقال أتباع الأحزاب من حزب إلى آخر، الشيء الذي يؤكد طغيان ثقافة الانتهازية والوصولية حيث ينتقل  أتباع الأحزاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين والعكس دون شعورهم بأدنى حرج . والانتقال بهذا الشكل يؤكد غياب الإيمان بإيديولوجيات الأحزاب وبرامجها السياسية  والاقتناع بها ، وتبدو الإيديولوجيا الوحيدة المهيمنة هي الانتهازية والوصولية والطمع في الريع . وما قيل عن الأحزاب ينطبق على نقاباتها حيث أصبح الانتماء النقابي متوقفا على الحصول على المنفعة والريع . ولقد لعبت الأحزاب السياسية على اختلاف أطيافها السياسية دورا كبيرا في إفساد المجتمع لأنها بمثابة مطايا يمتطيها الانتهازيون والوصوليون ذلك أنه قد يكون الموظف من الصنف الذي تحدثنا عنه في الحلقة الثانية من نماذج الممارسات الإدارية المنحرفة  متهاونا ، فيلجأ إلى العمل النقابي والحزبي للتمويه على تهاونه  وتقصيره في أداء واجبه ،وسرعان ما يتحول إلى أخطبوطا ويستفيد من امتياز التفرغ للعمل النقابي، فيصير داعية للتهاون والغش  يدافع عن المتهاونين أمثاله ، وهكذا يكرس العمل النقابي فساد الإدارة . وكم من موظف متهاون تحدثه انتهازيته بالحلم بكرسي في البرلمان  طمعا في الريع والامتيازات، فيركب الانتخابات ، ويستفيد من امتياز التفرغ للعمل البرلماني، وينقل تهاونه من الإدارة إلى قبة البرلمان ، ويدفع في اتجاه الدفاع عن التهاون والغش والفساد . ولما كانت ثقافة الانتهازية والوصولية هي التي تحكم المتهافتين على المناصب النقابية وعلى الكراسي البرلمانية ، فإن الذين يصلون إليها يحتجبون عن المواطنين ولا يظهرون إلا مع حلول الانتخابات ليجربوا حظهم من جديد حرصا على مكتسبات الريع التي راكموها . ومعلوم أن الأحزاب  ونقاباتها عندنا يخون  ويتهم بعضها بعضا، الشيء الذي يجعلها جميعا في قفص الاتهام، لأن هدفها واحد وهو الظفر بالريع ، وهذا ما يفسر ظاهرة العزوف عن المشاركة في الانتخابات  خصوصا في أوساط الشباب . وسيادة ثقافة الانتهازية والوصولية تجعل المسؤولين والموظفين في القطاع العمومي يحاكون الأحزاب والنقابات في  السعي وراء الريع على حساب  المصلحة العامة وعلى حساب الوطن  والمواطنين . وإذا كان الانخراط في العمل الحزبي والنقابي يدر ريعا  على أصحابه،  الشيء الذي يعني فساد الممارسة الحزبية والنقابية ،فإن المسؤولين والموظفين في القطاع العمومي يلتمسون أيضا  حظهم من الريع،  الشيء الذي يعني فساد الإدارة العمومية .

ولا بد في الأخير من الإشارة إلى أن ما تضمنه خطاب العرش من نقد للإدارة العمومية والأحزاب ليس أمرا جديدا بالنسبة للشعب بل  الشعب ينتقد دائما هذين الجهتين، وإنما الجديد هو تصريح العرش بذلك رسميا ، وهو تصريح يؤيد الشعب في نقده . ويبدو أن الوقت قد حان لحصول تغيير في الممارسة الوظيفية والممارسة الحزبية والنقابية لتمكين قطار التنمية من الانطلاق بعد مرور زمن طويل على جثومه في محطته دون إقلاع ، وهذا يقتضي إرادة صادقة من الجميع . ومعلوم أن النقد مهما كان مصدره لا يكفي لتغيير الأوضاع بل لا بد من الإجراءات الحاسمة الكفيلة بإحداث ما يجب من تغيير منشود .

وسوم: العدد 732