الانتصار العسكري لا يلزم منه التفوق الحضاري

لقد هزمنا الغرب عسكريا منذ القرن التاسع عشر، فاحتل عدن 1839، والجزائر عام 1830، ومصر عام 1882، وتونس عام 1881، وليبيا عام 1911 وبلاد الشام والعراق عام 1917، وأسقط الخلافة العثمانية عام 1924، لكنه لا يعني أنه متفوق علينا حضارياً. لأن الانتصار العسكري لا يلزم منه التفوق الحضاري ولا يرتبط به ارتباطاً صحيحاً، فنحن قد انتصر الصليبيون علينا، واحتلوا أرضنا في نهاية القرن الحادي عشر، واحتلوا القدس عام 1099م، لكنهم لم يكونوا أرقى منا حضارياً، بل كنا أرقى منهم فهم استفادوا من احتلالنا، وكان احتكاكهم بنا سبباً في نهضة أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

فقد تأثر المسيحيون الذين جاءوا في الحملات الصليبية بالمسلمين في أمر الدين، وأدى ذلك إلى انبثاق المذهب البروتستنتي على يد مارتن لوثر عام 1517، نتيجة احتكاك المسيحيين بالمسلمين، وتأثرهم بالديانة الإسلامية في عدة أمور منها: تواصل العابد بالنص الديني، وعدم الحاجة إلى وسيط، وعدم وجود تماثيل وأيقونات في مكان العبادة إلخ...، وقد كان هذا المذهب البروتستنتي عاملاً رئيسياً في تشكيل النهضة التي جعلت أوروبا تنتقل من العصور الوسطى وهي عصور الانحطاط والظلام إلى عصر العلم والتقدم والفتوحات العسكرية.

وكذلك انتصر علينا المغول التتر، واحتلوا بغداد 656هـ -1258م، ولكنهم لم يكونوا أرقى منا حضارياً، بل أثّرنا فيهم، ودخلوا الإسلام وتشكلت منهم الدولة الإيلخانية في مرحلة لاحقة، ودافعت عن الدين الإسلامي والأمة الإسلامية من جهة الشرق. لقد فسّر بعض الدارسين تغلب الغرب علينا في العصور الأخيرة بتفوقه الحضاري علينا، وربطوا بين الانتصار العسكري والتفوق الحضاري، وهذا ليس صحيحاً، بل كنا متفوقين عليه حضارياً، ولم يغلبنا عسكرياً نتيجة التفوق الحضاري، بل غلبنا عسكرياً نتيجة خلل في الميزان الاقتصادي بيننا وبينه، وهذا ما سأوضحه في السطور التالية.

لقد كان هناك صراع بين أوروبا والخلافة العثمانية، وكانت الغلبة للخلافة العثمانية على أوروبا، واحتلت معظمها، حتى وصلت جيوشها إلى فيينا عام 1529م. لكن التوازن بدأ يختل لصالح الغرب، فمتى بدأ الاختلال في التوازن العسكري بيننا وبين الغرب؟ ومتى بدأت تلحقنا الهزائم العسكرية؟ 

لقد بدأ الاختلال في التوازن بيننا وبين الغرب منذ اكتشاف إسبانيا لأمريكا في عام 1492، فقد جعل الاكتشاف ثروة الغرب واقتصاده وأمواله ترجح على ثروة واقتصاد وأموال الخلافة العثمانية، وذلك بسبب نقل الأطنان من الذهب والفضة إلى دول أوروبا من الأمريكيتين، وأدى ذلك إلى اختلال الميزان الاقتصادي بين أوروبا والخلافة العثمانية، وأدى هذا الاختلال إلى تطورين آخرين، هما:

1- القدرة على الإنفاق على العلماء والتجارب العلمية: وأدى ذلك إلى اكتشافات علمية مثل: الآلة البخارية، ثم الكهرباء إلخ....، وكان قد سبق ذلك تأثر العقل الأوروبي بالعقل الإسلامي حيث نقل روجر بيكون(1219-1292م) فكرة التجريب من الأندلس إلى أوروبا والتي تعتبر أصل الدخول إلى الاختراعات العلمية، وانعدامها يلغي القدرة على أي اختراع علمي.

2- القدرة على الإنفاق العسكري: وأدى ذلك إلى أن تمتلك أوروبا ترسانة من الأسلحة أكثر مما تمتلكه الخلافة العثمانية، فامتلك الغرب سفناً حربية ومدافع، وبنادق أكثر مما عند الخلافة العثمانية، وامتلك عددا أكبر من الجيوش والجنود والمقاتلين، مما أهّل الغرب للانتصار على الخلافة العثمانية والعمل على طردها من أوروبا من خلال تحريك شعوب أوروبا للثورة على الخلافة العثمانية من مثل الشعب اليوناني والصربي والسلافي والبلغاري والأرمني إلخ... في القرن التاسع عشر، وأدت هذه الثورات إلى مواجهة بين أساطيل الخلافة العثمانية التي تعاونت مع الأسطول المصري وبين أساطيل الدول الثلاث الكبرى آنذاك روسيا وانجلترا وفرنسا، والتي انتهت بتدمير الأسطولين العثماني والمصري في معركة نافارين عام 1827.

واستغل الغرب الضعف العسكري للخلافة العثمانية والتفوق العسكري الذي امتلكه فاحتل عدداً من البلدان العربية في القرن التاسع عشر والعشرين كما ذكرنا في بداية المقال. ومما يؤكد أن أمتنا كانت أرقى حضارياً من الغرب، هو أنه عندما أقدمت فرنسا على استعمار الجزائر عام 1830، واستهدفت فرنستها كانت نسبة الأمية في فرنسا أكثر منها في الجزائر، وأنه كان ثلث مباني مدينة الجزائر أوقافا، ولا شك أن هذين مقياسان واضحان على مدى الرقي الحضاري الذي كانت تتسم به أمتنا وبلادنا.

من الواضح أن العامل العسكري كان سبب انتصار الغرب علينا الذي جاء من غناه الاقتصادي وهو عامل خارجي، ومن الواضح أن الغرب لم يكن أرقى منا حضارياً في لحظة انتصاره، لكني أقر بأننا كنا نعاني من ضعف وتأخر في المجالات الثقافية والسياسة والاجتماعية، نتيجة تداخل بعض العوامل الخارجية في منظومتنا الثقافية مثل "العرفان الهرمسي" الذي يعطّل بعض جوانب الفاعلية العقلية والنفسية عند الفرد المسلم من جهة، ومثل علوم الفلسفة التي تداخلت مع بعض أمور العقيدة فعطّلت الأخذ بالسببية عند الفرد المسلم من جهة ثانية.

ومنذ أن استعمر الغرب بلادنا واتجه إلى تدمير عناصر القوة في بنائنا الفكري والاجتماعي والسياسي، وزيادة ضعفنا، ووضع لذلك خططاً واسعة، ونفذها من أجل جعلنا ضعافاً ومتخلفين في كل المجالات السياسية والفكرية والثقافية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعقلية والخلقية إلخ....

ونحن سنتناول مصر كنموذج من أجل توضيح بعض الأعمال التي قام بها المستعمر الانجليزي من أجل تحيق الأهداف التي تحدثنا عنها سابقا، ويمكن أن نجد الأعمال نفسها أو ما يماثلها في أقطار أخرى استعمرت من قبل مستعمرين آخرين.

من الواضح أن انكلترا استعمرت مصر عام 1882، وقد بدأ الاستعمار حملة تشكيك واسعة بكل الثوابت التي قامت عليها أمتنا، ومن ذلك القرآن الكريم، والسنة النبوية، واللغة العربية، ودور أمتنا الحضاري. وقام بذلك الدور من التشكيك عدد كبير من المستشرقين منهم جب، وجولد تزيهر وبول كراوس وهنري لامنس إلخ...، كما قام بذلك رهط من الكتاب العرب أمثال: طه حسين، وعلي عبد الرازق، وسلامة موسى ولويس عوض إلخ....

وقد لعب الاستعمار دورا آخر في تفكيك الوحدة السياسية، ففكك بلاد الشام إلى أربع دول هي: سورية، لبنان، الأردن، فلسطين. وحرك الطوائف في أكثر من مكان مثل: لبنان وسورية والعراق ومصر إلخ... كما حرك العرقيات من أمثال: الأكراد والأمازيج إلخ.. أما على مستوى الفرد فقد حاول تغريب الفرد، وقد نجح في اقتلاع عدد من أفراد الأمة من جذورهم الثقافية، وفشل مع آخرين، وجاءت دعوة طه حسين في كتاب" مستقبل الثقافة في مصر" خير معبر عن هذه الدعوة عندما قال: "يجب علينا أن نأخذ الحضارة الغربية حلوها ومرها".

وقد نهب الاستعمار اقتصاد المنطقة وخيراتها وأبرزها البترول، فاستخرجه من العراق والخليج والسعودية وابتاعه بأبخس الأثمان إلى سبعينيات القرن الماضي، كما جعلت انجلترا مصر أرضا لزراعة القطن من أجل أن تعزز انجلترا صناعة النسيج عندها. كما جعل الاستعمار الجزائر أرضاً لزراعة العنب من أجل صناعة الخمور وتصديرها إلى فرنسا.

لذلك فإن التأخر والفقر الاقتصادي، والتفتيت الثقافي والتجزيء السياسي، الذي نجم في القرنين الأخيرين والذي جاء نتيجة الاستعمار الغربي جعل عالمنا العربي يعيش تخلفاً كبيراً، ويتراجع في كل شيء إلى الوراء، وهو يفوق التخلف والتراجع الذي وقع خلال اثني عشر قرنا السابقة من تاريخ أمتنا ومنطقتنا.

الخلاصة: انتصر الغرب علينا عسكرياً في القرنين التاسع عشر والعشرين، واحتل معظم البلدان العربية، لكن ذلك لا يعني تفوقه الحضاري، وكان انتصاره العسكري ناتجاً من اختلال الميزان الاقتصادي بين الخلافة العثمانية وأوروبا، بعد اكتشاف إسبانيا لأمريكا عام 1492، فنقلت أوروبا الأطنان من الذهب والفضة من الأمريكيتين، مما جعلها قادرة على تضخيم ترسانتها العسكرية من أساطيل وأسلحة ومدافع وجنود وجيوش، وجعلها تنتصر على الخلافة العثمانية وتحتل بلادنا، ثم زاد ضعفنا بعد استعمار الغرب لنا، نتيجة المخططات التي رسمها في مجال النهب الاقتصادي، والتفتيت الثقافي، والتجزيء السياسي.

وسوم: العدد 751