ذِكرَيَاتٌ

د.فاطمة محمد العمر

ذِكرَيَاتٌ

حَولَ كُليةِ الهَندَسَةِ المِعمَارِيَّةِ

د.فاطمة محمد العمر

[email protected]

هُناكَ عِندَ حُدُودِ الأُفُقِ ..

فِي الطَّرفِ الشَّمَالِي الغَربِي مِن الشَّهبَاءِ ..

حَيثُ تَشمَخُ جَامعتُهَا العَرِيقَة ..

مِن قَلبِ المَدينَةِ نَنطَلِقُ إِلَى نِهايةِ العَالمِ كَمَا كُنا نَرَاها فِي ذَلكَ الوقتِ ..

نَسيرُ مِن قلبِ حَاراتِ حَلب القَدِيمَةِ ..

مِن بُستانِ القَصرِ كُنَّا نَنطلقُ سَيراً عَلَى الأقدَامِ ..

لِنختَرِقَ بُستانَ الزَّهرَةِ ثُمَّ مِنطقَةَ المَلعَبِ البَلَدِي بِاتجَاهِ دَوَّارِ الكُرةِ الأَرضِيَّةِ ..

ثم نَنعطفُ يَميناً فِي شَارعِ الفُرقَانِ الرَّئيسِي لِتشرِقَ عَلينَا مَبَانِي الجَامِعةِ الشَّامخَة ..

فِي ذَلكَ الزَّمنِ لَم يَكُنْ هُناكَ أَي وُجُودٍ للسَّيارَاتِ الخَاصَّة ..

وَلا حتَّى لِسياراتِ النَّقلِ الصَّغيرةِ الَّتِي تَعارَفَ عَليها النَّاسُ بِاسم: (السِّيرفيس) ..

فَقط بِضعُ حَافِلاتٍ للنَّقلِ العَام ..

كُنا طَلبةَ جَامعةٍ لا نُبرِّرُ لأنفسِنا أَن نَنحشِرَ بينَ عامَّةِ النَّاسِ ..

وَلم نَكن نَملكُ المَالَ الكَافِي الَّذي يَسمحُ لنَا بِاستِخدَامِ سَياراتِ الأُجرةِ ..

مِن بُستانِ القَصرِ نَنطلِقُ إلَى جَامعةِ حَلب فَيستقرُّ القلبُ ضِمنَ مَبانِيها ..

كَانت كُلَّ عَالمِنَا ..

وَمُنطلَقَ آمَالِنَا ..

وَكانَت تُمثِّلُ لنَا آخرَ حُدودِ المَعمورَةِ المَعرُوفَة فلَم يَكنْ بَعدها أَي مَظهرٍ لِحياةٍ ..

بَينَ مَبانِيها الأَكادِيميَّةِ كُنا نَصولُ وَنجولُ ..

وَتَحتَ أَشجَار حَدائقِهَا المُتنوِّعة كُنا نَسرحُ وَنمرحُ ..

فَإذَا بَدا لنَا أَن نَتجاوَزَها قَليلاً فَإلَى المَدينةِ الجَامعيَّةِ حيثُ بعضُ الصَّحبِ مِن خَارجِ المَدينةِ ..

مَرَّت السُّنون .. وَاختتمنَا الحَياةَ الجَامعيَّةَ .. وَبدأَنا الحيَاةَ العمَليَّةَ ..

كُلِّفت بِالتَّدريسِ فِي كُليَّة الهَندسَةِ المِعمَاريَّة ..

فِي اليَومِ الأوَّلِ لأولِ درسٍ لِي فِي الجَامعةِ خَرجتُ مِن البيتِ بِكلِّ ثِقةٍ ..

أَكرمَتُ نفسِي بِسيارَةِ أجرَة ..

وَانطلقتُ إلَى مبنَى كُليَّةِ الهَندسَةِ الوَاقعِ فِي الطَّرفِ الجَنوبيِّ الشَّرقيِّ مِن سَاحة الجَامعةِ الرَّئيسية ..

لَم يَكن أَي ُّمبنًى مِن مَبانِي الجَامعةِ يَحملُ اسماً .. أَو لوحةً تَعريفيَّةً ..

كُنا نَعرفُ أنَّ هَذا المَبنَى لِكليةِ الهَندسةِ ..

دَخلتُ .. أَدورُ فِي الأروِقَةِ .. أحدِّثُ الموظَّفِينَ ..

أسألُ عَن مَبنَى كُليَّة الهَندسةِ المِعمارِيَّة ..

لأُفاجَأَ أنَّ المبنَى الَّذي أَدورُ فيهِ لِكليةٍ أخرَى ..

وَلأعرفَ أنَّ مَبنَى كُليَّة الهَندسةِ المِعمارِيَّة يقَعُ خَلفَ المَدينةِ الجَامعيَّة ..

تَساءَلتُ بِاستغرَابٍ: وَهل تُوجد مَبانٍ خَلفَ المَدينةِ الجَامعيَّة ؟!!

انطَلقتُ عائدةً إلَى مبنَى كُليةِ الآدابِ القَديمِ ..

أَو سَفينة الحُبِّ كمَا كَانَ يحلُو للطَّلبَةِ تَسميتُهُ ..

المَبنى الَّذِي تَشغلُهُ الآنَ كُليةُ الحُقوق ..

أَنهيتُ بعضَ الأعمَالِ الإِدارِيَّة وَتثبَّتُ مِن جَدولِ السَّاعَاتِ المَمنُوحَةِ لِي ..

ثُمَّ انطلقْتُ سَيراً عَلَى الأقدَامِ ..

بِاتجَاهِ مَبَانِي كُليَّةِ العُلومِ مُروراً بمَبنى المَكتبَةِ المَركَزيَّةِ وَمبنَى كُليَّة الاقتصَاد ..

تَجاوَزتُ كُلَّ تِلكَ المَبانِي بِاتجَاهِ المَدينَةِ الجَامعيَّةِ ..

ثُمَّ رُحتُ أَتجاوزُ وَحداتِها وَحدةً وَحدةً ..

كَانت الوَحدةُ الثَّانيةُ عَشرةَ آخرَ الوَحداتِ العَامِرة بِالطَّلبةِ ..

بَينمَا بَدت بَعضُ الوَحداتِ الأُخرَى قَيدَ الإِنشاءِ ..

وَصلتُ إلَى الشَّارعِ الرَّئيسِي فَالتقطَت عَيناي مَنظرَ مَبنًى أنَيق .. حَديثٍ ..

يَقفُ وَحيداً علَى الطَّرفِ الآخرِ مِن الشَّارعِ ..

وَقفتُ أَتأمَّلُ المَبنى ..

لَمسةٌ مِن الجَمالِ وَمَسحةٌ مِن التَّاريخِ تَحوطَانِه ..

دَاخلَ المَبنى رَائحِةُ الدِّهانِ مَا تَزالُ تَعبقُ بِالجو ..

قَاعاتُ المُحاضَراتِ تَنفسِحُ أمَامي بِأثاثٍ حَديثٍ ..

سَاحاتُ المَراسِم تَملؤُها مَعدَّاتٌ جَديدةُ وَأَنيقة ..

مَبنًى جَديدٌ يُدشَّنُ للمرَّةِ الأُولَى ..

تَمَاماً كَما حَياتِي العَمليَّة ..

مَرَّت السُّنُون ..

وَتنقَّلتُ فِي مُعظمِ كُليَّات الجامِعةِ ..

وَمرَّت سُنون أُخرى ..

وَغادرْتُ حَلب بَحثاً عَن لُقمةِ العَيشِ فِي بلدٍ آخَر ..

فِي إِحدَى زِيارَاتِي الصَّيفيَّةِ تَناثرَت حَولِي أَقوالٌ فَهمتُ منهَا أنَّ كُليةَ الآدابِ تَسلَّمت مَبناهَا الجَديد ..

آه .. نَعم .. المَبنَى الَّذِي سَمعنَا أنَّه يُعدُّ لهَا قَبلَ دُخولِنا الجَامعَة ..

بِدافِع الفُضولِ سَألتُ عَن مَكانِهِ ..

جَاءنِي الجَوابُ أَنه يَقعُ قُربَ مَبنى كُليَّة العَمارَة ..

فَجأة أَحسَستُ بِالشَّوقِ إلَى كُليةِ الآدَاب ..

مَلأنِي الحَماسُ لِرؤيةِ مَبنَاها الجَديد ..

زُرتُ المَبنَى ..

لا بِدافِع حُبِّ كُليَّة الآدابِ فَوَلائِي للمَبنى الَّذي عِشتُ فِيه حِياتِي الجَامعيَّة ..

وَلكن بِرغبَةٍ خَفيَّةٍ منِّي أن أرَى مبنَى العمَارَة ..

ذَلكَ المَبنَى الَّذي ارتَبَطَ فِي ذَاكرِتي بِبدايةِ حَياتِي العَمليَّة ..

وَالَّذِي احتَلَّ فِي القلبِ مسَاحةً واسِعةً ..

مَبنًى أَنيق كَأنَاقَةِ تَاريخِنَا ..

هَادئٌ كَهدُوء مُدنِنا ..

لَم تَكن فِيهِ مُستودَعاتُ ذَخيرَةٍ ..

وَلا كَانت بَينَ غُرَفِهِ الوَاسعةِ غُرفَ تَدريبٍ عَسكريٍّ ..

وَلا اتَّخذَ منهُ المُسلَّحونَ مُرتَكزاً لِعمليَّاتِهم ..

مَن يَدخلُهُ كَانوا أَملَ الغَدِ لِسوريَّة ..

كَانوا فِكرةَ البِناءِ الحَديثِ لِسوريَّة ..

وَلذلِكَ كانَ لا بدَّ مِن قَتلِ تِلكَ الفِكرة ..

إنَّ مَن دمَّر التَّاريخَ بِضربِ أَسواقِ حَلب القَديمَة وَقلعتَها الشَّامخَة ..

وَدمَّر الحَاضرَ بِضربِ سَيفِ الدَّولةِ أَزهَى أَحيائِها وَأكثَرهَا حَيويَّة ..

لا يَردعُهُ عَن تَدميرِ المُستقبلِ شيءٌ ..

بَل كانَ لا بدَّ مِن إِكمالِ المهَمَّةِ التَّدميرِيَّةِ الَّتي يقومُ بهَا ..

كانَ لا بدَّ مِن ضَرب المُستقبلِ بِضربِ مُهندِسِي بِناءِ سُوريَّة الغَد ..

وَلَكن خَسئتُم .. سَتَرحلُون ..

وَسَتبقَى سُوريَّة ..

وَسَيبقَى الأملُ بِالغدِ يُضيءُ شَوارعَها وَيزيِّنُ مبانِيها!!.