المألوف، وعكسه

المألوف مفهوم عجيب يمتزج فيه الحلو بالمرَ ، ويجتمع في ظله السلب والإيجاب ، ويتحد معه الخطر بالأمان.

والمألوف ملاصق حتمي ، لاينفك عن الطبيعة البشرية، بل إنه يعمل على تشكيل مشاعرالإنسان ، وإحكام السيطرة على سلوكياته وبنائها .

 إنه يبعث على الهدوء ويمكن الإنسان من السيطرة على مشاعر الخوف، ويشعره بالأمان ، لأنه لايستفز التفكير ، ولايحفز الذهن ، ولا يهدد المعتقدات ... رمادي اللون ذو حضور محايد في محيط الوعي والإدرك.

والمألوف يقدم أحيانا كدليل على صحة وحقيقة الأشياء ،  فالأخبار المألوفة أجدر بثقة الناس ولو كانت خاطئة ،  بينما ينكر الناس صدق المعلومات اللامألوفة والمغايرة ، ولو كانت صحيحة .

 ورغم الأدلة العلمية التي نشرها الكثير من العلماء عن زيف أحداث الحادي عشر من أيلول ، سواء مؤلفات أو محاضرات علمية مفعمة بالبراهين والإثباتات الدامغة... إلا أن معظم الآراء تبنت فكرة الإرهاب الإسلامي ، ورفضت تصديق أنه وراء ذلك الحدث الكبير ... "خديعة كبرى".

ورغم أكاذيب إعلام النظام السوري، وأساليبه المهلهلة  في طمس الحقائق أو تشويهها أو إنكارها ، إلا أن معظم الناس لايرضون عنه بديلا ، كمصدرموثوق للأنباء ، ومجريات الأحداث.

وحب المألوف يجعل الإنسان يركن إلى ما اعتاد عليه ، ولو كان خطأ ، وبالرغم أن سوريا طوال نصف قرن من الزمن كانت مزرعة  خصبة  للمحسوبيات ،  والرشاوي ، والمظالم ، والفساد القضائي والتعليمي والمهني ،  إلا أن العيش  في ظلال المألوف يجعل الناس تتصالح مع التناقض والنفاق .  وهكذا تتخدر المشاعر إزاء فظاعة السلوكيات ، لينتحل المألوف common senseدور البديهية أو ما يسمى بالفطرة،  وليحرفها عن مسارها السليم أو مايسمى

فتصبح "فطرة منحرفة" وهذا أسوأ مصير يمكن أن ينتهي إليه المرء ، كما أنه أكبر إنجاز حققه النظام السوري في بنية المواطن النفسية .

ومنذ أسابيع هرع أهالي مدينة حلب إلى قلعتهم العتيدة  لإحياء ليالي الأنس والطرب ، لايضرهم الرقص على جثث إخوانهم التي لم تجف دماؤها بعد ، فقد ألفوا إحياء الحفلات على مسرح القلعة ، واشتاقوا إلى ما ألفوه .

كما أقيمت الولائم البهيجة في منتزهات بلودان ، بينما يفتك الجوع والمرض والحصار بسكان الغوطة .

وهكذا  فالمألوف يتغلغل في تفاصيل حياة الإنسان ، في أفراحه  ومناسباته ، وكذلك في شعائره الدينية ...

 ومثلا تصحيح المعتقد السائد  بتلاوة سورة يس ثلاث مرات بالتناوب مع الدعاء في ليلة نصف شعبان ،وأنه لا وجود له على الإطلاق في السنة النبوية ،هو ضرب من العبث ، فالإجابة  دوما : ولكننا ألفناها إنها( سنة الآباء والأجداد! )...

والقرآن الكريم اعتبر اتباع خطى الآباء والأجداد ، دون وعي أو تفكير، هو حلقة من رحلة الضياع مع المألوف

"وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباؤنا أولو كان آباؤهم لايعقلون شيئا ولايهتدون"170-2

و الأديب الروسي فيكتور شكلوفسكي إذ يعتبر المألوف خطرا حقيقيا محدقا بالمجتمعات ينتهي بها إلى التكلس والهلاك ، قد اقترح تغريب الأشياء من حولنا لمواجهة المألوف ، وحض على تبني مفهوم مغاير هو "اللامألوف" ، لانقاذ ملكة الإدراك من التردي عند غياب الشعور والانفعال في ظلال المألوف.

 والتوجيه القرآني يعتبر أن الرحلة مع المألوف هي رحلة مصيرها( التيه والهلاك ) ،لأن الإنسان في البداية ، يفقد معاني الأشياء ، فيخمد الفضول المعرفي ، ويترسخ الكسل الذهني ، وفي النهاية يصل إلى مرحلة البلادة الفكرية المطبقة.

 وفي أوائل السور القرآنية نجد سورة آل عمران تدعو أولي الألباب لممارسة" اللا مألوف "  لتحويل كل أمر معتاد إلى أمر غريب : "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض " .

الدعوة للامألوف هي ناقوس لليقظة : "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"، ونداء لممارسة للتأمل : "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت " ، وبعث للمعنى :"يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار".

والنهاية الحتمية هو الجرأة على النقد والإصلاح ، والثورة على الفساد : "أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون" ، إنها استجابة إبراهيم للمحفز النفسي كنهاية لرحلة اللا مألوف التي انتهجها كما رسمها القرآن .ولذلك فقد وصفه  بأنه (أمة )

" إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين"120-16

سبع سنوات والأمة تتشبث بأذيال مألوف متهالك متعفن ممزق ، أما آن الأوان أن تتحرر؟ 

وسوم: العدد 734