البطولة التناوبية، رواية" شرق المتوسط" لعبدر الرحمن منيف نموذجا

ينقسم السرد عادة إلى قسمين، سرد تقليدي وسرد حديث، كما أن الأحداث قد تكون واقعية، وقد تكون متخيلة، وحتى الواقعية منها لكي تصلح للحكي لا بد من مزجها بالمتخيل وإلا صارت تقريرا عن حدث، وفقدت طعم الرواية. والروائي عبدالرحمن منيف- في رواية" شرق المتوسط" - كعادته مع  باقي رواياته، اختارحدثا من الأحداث الواقعية الذي يعد من المحرمات ألاوهوالإعتقال السياسي، وما يرافقه من تعذيب، وانتهاك لحقوق الإنسان .وعمل على استثماره روائيا بطرائق سردية حديثة سواءعلى مستوى السردأوعلى مستوى بناء الشخصيات والفضاء والأحداث.

 وقد أشار منيف إلى هذا التحديث  خاصة على مستوى الفضاء، والأحداث في تقديمه المتأخربقوله" رواية" شرق المتوسط" توحي ولا تحكي تشير ولا تتكلم" 1 ونعلم مسبقا على أن الإيحاء والإشارة، ونقط الحذف، والرموز من الأساليب التي تحتاج إلى قدرة على التأويل لإغنائها دلاليا، ومعه تتعدد القراءة، وتتجدد مما يجعل الرواية نصا منتجا بامتياز، فرواية "شرق المتوسط" لم تتعرض إلى أسباب الإعتقال ولا إلى مكانه بالتحديد ولا إلى إيديولوجية المعتقلين بشكل مفصل. وكل ماأشارت إليه هوأن رجب، ومعه رفاقه كانوا ضد النظام الإستبدادي بالشرق الأوسط بسعيهم إلى مجتمع ديمقراطي تسوده الحرية والعدالة الإجتماعية، واحترام حقوق الإنسان. وهوما أفصح عنه الكاتب منيف في تقديمه المتأخر. أوأثناءعقدالمقارنة التي قام بها رجب بين أحوال الناس بأوروبا، وما يتمتعون به من حرية وديمقراطية، ومابين القمع، والتعذيب، والتخلف الذي يسود بدول شرق المتوسط، ونرصده كذلك أثناء سرد أنيسة لتفاصيل حياة أخيها رجب وبداية تشكل وعيه وتعلقه بالسياسة .وفي ذلك إشارة من الروائي إلى المرجعية الثقافية، والسياسية لشخصية البطل رجب باعتباره مثقفا عضويابتعبيرانطونيوغرامشي.

أما على مستوى الفضاء فلم تحدد الرواية دولة بعينها من دول شرق المتوسط وسمت بكل هذا الكم من الحقد على الرأي المخالف والمعارض ، المدافع عن حرية الإنسان، وكرامته وحقوقه الإجتماعية.بل تركت باب الإحتمال، والتوقع والشك، والإتهام مشرعا على كل دول شرق المتوسط بمعنى أن هذه الدول كلها معنية بهذا الكلام.فرواية" شرق المتوسط" تناولت موضوعا حساسا أسس فيما بعد لما سمي بأدب السجون، حيث عمل الروائي عبدالرحمن منيف، عبرشخصية البطل رجب الذي امتدت شعلة روحه كطائر الفنيق إلى كل من حامد، وعادل، وأنيسة- على فضح المعتقلات السياسية السرية بشرق المتوسط وما يجري بها من تعذيب، وقتل. موظفا مفهوما حديثا عرف بتعبير الباحث عزالدين بونيت سلسلة من التحقيرات خاصة شخصية البطل- وهو مفهوم البطولة التناوبية.وقد أشارإليه عبدالرحمن منيف في مؤلفه "الكاتب والمنفى".

 فإذا كانت الصحراء هي بطلة الرواية في خماسية مدن الملح فإن شرق المتوسط عرفت مظهرا جديدا، وتوظيفا مختلفا لشخصية البطل، تجلى في البطولة التناوبية،  وقدساهم في بنائها كل من أنيسة أخت رجب بطل الرواية، وزوجها حامد، وعادل ابنها.حيث نكتشف على أن البطل رجب حتى وإن تم قهره، وسجنه، وتعذيبه حد القتل. فإن روحه المتقدة الوهاجة تبعث كطائرالفنيق بالتناوب في أجساد، وعقول كل من حامد في البداية فعادل ثم أنيسة في النهاية.

تتألف رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف من ستة فصول تناوب على سردها كل من البطل رجب وأخته أنيسة، وتنطلق أحداثها عبر تقنية الإسترجاع والتذكربرحلة رجب إلى أوروبا بعد خروجه من السجن من أجل العلاج على متن سفينة يونانية اسمها اشيلوس "أشيلوس تهتزوتترجرج"2 وأثناء هذه الرحلة يسترجع رجب ذكرياته الأليمة  بالسجن، وعلاقته بأسرته، ونضال أمه حتى الموت من أجله، فرجب كباقي أبطال روايات منيف، شخص مثقف خريج جامعة يبلغ الثلاثين من العمر،اختارالنضال السياسي من أجل التحرر من التخلف، والظلم، والاستبداد المسلط على الإنسان العربي بدول شرق المتوسط، وهو الأمرالذي يكشفه لنا رجب في الفصول الثلاثة التي قام بسردها عبرالتناوب مع أخته أنيسة.  فالقمع، والظلم كانا سببا في اعتقاله، وتعذيبه، ومرضه بروماتيزم الدم الذي عجل بسقوطه، وتوقيعه التزاما بعدم ممارسة السياسة، ومعارضة النظام مرة أخرى"الحالة ببساطة روماتيزم في الدم"3.

خرج رجب من المعتقل بعد أن أمضى به خمس سنوات كلها تعذيب بوسائل مختلفة  من كهرباء وصفع وضرب، وتعليق بالسقف، واغتصاب وتجويع، وسب وغيرها من الإهانات، وفي الفصول الثلاثة التي سردها بالتناوب مع أخته أنيسة نكتشف عوامل أخرى انضافت إلى مرضه، وساهمت في انكساره. ومن هذه العوامل وفاة أمه التي كانت السند الحقيقي له أثناء اعتقاله، وتخلي هدى حبيبته عنه، وزواجها من غيره. كما ساهمت الأخبارالتي كانت تنقلها له أخته أنيسة عن قصدفي انكساره"أنيسة التي دمرت حياتي جعلت أيامي الأخيرة في السجن جحيما "4

وبعد خروجه من السجن يشعررجب بالحزن، والندم، والألم. وأثناء مكوته بأروبا من أجل العلاج يفكرفي العودة من جديد للنضال السياسي. عبرالكتابة عمايجري من تعذيب للمعتقلين في سجون شرق المتوسط. خاصة كتابة الرواية حيث يطلب رجب من أنيسة، وحامد، وعادل الكتابة لإكمال مشوارالبطولة كبديل عن العمل السياسي المعارض، وكانت كتابة الرواية تشغله بشكل كبير.لما تتميزبه الرواية من خصائص لا تتوفر في الأنواع الأدبية الأخرى كالشعرمثلا. فهو يريد رواية تضمن تتعدد الأصوات، والأحداث، والأبطال، وتفضح الجلاد، وأنظمة الاستبداد بشرق المتوسط" وهذا ما طلبه من أخته أنيسة في إحدى رسائله قائلا"لوكتب حامد، ولوكتبت أنت، ثم أكتب أنا بعد ذلك"5 وتمنى رجب في النهاية لو كانت أمه على قيد الحياة لكي يضيف صوتها إلى هذه الأصوات.

وفي الفصل السادس، وهوالفصل الأخيروأثناء حديث أنيسة عن عودة رجب نرصد انتقال البطولة بوضوح من رجب إلى حامد زوج أنيسة. تقول أنيسة عن زوجها "ولم يتوقف حامد، بدأ يلعب لعبة رجب ذاتها، ولكن بشكل غامض، ومحير، لم يتركوه طويلا، أخذوه، منذ سنة وأربعة شهور أخذوه"6 لتنتقل البطولة بعد القبض على حامد إلى ابنه عادل، وفيها توجه آخرمن الكلمة إلى العمل المسلح على اعتبارأن الكلمة لوحدها غيركافية لمواجهة الإضطهاد، والقمع الممارس على المعتقلين السياسيين بشرق المتوسط ؛ وهوالفهم الذي رفضته أنيسة قائلة"والآن لا أحاول أن امنع عادل فقط، وإنما أردت أن أضربه، هل أخطىء مرة أخرى وأنا أمنعه؟ 7

وبعد عودة رجب، واعتقاله من جديد وموته نتيجة التعذيب، واعتقال زوجها تعود البطولة من جديد لأنيسة أخت رجب، وهذا ماصرحت به قائلة"لكن كما قلت لكم، أنا امرأة خاطئة ، وأريد أن أتبع طريقة رجب ذاتها، أن أدفع الأمورإلى نهايتها، لعل شيئا بعد ذلك يقع " 8 .

 استطاع الروائي عبدالرحمن منيف من خلال رواية "شرق المتوسط" أن يأخذنا بأسلوبه الروائي المشوق لنعيش معاناةالمعتقلين السياسيين في معتقلات شرق المتوسط .مسلطا الضوء على الآثار النفسية والجسدية الجسيمة التي يخلفها التعذيب، مستثمرا بشكل أسطوري البطولة التناوبية، فاضحا لهذه المعتقلات في محاولة للقضاء عليها نهائيا.

هوامش:

"شرق المتوسط  "عبدالرحمن منيف "

الطبعة التاسعة عشرة 2016

المؤسسة العربية للدراسات والنشر

1-"شرق المتوسط" ص8

2- -"شرق المتوسط"ص19

3- "شرق المتوسط" ص21

4-"شرق المتوسط"ص44

5-"شرق المتوسط"ص188

6-"شرق المتوسط"ص243

-7 -"شرق المتوسط" 243

8- " شرق المتوسط " 243

وسوم: العدد 778