المراجعات (14) النخب السورية وواقع ما قبل الاستقلال وما بعده

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

كان واقع ما بعد الاستقلال؛ وهو واقع مرتبط بما قبله, قد شهد أهم ظاهرتين في التاريخ السوري الحديث :

 الظاهرة الأولى _تمثّلت بتفجّر الثورات ضد المستعمر الفرنسي الذي احتل سورية سنة 1920م . وقد ظلت الفعاليات الثورية مستمرة ضده حتى الجلاء النهائي في 17 نيسان من سنة 1946م.

والظاهرة الثانية _تمثّلت بتكوّن البنى التحتية ,وببروز الشخصيات الوطنية ,التي كتب لها أن تلعب دوراً في التاريخ السوري الحديث وقد تمثّل ذلك :

آ) بالجيش والقوات المسلحة .

ب) وبالأحزاب .

ج) وبالشخصيات الوطنية .

 وفي تقديرنا أن كثيراً من الأوليات حول هذه المكونات الثلاثة لمّا تزل غامضة وغير معروفة من قبل الشعب السوري الذي كان يجب أن يعرفها أولاً . وقد كتب عليه أن يكتوي بنارها مرتين :

 المرّة الأولى _في عهد الاستعمار الفرنسي , الذي اتخذ منها وسيلة لقمع الثورات السورية , وللضرب على أيدي الثوار الذين بدأوه بالثورات المسلحة .

 و المرّة الثانية _ في العهد الوطني , وقد ألحق كل من الجيش والأحزاب والشخصيات الوطنية الضرر بالمصلحة الوطنية العليا , أكثر من أي شيءٍ آخر , الأمر الذي اقتضى الوقفة المفردة مع كل منهما :

 أولاً : الجيش والقوات المسلحة :

 (الجيش) أو (الجيوش) ينظر إليها بصفة عامة على أنها : حامية الحمى . ومن هذا المنطلق جاء النشيد السوري (حماة الديار عليكم سلام) ومنه جاءت القيمة الاعتبارية للجيش السوري _في مرحلة ما بعد الاستقلال_ وقد مثلت النخب المثقفة في ذلك الوقت سداته ولحمته , وما تخلف عن نيل شرف الجندية فيه إلا المرضى والمعوّقين . وقد كان الذي خفي على الشعب السوري فيه أمران :

 الأمر الأول نشأة الجيش السوري ومنشؤه : فحسب المصادر المتواترة :أن نشأة الجيش العربي السوري تعود إلى سنة 1924م .وذلك بموجب قرار غورو الذي يقضي بإحداث (قوات المشرق الخاصة) .وقد اقتضى القرار أن يكون منشؤها من الأقليات (العرقية والمذهبية) وأن تكون عمدتها (من العلويين) وألا تزيد مشاركة السنة فيها على الثلاثين بالمئة .

 وقد كان الذي حدث بعد أن أديم أمر هذه القوات وظلت تتقدم في عددها وعددها إلى سنة 1946م حيث تحولت بعد ذلك إلى الجيش العربي السوري . وقد أشرف على ترتيب ذلك الجيش يومئذ اللواء آرام قره مانوكيان الأرمني الأصل .وقد ذكر الضابط محمد معروف (وهو علوي) في كتابه الذي نشره في سنة 2003م , والذي جاء تحت عنوان (أياماً عشتها) في الصفحة 35 منه : أن فرنسا كانت تتخيّر طلاب الكليات العسكرية حسب الطائفة والمحافظة وقد اختير في دورته سنة 1939م كل من :

1) آنطوان خوري من الموارنة , وفيليب صرايا من الأرثوذكس ,و شارل جان من الكاثوليك ,وبيارميان من الأرمن.

2) محمد معروف , وحسن مهنا من العلويين .

3) أنور تامر من الإسماعيلية .

4) توفيق نظام الدين من الشيعة .

5) مفيد غصن , وخطار حمزة , وعبد الكريم زهر الدين من الدروز .

6) خالد جادا من الشركس .

7) وجيه حداد , وسهيل برازي , وإحسان كمال ماظ من السنة .

 والملاحظ أن نسبة السنة في هذه السنة لم تزد على الثلاثين بالمئة وهي النسبة التي حددها غورو سنة 1924م . ينظر (الجيش والسياسة) لبشير زين العابدين ص 91 .

 ويضيف محمد معروف العلوي الأصل : أن فرنسا استمرت بتجنيد العلويين إلى تاريخ الاستقلال . وسبب ذلك أن لهم الأفضلية من بين الاقليات . وقد نسب إلى الضابط الفرنسي (دي لاريشه) قوله : ((سيكون العلويون مفيدين جداً لنا , ولا يمكن الاستغناء عنهم ومن مصلحتنا أن نحظى بتعاطفهم , ونفضلهم على غيرهم )).(المصدر نفسه ) . ولذلك كانت لهم الخطوة في الانتساب إلى الكليات العسكرية , ومدارس رتباء الجيش . ومع أن قيادة جيش المشرق سلمت إلى الوطنيين في سنة 1945م . أي قبل الاستقلال بشهور إلا أنه وكما ذكر بعضهم :أن فرنسا أخذت عهداً على الوطنيين بعدم التغيير في بنية الجيش !! الأمر الذي جعله مستمراً في مرحلة ما بعد الاستقلال ( ينظر الجيش والسياسة) .

 الأمر الثاني _أن هذا الجيش جمع بين خاصيتي الذئب والثعلب : الثعلب الذي كان يمكر ويداور وهمه الرئيس ينحصر في القطيع ؛ ونقصد بالقطيع هنا الشعب العربي السوري الذي كان بحكم المعتدى عليه , وما جاء الاستعمار الا لتحطيمه وقتل طموحاته . والذئب : الذي كان يفتك ويفتك وقد كان فتكه بالقطيع أشد إيلاماً . ونقصد بالقطيع هنا أيضاً الشعب وقد كانت مهمة الجيش يومئذ تنحصر بمطاردة الوطنيين وقمعهم فضلاً عن السلب والنهب الذي اتصفوا به . أما في العهد الوطني وقد أصبحوا وطنيين فقد ظلوا يأتمرون بأمر (الثعلب) المستعمر , وتحولوا إلى انقلابين , كل همهم أن يحملوا عصا الماريشالية , وأن يتبوأوا الرتب ولو كان ذلك على حساب الشعب السوري وقوته , ومستقبله وطموحاته ولا يختلف في هذه الزعيم عن الشيشكلي عن عبد الكريم زهر الدين أو عبد الكريم النحلاوي ومن لف لفهم من الانقلابين , الذين تحلّوا بخاصية الذئب , وهي خاصية أدمت قلب المواطن السوري , وقد ظلوا يتنقلون به من حكم إلى آخر حتى أسلموه إلى السيد النظام سنة 1963م!!!

 ثانياً _ الأحزاب :

 (الحزبية) بمعناها اللغوي تدلّ على التحزب تجاه موقف أو رأي يقضي العمل المشترك. و (الحزبيون) حاصل جمع حزبي , وقد يزداد عددهم أو ينقص , تبعاً لأهمية العمل المشترك الذي اجتمعوا من أجله ). وتكتسب الظاهرة (الحزبية) أهميتها من المبادئ والأهداف التي تجتمع من أجلها كما يكتسب ( الحزبيون ) أهميتهم من مواقفهم التي يتحلون بها , ومن قيمهم وأهدافهم التي يؤمنون بها . والمسألة معيارية , تتعلق بالحزبية والحزبيين بعامة .

 وقد اتخذ العمل الحزبي في سورية شكلاً آخر غير الذي وسم به في العالم الآخر الذي عدّ أكثر تطوراً . وذلك بسبب من طبيعة المجتمع السوري الذي وسم بسمات ثلاث:

 السمة الاولى _ تتعلق بعدم التجانس , وقد تمثل اللاعب الرئيس فيه : بـ(الطائفيين) الذين كانوا بمثابة التابع للأجنبي وهذه الخاصية جعلت الأحزاب هشة وغير متوائمة ؛بل وأسرى المنطلقات النظرية للطائفيين الذين حاولوا الجمع بين النشاز الطائفي والتمرد العلماني في خانة واحدة، فكان حصاده الخروج على الأمة والتمرد عليها وعلى الثوابت التاريخية التي تتحلى بها .

 السمة الثانية تتعلق بما اتسم به الحزبيون من سمات خاصة وأكثرهم كان من تلاميذ مدارس التبشير أو من الذين أخذوا عنهم ثقافتهم . وقد ذهبوا إلى ما هو أبعد بخروجهم عن المسار الحضاري التي سارت عليه الأمة عبر تاريخها الطويل , وقد كانوا أقرب إلى الفوضى وعدم الالتزام منه إلى العمل الجاد والمسؤول . بل كان أكثرهم من العبثيين , ولا نعتقد أن آنطون سعادة وميشيل عفلق يختلفان عن أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار ,وكلاهما عبّ من الثقافة الأجنبية حتى كاد يكون بمثابة الابن الغير شرعي لها !!

 السمة الثالثة _ تتعلق بالعداء السري والمعلن لـ( الدين) الذي وسموه بالرجعية يستوي في ذلك الجميع : ومنهم الشيوعيون , والبعثيون والقوميون السوريون وحزبا الشعب و الوطني والاشتراكيون والليبراليون بعامة , وقد كانوا محكومين بعقدة ( بغال غورو) أي : بـ(التبعية للأجنبي والتعلق بأهداب سياساته ) . ولما كان الدين يعادي وبشكل صريح التبعية للأجنبي فقد ابتعد المتدينون أكثر من خطوة عن السياسة التي اتسمت بانقلابيتها المتمردة , وبنظرتها العدائية لتاريخها العربي الإسلامي بعامة وللمتدينين بخاصة .

ثالثاً_ الشخصيات :

 ونقصد بالشخصيات تلك التي كتب لها أن تلعب دوراً في التاريخ السوري الحديث ,ابتداءً بشخصيات مؤتمر باريس الذي انعقد سنة 1913م ومروراً بشخصيات الحكومة الفيصلية التي قامت في دمشق ما بين 1918 و1920م . ووصولاُ إلى سورية ما بعد الاستقلال من سنة 1946 إلى 1962م حيث شهدت الساحة السورية ظهور عدد ليس قليلا من الشخصيات السورية التي كان لها أثرها البارز على الساحة السورية بعامة .والملاحظ أن هذه الشخصيات اتصفت بصفات كل واحدة منها كانت بمثابة الصفة الأسوأ و سنركز على اثنتين منها حسب :

 الصفة الأولى _تمثلت بعدم استيعاب المسألة , وبعدم إدراك الهدف الذي تعمل من أجله الشخصيات , ومن أمثلة ذلك شخصيات مؤتمر باريس الذي عقد سنة 1913م , وكان عبد الغني العريسي ممن دعا إلى ذلك . وقد كان احتشد معه عدد من المؤتمرين , من أمثال الشيخ عبد الحميد الزهراوي الذي رأس المؤتمر ,فضلاً عن عدد كبير من المناوئين للدولة العثمانية , ولم يخطر ببالهم أن الشرق شرق وأن الغرب غرب وأن الصراع بينهما لما يزل قائماً منذ الحرب الصليبية وإلى ذلك التاريخ , وأن باريس تنظر إلى الشرق بعين واحدة , وأن نصرها في الحرب الأولى سيكون نصراً على العرب و المسلمين , وليس انتصاراً لهم. وممن أدرك مخاطر ذلك مبكراً الشاعر العراقي معروف الرصافي . الذي حذّر من عواقب ذلك المؤتمر . وقد جاء في قصيدته التي أنشأها رداً على المؤتمرين :

 والصحف تروي لنا منها الأعاجيبا

 ماكنت فيه برأي القوم مندوباً

 جيش يدك من الشام الأهاضيباً

 ضجوا بباريس إفساداً و تشغيبا

 ويرسل الدمع في الخدين مسكوباً

 (نشأة الحركة العربية الواحدة _ الحكم دروزه ص 423 )

 والملاحظ أن عدم فهم المؤتمرين لطبيعة العلاقة بين الشرق والغرب قد رماهم في حضن أعدائهم أوهم كما قال الرصافي في بعض أبيات القصيدة :

 أن راح يستنجد الإفرنج منتصفاً

 كأنه حمل يستنجد الذيبا

 والمسألة قيل ما قيل عهنا تدل على غباء وعدم معرفة و عدم نباهة في المسألة كلها . و(بغال غورو)و(الانقلابيون) بعامة في مرحلة ما بعد الاستقلال لا يخرجون عن هذه الصفة .وبجملة معترضة - لما بلغ السوريون أن قوات غورو تتقدم باتجاه دمشق وكان الملك فيصل رحمه الله قد قبل بإنذار غورو بعد أن أخذ تعهداً منه بعدم الهجوم على دمشق و الذي كان أن هرع الذين سرّحوا من الجيش إلى وحداتهم من أجل مقاتلة الفرنسيين فأرسلت لهم الحكومة يومئذ فرقة عسكرية قتلت منهم أكثر من مئة مقاتل , وذلك من أجل منعهم من الخروج لمقاتلة الفرنسيين.ظنا من الحكومة أن غورو سيفي بوعده . هذا إذا لم نقل أن يوسف العظمة نفسه قتله أبو شاكر الطباخ , وهو من بغال غورو وسلبه جزمته , وأخفى جسمانه الذي لم يكتشف إلا بعد شهور . ينظر (الجيش والسياسة) .

 الصفة الثانية _ تمثّلت بعدم وجود المؤهل , وقد كثرت هذه الصفة عند السوريين وعند غيرهم من زعامات الوطن العربي بعامة .ففي سورية قدمت الهوية الحزبية والولاءات الشخصية على الكفاءات و الخبرات والمؤهلات الخاصة , كما قدمت التابعية الطائفية و المناطقية على التابعية الوطنية , واعتبر الموالي بمنزلة المجاز , وكان للمستضعفين عند من تولّى كبره منهم الحظوة في الاختيار . لأنه لا يحل ولا يربط . لذلك وصفت الشخصيات في الخمسينيات من العسكريين والسياسيين بأنهم ممن يحملون صفة الشخصية اللعوب , التي يهمها المواقف أكثرمن العواطف وذلك بأقاليم حزبية ومناطقية وطائفية وشخصية ؛ وتقصي تاريخ الزعامات الوطنية ومعرفة مؤهلاتها , يؤكد ذلك , ومجرد استعراض أسماء كل من أحمد الشراباتي وزير الدفاع السوري سنة 1948م , وجميل مردم بك رئيس الوزراء في حكومته الثالثة سنة1948م . والمعروف أن الرجل من الساقطين أخلاقياً و وطنياً. وأن أخاه فؤاد مردم رفض أن يكون مع الوطنيين , وظل تحت القيادة الفرنسية إلى اللحظات الأخيرة من الحكم الفرنسي ! ولهذا السبب جاء قول عمر أبو ريشة :

 وبها مثل جميل المردم

 وإذا أضفنا إلى جميل مردم خالد العظم , وشكري القوتلي وهاشم الأتاسي ,وصبري العسلي , وناظم القدسي وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار وهم من المدنيين ,وحسني الزعيم وسامي الحناوي , وأديب الشيشكلي ,وعبد الكريم النحلاوي وعبد الكريم زهر الدين وهم من العسكريين نكون أمام كوميديا (علي بابا والأربعين حرامي) .فالمذكورون في غنى عن التعريف وكتابا (الجيش و السياسة) لبشير زين العابدين , (ووطن وعسكر) لمطيع السمان يغنيان في هذا المجال وجميعهم لم يحالفهم الحظ في أن يكونوا في مصاف الشخصيات المرموقة التي بها تبنى الأمم وتصان البلاد من أعدائها . من أمثال : جورج واشنطون , وبسمارك , و غاريبالدي , وديغول ,وغاندي ونهرو , وهؤلاء جميعاً حققوا لأوطانهم أهدافاً وطنية كبرى ,بخلاف الزعامات السورية التي مضت واللعنات تلاحقها وتحملها مسؤولية ما حدث في سورية منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم .

 والخلاصة :

 أن التاريخ المشبوه لكل من الجيش السوري وللزعامات السياسية وللأحزاب التي وصفت في حينها بأنها وطنية قد أفضى إلى النتائج التالية :

 النتيجة الأولى _ انعدام الثقة بين النخب السياسية وقياداتها وهو انعدام أدى بكثير منها إلى الجنوح , وإلى ركوب مركب الوصوليين و الانتهازيين , وعدم الثبات على مبدأ , والاستعداد للتضحية . وكثير ممن هم في جيش بشار اليوم تلحقهم هذه الصفة .

 النتيجة الثانية : ضياع النخب السياسية , وقد أصبحت موزعة على يمين ويسار المسألة , وهو أمر قادها بعد إلى شعور باللامبالاة , وإلى عدم إدراك لطبيعة مسؤوليتها , سيما في المستقبل . إذ لم يعد عندها أدنى استعداد لتحمل تلك المسؤلية , التي كانت تنتظرها سلفاً.

 النتيجة الثالثة :طمع أعداء سورية بها , وإعداد الخطط لتدميرها ؛ تماماً كالذي يحدث اليوم وقد تحالف ضدها 68 دولة قصد تغيير بنيتها الديمغرافية , وتحويلها إلى دويلة غير عربية وغير إسلامية . وغير وطنية وغير مستقلة وغير ذات سيادة. وما خفي أعظم !!!

وسوم: العدد 755