التفكر غير التفكير

أكاد أجزم أن تلامذتنا وطلبتنا ، لا يميزون بين التفكير والتفكر ،  و لا يعيرون لذلك أي اهتمام ، بل كثير ممن يهتمون بالحقل التعليمي والتربوي ، يرون أن التفكير والتفكر شيء واحد ، لا فرق بينهما ، بل هما في تصورهم  كلمتان مترادفتان ، يحملان نفس المعنى ونفس الدلالة .  ومن ثم فهم يستعملون  كلمة التفكر بمعنى كلمة التفكير والعكس صحيح ، دون الانتباه إلى أن الفرق في المعنى والدلالة  بين الكلمتين شاسع .

 فما ه التفكير ؟ وما هو التفكر ؟ وما هو  الفرق بينهما ؟ وما هي خصائص كل منهما؟ وما هي العمليات العقلية ، التي تجمع بينهما ، باعتبار كل منهما  عملية عقلية  ناتجة  بالضرورة عن العقل ؟

 إن التفكير عملية عقلية تهتم بالأفكار وتعمل على إنتاجها - إما بوعي أو بدونه - محاولة بذلك إيجاد حل لإشكالية أو معضلة تؤرق صاحبها ، أو تبحث عن جواب لسؤال محير ، أو تعمل على اتخاذ قرار أو موقف من أمر ما يشغل البال ، على وجه السرعة وبلا تريث ، ودون الاهتمام بالمنطق ولا بالتسلسلات المنطقية ، فدور المنطق في عمليات التفكير ثانوي ويكاد أن يكون منعدما ، لأن التفكير غالبا ما ينطلق من الهوى وما تمليه النفس  ويعمل على تحقيق المنفعة المادية الخاصة ، العاجلة والقريبة .

 وعلى هذا الأساس فعملية التفكير يمكن أن يمارسها الجاهل الأمي وقد يتقنها بنفس الدرجة التي يمارس بها المتعلم أو العالم عملية التفكير نفسها  مع فارق بسيط أو قريبا من ذلك . فمثلا كل من الأمي والعالم يعرف هدفه ومصالحه المادية ، ويحددها بدقة ، وكل منهما يعرف ويميز بين الخير الذي ينفعه والشرير الذي يضره ، وكل منهما يتحايل للإيقاع بخصمه والتغلب عليه دون مراعاة للجانب الإنساني أو الأخلاقي أو لموقف الدين . المهم هو المصلحة والمصلحة الخاصة فوق كل اعتبار بالنسبة إليه  ... أضف إلى ذلك معرفتهما بشكل يكاد أن يكون متساو بينهما  في المهارات والتقنيات التجارية والصناعية والفلاحية  وفي هندسة البناء والري وكل ما له علاقة بمعيشتهما وحياتهما وأنشطتهما اليومية . ويبقى الاختلاف بينهما طبعا في فهم وإتقان بعض المعارف النظرية والمهارات التطبيق الدقيقة  . فلاختلاف بينهما إذن، يبقى على مستوى المعرفة والعلم والجهد والإتقان ، لا على مستوى التفكير والإدراك والتقدير .

إن التفكير قد يمكن صاحبه من معرفة الحقيقة والحق و معرفة الحلال والحرام وما هو أخلاقي والغير أخلاقي ومع ذلك ، فقد يتشبث بالباطل والظلم  ويسانده استجابة  لهوى في النفس  أو لمصلحة  آنية أو لطمع في جاه السلطان ونفوذه أو اتقاء للشر وجلب المصلحة ... وهذا النوع من التفكير قد ذمه القرآن الكريم في شخص الوليد بن المغيرة ، لأنه قدم مصلحته الآنية العاجلة وهي الاحتفاظ بمكانته الاجتماعية داخل المجتمع القرشي ، على الإقرار بما يعلم من حقيقة ما ينزل من الآيات الكريمة ، فشهد شهادة ظلم وباطل، وهو الذي شهد لأصحابه الكبار من كفار قريش ببلاغة القرآن الكريم ، لأنه كان يعرف ويعلم علم اليقين في قرارة وعمق نفسه ، بأن القرآن الكريم هو وحي من الله سبحانه وتعالى  لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه فكر في إيجاد حيلة تنطلي  على الدهماء والعامة  فيصدقونها ويرضونها ويعجبون بها ، فقال بأن القرآن الكريم سحر يوثر وأنه مجرد قول بشر ولم يصدر هذا الحكم منه عن جهل ولا عن عدم قناعة لانتفاء الحجة لديه ، بل عنادا واستكبارا { كلا إنه كان لآياتنا عنيدا } (  المدثر آية 16 )  . إن الوليد في حكمه على القرآن الكريم بالسحر ، كان صادرا ومستنبطا من حديث النفس ووسوستها ، التي صادفت رغبة وهوى داخلي  يلتمس الباطل ويصبو إليه وينصرف عن الحق والحقيقة ، طلبا لرضا القوم الضال المنحرف . لقد كشف القرآن الكريم  وفضح هذا النوع من التفكير التبريري الميال للجحود وتزيين الباطل وإظهاره مقابل طمس الحق وإخفائه ، فذمه وذم صاحبه فقال : { إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبصر ثم أبدر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يوثر إن هذا إلا قول البشر ... } ( سورة المدثر آية  18 – 25 ) .

صحيح إن التفكير كنشاط فطري طبيعي ، لا غنى عنه في حياتنا اليومية وخاصة فيما يتعلق بآلياته وأدواته كالملاحظة والمقارنة والتصنيف والتحليل والتركيب وإيجاد ووضع الفرضيات واستخلاص القواعد والقوانين وربط الأسباب بالنتائج واستنباط واستخلاص المجهول من المعلوم ... وغيرها من العمليات التي تساعدنا على فهم وحل المشكلات وخاصة منها المادية .. ولكن التفكير _ مع كل هذه الآليات التي هي في الوقع قواعد للضبط ، وضعت خصيصا لتحول بين التفكير والانحراف أو الزلل عن الحق _ يتسرع ولا يتروى ويعاند ويستكبر ولا يتورع عن التمويه والتحايل قصد الترويج لمقاصده ويتعمد نكران الحقيقة ولا ينصاع  إلى الحق ، طمعا في تحقيق المصلحة والمنفعة والمآرب الخاصة .

يشترك كل من التفكير والتفكر في كونهما عملية عقلية ، ولكن التفكر يتميز عن التفكير بعدة خصائص منها : استخدام المنطق بوعي كامل متخذا مادة التفكير ذاتها موضوعا للبحث والتقصي والتدقيق للوصول إلى المعرفة العميقة والسليمة من الخطإ والتهافت وخاصة في المجال الغيبي والروحي .

 إن التفكر هو في الواقع ، مرحلة عليا من التفكير،  لكونه ملتزم بالحق ضد الباطل وبالإيجاب ضد السلب وبالخير ضد الشر وبالمفيد النافع  ضد الضار ... التفكر ، يؤمن بالمنطق ولا يحيد عن المبادئ المنطقية التي تعصم العقل من الوقوع في الأخطاء أو الزلل أو الانحراف ولا يخضع للهوى ولا يحابيه ، ولا لما تمليه النفس ويزينه الشيطان ويوحي به ، ولو اجتمعت الدنيا ضده . ميزته أنه  لا يعاند ولا يكابر ، بل يخضع  وينقاد دائما إلى الحق ويتشبث به ولا يتنازل عنه لصالح الباطل ، ولو كانت العواقب وخيمة والنتائج لا ترضي معارضيه وأعدائه، وهذا ما يدفع التفكر ، بل يحتم عليه التشبث بإعمال العقل والتركيز والتدبر والتأمل بوعي وتروي وأخذ الحيطة والتريث وعدم التسرع  _قبل أخذ القرارات المصيرية  وإصدار الأحكام الفورية  الجائرة _ وهذه المنهجية التي يتبعها التفكر هي التي تمنع وتحول بينه  وبين  السقوط في الهفوات والضلال والأخطاء القاتلة ، التي من شأنها أن تبعد عن الحق والصواب وتعادي الحقيقة والعدل والإنصاف ،

إن هذه الخصائص وغيرها ، هي التي تميز بها التفكر عن التفكير وجعلت منه سببا للإيمان ، وجعلته يلتزم بالطاعة لأمر الله  وشرعه والانقياد للحق  . يقول الأستاذ الدكتور حسن الأمراني في مقال له نشر تحت عنوان لآلئ وأصداف – الوراثة الكبرى 2  بالمحجة  في 17ماي  2016  { ويقرن كتاب الله تعالى التفكر بلب الحق ويجعاه سببا إلى الإيمان ، ولزوم الطاعة والانقياد للحق }

إن كلمة " يتفكرون " تكررت في القرآن الكريم  ثماني عشرة مرة كلها امتدحت التفكر وأهله وذمت التفكير وأصحابه ، الشيء الذي لم يترك  مجالا للشك  في كون التفكر يختلف عن التفكير ويتميز عنه أذكر من هذه الآيات  على سبيل المثال لا الحصر : قوله سبحانه وتعالى [ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ] ( آل عمران آية 191) . وقوله [ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون   ( الأنعام آية 50 ) وقوله سبحانه وتعالى : [ ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ]

(النحل آية11 )  وقوله : [ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ] ( النحل آية 44 ) وقوله : [ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ] ( الحشر آية 21 ) وقوله : سبحانه وتعالى [ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكرون ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ] ( سبأ آية 46 )

يعيب أ.د حسن الأمراني _ مع بعض الاستغراب والدهشة _ على المفسرين : أمثال السمعاني  ، الشوكاني ، الميرغاني ، سيد قطب ، الطبري ، فخر الدين الرزازي ، الطناوي والسيوطي... والقائمة تطول كونهم لم يعطوا أي اهتمام للتمييز بين مادة فكر وتفكر ، فيقول : { والغريب أننا نجد بعض المفسرين ، أثناء تعرضهم لآيات التفكر ، يضعون لفظ التفكير موضع ( التفكر ) دون أن ينتبهوا ،أو يشعروا بأي حرج فيما يفعلون . وبعضهم يقول إن التفكر هو التفكير  ، وينتهي . وبعضهم يقول إن التفكر ظاهر ( المعنى ويريح نفسه من التفكر في لفظ التفكر ) وحتى أصحاب التفسير الإشاري ، فيما وصل إليه علمي ، لم يقولوا شيئا في التفكر ، فهم يجعلون التفكير والتفكر شيئا واحدا ، رغم أننا لا نجد في القرآن الكريم : لعلكم تفكرون } ( المرجع السابق ) .

ويبقى في النهاية النص والتأكيد ، على أن القرآن الكريم ، حث على التفكر ومدحه وأثنى عليه  وأمر به . بل  جعل منه عبادة ، يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى ، بدليل قوله سبحانه  : [ أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ] ( سورة الروم آية 8 )  

وسوم: العدد 748