ذُبولُ الألق

ذُبولُ الألق

أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

عرفتُها طفلةً غضَّة، تَفيضُ حُسنًا وبهاء، ورقَّةً وصفاء..

تفتَّحَت أمامي كزهرةٍ فاتنة بديعة، شاءها الله أن تكونَ رمزًا للجمال فكانت!

حتى إذا بلغتِ الثامنةَ عشرةَ من ربيع شبابها... واكتملَت أنوثةً ووَسامة، وتفجَّرت وَضاءةً ورُواء..

غدت مَطمعًا لكلِّ عين، ومَطمحًا لكلِّ قلب.

وما أسرعَ أن خَطِفَتها يدُ شابٍّ غِرٍّ، لم تَعجُم عودَه الحياةُ ولم تعلِّمه من دروسها! فما أدَّى حقَّ شُكر النعمة، ولا حَفِظَ العهدَ والأمانة!

حتى انتهى بجهله وحُمقه إلى تسريحها بعد سنةٍ من النَّكَد مرَّغها في وحولها!

ورأيتُها بعد طلاقها فإذا بها شبحُ إنسانٍ لا إنسان، وأمعنتُ النظرَ عسى أن أجدَ فيها بقيةً مما عرفت، فأبصرتُ وجهًا غيرَ الوجه، وجسدًا غيرَ الجسد، وروحًا غيرَ الروح!

ولم أملك إلا أن أذرفَ عَبرةً على دَوحٍ صوَّح، وبريقٍ انطفأ، وأَلقٍ ذبَل!

وأبت إلا أن تمورَ في صدري بعضُ المعاني والكلمات:

ما أكثرَ أن وقفتُ عند حافَتكَ أيها النهرُ الجاري، أمتِّع ناظريَّ بمرآكَ الحسن..

أقبسُ من طَلاوتك بهاء،

ومن جَريك قوَّة،

ومن دَفقك عزيمةً ومضاء..

أتأمَّل في مائك العذبِ النمير فتفيضُ نفسي بالطُّهر والنقاء.

وأرنو إلى صفحتك وقد انعكست خيوطُ الشمس الذهبيةُ على مرآتها نهارًا حِليةً وزينة..

وتلألأ القمرُ مساء تحفُّه النجومُ كأنها ساكنةٌ في أعماقك لا في كَبِدِ السماء!

فأجد من الأُنس والطُّمأنينة ما يُبهج ويُطرب!

أما أمواجُكَ الماضيةُ بانسياب، يتبعُ بعضُها بعضًا، ويأخذُ بعضُها برقاب بعض..

فهي أشبهُ بأرواح المحبِّين وقد اعتنقت وأبت إلا أن تمضيَ في مضمارٍ واحد، إلى هدفٍ واحد مَنشود!

ولكن مالي أراكَ اليوم على غير ما عهدتُك..

لا يَبرحُ الماء مكانه بين ضفَّتَيك، ساكنًا سكونَ الموت!

تُشيح بوجهِكَ عن ضياء الشمس ونور القمر،

وكأنك أقسمتَ أن توليَهما ظهركَ أبدًا!

وأما ماؤكَ فقد شابَهُ من الرَّنْق والعَكَر ما أذهبَ صفاءه وأفسدَ نقاءه!

فعاد كوجه امرأةٍ عجوزٍ حفرَت همومُ السنينَ في وجهها أخاديد،

وأطفأت أعباءُ الحياة وميضَ قسَماتها،

طاردةً كلَّ بقية من بقايا أنوثةٍ وصَباحةٍ فيها!

وما أسرعَ ذبولَكِ يا أيتها الزهرةُ الندية،

وما أقساكِ أيتها الريحُ العاتية!

ألم ترحمي رقةَ أوراقها، ودقةَ ساقها، ووهنَ عودها؟!

أأبَيتِ إلا أن تعصفي في وجهها، وأن تثوري في طريقها، وأن تلفظي ضَعفَها بحِمَم هيَجانك؟!

كم كنتُ مأخوذًا بك يا زهرتي..

يفتنُني نضارةُ منظرك، وخِلابةُ طلعتك، وإشراقُ رونقك!

ولطالما أسرَتْني ألوانُك الزاهية، وطيوبُك الشذية..

فما بالُ العين تُخطئ نضارَتك، والروح تفقدُ أرَجك؟!

ليتك بقيتِ يا زهرتي في حديقةِ الحياة كعهدي بك؛ عنوانًا للجمال، والرقَّة والدلال..

تبثِّين في الآفاق ضياء من روعتك، وتنشُرين فيها عبيرًا من عطرك...

أجل ليتك بقيتِ في سماء الوجود زينةً وتُحفَة،

تنجذبُ إليها الأبصار بمحبَّة وإعجاب، وتشرئبُّ إليها الأعناق، شوقًا إلى العِناق!

ولكنها الأقدارُ أبت بحكمة المقدِّر إلا أن تُقطَفي من تُربتك، وتُقتَلَعي من حديقتك..

ليفخرَ جهولٌ بك، لؤلؤةً تزيِّن بيتَه، ودُرَّةً تُرضي غرورَه!

فأحالكِ من بعد طول حياةٍ وانتعاش إلى اعتلالٍ وذُبول، وشللٍ وخُمول!

فوا أسَفا على شبابك النضير كيف غَدا شيخوخةً وعَجزا..

وعلى توثُّبك وروحك المرحة كيف غَدَت استسلامًا وضَعفا..

وعلى جمالك الفتَّان كيف أَفَلَ ووَلَّى!

وعلى ربيعك الغنَّاء كيف مَضى وتَولَّى!!