الأعراب لا يبكون موجابي!

موجابي جلس عاشقا للكرسي حتى وصل إلى سن الثالثة والتسعين، ولا يريد أن يغادر موقعه، لأنه يراه ملكية خاصة يمنحه ملكية بلاده بشرا وحجرا يفعل بهم ما يشاء، كيف شاء مثلما يفعل الأعراب بشعوبهم.  ويبدو أن إحساسه باقتراب النهاية في الحياة الدنيا جعله يتراضخ لتوريث منصبه لزوجه التي تناهز الخمسين، وتملك شوكة قوية تواجه بها نائب الرئيس والوزراء والقادة العسكريين، فأقالت نائب الرئيس ماناناجوا- الملقب بالتمساح، وأسفرت عن رغبتها الصريحة بالاستيلاء على الميراث.. لم تكن تشك في ولاء الجيش لزوجها، فهو القائد الذي صنع الجيش من قوات المقاومة لتحرير روديسيا الشمالية، وهو الزعيم الذي استولى على قلوب مواطنيه بعد تحرير بلاده من المستعمرين البيض، وتغيير اسمها من روديسيا الجنوبية إلى اسم وطني هو زيمبابوي، مثلما تحررت روديسيا الشمالية وأضحى اسمها زامبيا..

ما حدث لموجابي لم يستدرّ الدموع من عيون الأعراب، لأنه ربى جيشا رقيق المشاعر مع شعبه ومع قائده الأعلى. فقد دخل في تفاوض طويل مع الزعيم، ولم يطلق رصاصة واحدة على المواطنين، وظل متمسكا بالانتقال السلمي للسلطة من القائد العجوز إلى التمساح النشيط. وفي الوقت نفسه يعبُر- ربما-  إلى بناء الديمقراطية الحقيقية وتداول السلطة بطريقة سلمية، وتدارك ما فات أو على الأقل وقف الانهيار الاقتصادي والتسلط الاستبدادي وحكم السيدة الأولى أو السيئة الأولى؛ وفقا لتعبير الشيخ كشك– رحمه الله.

الأعراب لا يبكون موجابي، لأن التمساح وصلت إليه السلطة المؤقتة حتى يحين موعد انتخابات الرئاسة والانتخابات التشريعية، وتجري عملية اقتراع حرة بعيدا عن القمع والدم كما يفترض. توافق على ذلك حزب زانو الحاكم والقوى الأخرى الفاعلة ومن بينها الجيش الزيمبابوي.

كان الأعراب يتمنون أن يمارس موجابي منهجا آخر يمكنه من الاستمرار في السلطة وتوريثها، وإبقاء الشعب تحت جنازير الدبابات وأزيزها القاتل، ولو قتل في سبيل ذلك الآلاف، وحشر صفوة بلاده في السجون بعشرات الألوف، واستخدم إعلام مسيلمة الوضيع، وفرض الظلمات في كل مكان، فكل شيء مباح في سبيل امتلاك الكرسي!

لم يفعل موجابي شيئا من ذلك بل استسلم في نهاية التفاوض بعد مقاومة استمرت أياما على أمل أن تأتيه نجدة من هنا أو هناك، ولكنه لم يتوقع أن يكون جيشه حارسا للربيع الإفريقي، وقائما عليه في مباغتة غير متوقعة من جانب الأعراب وحلفائهم.

يرى بعض الأعراب أن موجابي لم يواجه انقلابا، وأن ما جرى مجرد انتقال السلطة من ديكتاتور إلى آخر، لأن نظام موجابي سيبقى كما هو كما بقي نظام مبارك، وأن ما حدث هو خلاف في الدائرة الضيقة المغلقة التي تهيمن على البلاد منذ الاستقلال وتضم موجابى وحاشيته، وقادة حزبه الذى كان اشتراكيا ماركسيا، وقادة الجيش، وقادة رابطة المحاربين القدماء، ولن يرفع الناس هناك شعار "ولا يوم من أيامك يا مبارك" كما يفعل المصريون الآن!

يقول بعض الأعراب إن الشعب الزيمبابوي لا دور له، ولا رأي فيما جرى. لأن   الشعب غائب، أو مُغيب. وأغلبه غارق في دوامات الحياة الصعبة وأزمة اقتصادية-اجتماعية خانقة. ولكنهم تجاهلوا حشود الشعب وهي تتزاحم حول البرلمان وتنطلق في موجات من الفرح والاحتفالات التي سادت الشوارع حين أعلن رئيس مجلس النواب إسدال الستار على حكم موجابي وانتهاء عصره.. 

لقد أكدت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أن استقالة موجابي تمنح زيمبابوي فرصة لصنع طريق جديد متحرر من القمع طبع حكمه، وقالت: "خلال الأيام الأخيرة شاهدنا رغبة شعب زيمبابوي في إجراء انتخابات حرة وعادلة إضافة إلى فرصة إعادة بناء اقتصاد البلاد عبر حكومة شرعية".

الأعراب لهم رأي آخر. يرون موجابي مقصرا في حق نفسه والسيدة الأولى، فقد كان يمكنه الاستعانة بخليفة ستالين في روسيا- أعنى الإرهابي الصليبي فلاديمير بوتين، لينقذه بسرب من الطائرات والمدمرات التي تطلق صواريخها على من ينازعونه السلطان، ألم يفعلها أعرابي سفاح قتل قرابة مليون من شعبه وشرد الباقين؟ 

كان يمكن لموجابي أن يغازل النازيين اليهود في فلسطين، فيرسلون إليه فريقا من الموساد يسوى المسألة لصالحة، يكفيه أن يرسل بعض أتباعه ليزور الكنيس اليهودي في باريس أو واشنطن. بل كان يمكنه أن يطلق فتوي من هراري فتصل إلى أرجاء العالم، تقول إن منظمة المقاومة "حماس" إرهابية، وأن اليهود الغزاة النازيين قوم  طيبون يحبون السلام، ولا تجوز مقاومتهم ليكفوا عن قتل الفلسطينيين، واحتلال أراضيهم وإقامة المغتصبات فوقها وتهويد القدس، فتهبّ عليه رياح التأييد، والمناصرة  ويستقر على كرسيه الخالد، بل كان يمكنه أن يطالب أن تكون إفريقية كلها علمانية، أي تعتمد الثقافية الصليبية بكل معطياتها السلبية، أو يطالب بزراعة الكنائس في أرجاء إفريقية، فتهرع إليه جيوش الإعلام وأساطيل القتال، وقاذفات القنابل لتؤكد على شرعيته وبقائه معززا مكرما حتى يتجاوز المائة بل المائتين!

صحيح أن الاتحاد الإفريقي العتيد استنكر محاولة تغيير السلطة في هراري، وعدّها انقلابا، وتعاطف مع القائد العجوز والسيدة حرمه، ولكنه كان يفعل ذلك لأن معظم قادته من المعمّرين في كراسيهم، ومن غلاة المستبدين، بدليل أنه تراجع عن مواجهة انقلاب العسكر في أم الدنيا، ورضي زعماؤه ببعض الإكراميات من دولٍ في الخليج!

إجازة طويلة هنيئة، فالأعراب لا يبكون موجابي!

الله مولانا، اللهم فرّج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

وسوم: العدد 748