حين يكون الكلام فعلاً ، فعلى صاحبه مسؤوليات ضخمة !

 1)عملُ الإنسان فعل وقول . وهو يُسأل عن كل منهما !

 2)الفعل هو حركة الأعضاء والجوارح ماعدا اللسان.( وقد تتضمّن حركةُ الأعضاء قولاً في سياق ما ، كالإشارة ، والإيماء : باليد ، أو الرأس ، أو العين..).

 3) القول هو حركة اللسان ، وما يتعاون معه ، من حنجرة وحلق وشفتين..!

 4) اختلاف القول والعمل ، في سياق معيّن ، مذموم ، كمَن يأمر الناس بفعل الخير، ويخالف فعلُه قولَه( كبُرَ مَقتاً عندَ الله أنْ تَقولوا مالا تفعلون) ..( أتأمُرونَ الناسَ بالبِرِّ وتَنسَون أنفسَكم ..).

 5) من يعمل في حِرفة يدويّة ( نِجارة ، حِدادة ، حِراثة.. ) مسؤول عن إتقان حِرفته. فإذا قال كلاماً، كان مسؤولاً عن كلامه ، من حيث الصواب والخطأ، والصدق والكذب! وليس ثمّة ارتباط ، بالضرورة ، بين قوله وفعله (أيْ : حِرفته) .

 6) من كان فعله هو الكلام حصراً ، مقروءاً ، أو مكتوباً ، أو مصوّراً (كالإعلامي، والأديب ، والمحامي ، والعالم ، والخطيب ، والمدرّس..) كان مسؤولاً عن (فعل الكلام) من حيث الإتقان ، والأمانة ، وعدم الغشّ .. كما هو مسؤول عن (قول الكلام) من حيث الصواب والخطأ ، والصدق والكذب..!

 7) وإذا كان مصطلحا الصدق والكذب ، واضحَين في الأذهان ، فإن مصطلَحي الصواب والخطأ ، نسبيّان جداً ، تتحكّم فيهما أمور عدّة ، منها:

 *) هل الكلام مناسب ، لزمانه ومكانه!؟

 *) هل الكلام موجّه إلى عقول الناس ، أو قلوبهم ، أم إلى العقول والقلوب معاً !؟ وهل هو مناسب ، لمخاطبة العقول ، من حيث انسجامه ومنطقيته ، وقدرته على الإقناع ، ومناسب لمخاطبة القلوب ، من حيث تأثيره الإيجابي ، في المشاعر والعواطف !؟ أم هو متناقض ، في مخاطبة العقول ، مؤذٍ في مخاطبة القلوب ، جارح للمشاعر، منفّر للسامعين !؟

 *) وهل الكلام مناسب ، لمستوى المخاطَبين به ، من حيث الإدراك ومن حيث المراتب..أم هو فوق مستواهم ، أو دونه !؟ وفي الأثر : (خاطِبوا الناس على قدر عقولهم..). 

 *) وإذا كان المقصود بالكلام ، هو النقد الذاتي، داخل أسرة ، أو قبيلة ، أو حزب، أو تجمّع سياسي ، يضمّ فصائل متحالفة ـ في معارضة سياسية مثلاً ـ توظَّف كلماتُ أفرادها توظيفاتٍ متنوّعة ، مِن قِبل خصومها وأعدائها ، وكل كلمة سيئة ، تؤثّر سلباً في قوّتها... فهل من المناسب ، أو النافع ، أن يوجَّه النقد الذاتي ، علناً ، في وسائل الإعلام ، بحجّة الصراحة ، أو التوجيه ، أو التسديد ، أو النصح ، أو النقد الذاتي البنّاء ، أو حريّة الرأي .. فيعطي الآخرين حجّة ، على الفئة المنتقَدة كلها .. الناقد منها والمنقود !؟

 *) وإذا أدّى هذا النوع من النقد الذاتي ـ على افتراض حسن النية لدى صاحبه ـ إلى آثار سلبية كبيرة ، على الفئة المنقودة ( آثار سياسية أو أمنية).. فمن يتحمل تبعات هذه الآثار وتداعياتها، التي قد تكون مدمّرة أحياناً ، أو مؤذية أذى كبيراً !؟ ( ولن نتحدث هنا عن سوء النية ، أو إرادة التخريب المتعمّدة ، المغطّاة بحجّة من الحجج المذكورة أنفاً .. لأن الكلام في هذه الحال ، يكون قد حقق الهدف ، الذي أراده منه صاحبه ، سواء أكان بمبادرة ذاتية منه ، أم بإيعاز من آخرين !).

 *) خطورة هؤلاء الناس ، الذين تخصّصوا بفعل الكلام ، ووهبوا حياتهم له ، هو أنهم يصنعون الأمة ! أصحاب الأعمال الأخرى ، يصنعون للأمة أشياءها ، أمّا هؤلاء فيصنعون أبناءها ! يُسلمهم الناس عقولَهم وقلوبَهم ، ليشكّلوها كما يريدون! الطبيب لا يستطيع تشكيل أجساد مرضاه كما يريد .. أمّا المدرس ، والأديب ، والإعلامي، والخطيب .. فيشكّلون العقول والقلوب والنفوس ، لتصبح ، بجهودهم ، خيّرة أو شرّيرة ، صالحة أو فاسدة ، نابهة أو خاملة ..! يحذّرونها من الفساد فتنفر منه ، أو يزيّنون لها الاستبداد فتميل إليه ، وتخنع لمن يمارسه عليها..! صاحب الحرفة اليدوية أو التاجر، قد يقول كلمة جيّدة ، أو رديئة ، فيكون تأثيرها عرضياً عابراً ، في الغالب، إلاّ في حالات قليلة ..! أمّا هؤلاء ، فلا عمل لهم ولا همّ ، إلاّ التأثير في عقول الناس وقلوبهم ! وهم يمارسون فعلهم بشكل دائم ، مدى الحياة ، وتأثيرهم مستمرّ دائم ، متراكم مركّز ! إنهم بُناة الإنسان ، صالحاً أو فاسداً ، قوياً أو ضعيفاً! فإذا بنَوه صالحاً ، أو أصلحوه ، أصلَحَ ما حوله ، وما بين يديه ، وحاضره ، ومستقبله. وإذا بنَوه فاسداً ، أو أفسدوه ، أفسَدَ ما حولَه ، وما بين يديه ، وحاضره ، ومستقبله ..!

 9) ومن هنا :

 *) دعوة الله إلى خلقِه ، حملَها الأنبياء ، عبر الكلمة ! وتَظهر أهمية الكلمة ، في التأكيد على خطرها ، من حيث النفع والضرر ، في سائر الرسالات السماوية : 

في القرآن الكريم :( مَثـلُ كلمةٍ طيّبةٍ كشجرةٍ طيّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفَرعُها في السماءِ تؤتي أكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربّها ..).. ( ومَثـلُ كلمةٍ خَبيثةٍ كشجرةٍ خَبيثةٍ اجتُـثّت مِن فوقِ الأرضِ مالَها مِن قَرار).( كَـبُرت كلمةً تَخرجُ مِن أفواهِهم إنْ يقولون إلاّ كذِباً).

 وفي الحديث النبوي : ( ربَّ كلمةٍ يقولها الرجل ،لا يلقي لها بالاً، يَهوي بها في جهنّم سبعين خريفاً ) و( هلْ يَكبّ الناسَ في النار إلاّ حَصائد ألسنتِهم!؟ ). و( مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيراً أو ليصمت ).

 *) أصحاب النظريات والفلسفات الكبرى ، الصالحة والفاسدة ، أعطوا الكلمة المَرتبةَ العليا في سلّم اهتماماتهم :

 الدول الشيوعية تمجّد الأديب ، أو المفكّر، الذي يواليها ويعمل لحسابها ! وتدمّر مثيله الذي يخالف منهجَها وتفكيرَ حكّامها.. لأنها تراه أخطرَ عليها ، من جيش جرّار!

وكذلك يتعامل الحكّام ، أصحاب الفكر الشمولي عامّة ، مع صاحب الكلمة..!

 10) بناء على ما تقدّم كلّه ، نذكّر صنّاع الكلام ، محترفين وهواة ، بما يلي:

 *) مَن كان مؤمناً بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه محاسَب في الآخرة ، على عمله ، مِن قول وفعل ، فعليه أن يمعن النظر كثيراً ، في كل كلمة يقولها ، قبل أن يتلفّظ بها ، ليَرى ما إذا كانت ستنزل في سجلّ حسناته ، أم في سجلّ سيئاته ، مهما كانت الكلمة صغيرة ، لا يَرى لها أهمّية أو تأثيراً ..! فلربّما وقعتْ مِن غيره موقعاً مؤذياً ، سواء أكان هذا الغير فرداً أم جماعة ، انطلاقاً من الحديث :( ربّ كلمة يقولها الرجل لا يلقي لها بالاً ، يَهوي بها في جهنّم سبعين خريفاً !). أمّا إذا قالها، ليؤثّر بها في الآخرين ، عن وعي وتصميم ، فهذا أدعى إلى أن يَزنَها بدقّة ، في ميزان عقله، وفي ميزان الشرع الذي يؤمن به ويحتكم إليه ، وميزان الخلُق الحسَن ، الذي أمِر بتَحرّيه ، والتزامه..! سواء أكانت الكلمة سياسية ـ وهذه ينبغي أن يَزنها بميزان السياسة الشرعية ، والهدفِ الذي يسعى إلى تحقيقه ـ أم كانت تربوية ، أم ثقافية ..! ( وهو شريك ، بالطبع ، مع الآخرين ، في مسؤوليته عن كلمته في الدنيا ، وعن الآثار التي تخلّفها ، سواء أكانت هذه الآثار كبيرة أم صغيرة !).

 *) مَن حَصر همّه ، في حياته التي يحياها ، دون أن يفكّر بمصيره بعد الموت ، فنذكّره بمسؤوليته ، عن كل كلمة يقولها، في الميدان الذي نَدب نفسه له، سياسياً كان، أم تربوياً ، أم ثقافيا ..! وأنه ربّما أسهم ، في تدمير المشروع ، الذي يتصدّى لبنائه ، أو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه ، دون أن ينتبه إلى ذلك أو يقصده ! بل ربّما أراد النفع ، بكلام يحمل ضرراً كبيراً ؛ فيكون من ( الذين ضَـلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يَحسبون أنهم يُحسنون صنعاً..!) . وإذا كانت العقول متفاوتة ، في تقديرها للأمور، وفي قياس المنافع والمضارّ؛ فإن مَن يندب نفسه لخدمة مشروع كبير، يُفترض أن تكون له مَرجعيّة ضابطة ( أطُر..وملامح عامّة ) متضمَّنة في مشروعه نفسِه ، سياسياً كان مشروعه ، أم ثقافياً ، أم اجتماعياً ، أم تربوياً ! وإلاّ كان كلامه خبطَ عشواءَ ، وكان هو كتلك الحمقاء ، التي تَغزل الغزل اليومَ لتَنقضه غداً ، أو بعد ساعة من الزمن! ولو نَقض غزلَه وحدَه ، لكانت المصيبة فيه أخفّ، والخطبُ أيسرَ! إلاّ أنه ينقض غزلَ جماعة ، أو حزب ، أو حِلف يراد به نصرةُ شعبٍ ، وبناءُ دولة ، أوأمّة بأسرها ! ولو تروّى قليلاً ، وتذكّر أن كلمته ستفعل فعلهاَ، السلبي أو الإيجابي، في الجيل الذي هو منه ، وفي الأجيال اللاحقة التي منها أولاده وأحفاده ـ سواء أكان هذا الفعل قوياً أم ضعيفاً ـ فربّما انتقى كلماته بدقّة ، قبل أن يلقي بها، في آذان الناس، وفي عقولهم وقلوبهم ..! وسبحان القائل : ( وليَخشَ الذين لوْ تَركوا مِن خَـلفِهم ذريّةً ضِعافاً خافوا عليهم فلْيتّـقوا الله ولْيقولوا قولاً سديداً ).

وسوم: العدد 748